الإثنين 25 نوفمبر 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

حصة الجغرافيا

ريشة: نرمين بهاء
ريشة: نرمين بهاء

أسمهان وأخوها التوأم كانا تلميذين متفوقين فى مدرسة خاصة، وفى الحصة الرابعة من صباح يوم شتوى دخلت معلمة الجغرافيا -التى يحبها أغلب التلاميذ - فصلها والذى كان يتكون من اثنين وأربعين تلميذًا وتلميذه شرعت تشرح لهم درسًا جديدًا عن مفهوم الأسرة المصرية، فى عموم مصر وفى منطقتهم خاصة وكانت شمس الضحى العالى مشرقة فى الخارج وينعكس أشعتها على شرفات زجاج الفصل فتهتز أوراق الورد المرسومة على جدران الفصل من الداخل، فأوضحت لهم بأن الأسرة تتكون من الأب والأم والأبناء والأسر الممتدة. ثم طلبت من كل واحد منهم أن يحكى بإيجاز عن أسرته كتطبيق عملى على الدرس.



وشرع الأطفال الخمس فى الصفوف الأمامية للفصل فى الحكى عن أسرهم، وكانت تهز المعلمة رأسها وتشكرهم على الشرح والإضافة، ولما جاء الدور على أسمهان التى كان ترتيبها السادسة طبقا لمقاعد الفصل لتتحدث عن أسرتها.

فقالت: أعيش مع جدتى العجوز وجدى وتحضر عمتى إلينا فى نهاية الأسبوع هى وزوجها وأولادها تعد لنا الطعام ويبقون اليوم كله معنا، وتفرح بهم الجدة والجد، وكثيرا ما حكت الجدة لهم عن أخطائنا أنا وأخى فكانت عند بداية الحكى تضيق علينا الشقة بما رحبت والتى كانت سابقا مرتعًا لنا نمرح بها معا أنا وأخى، وتصغر مقاعد الطعام التى نجلس عليها وتقابلنا الأرجل الخشبية للطاولة فتلتصق بها،  وتجبرنا جدتى على الصعود لأعلى لاستكمال طعامنا والذى كان يحتاج إلى قطرات من الملح كانت تزرفه عيوننا، فيقوم زوج عمتى بتخفيف الألم عنا برفع أخى إلى أعلى ليطول السماء ويضحكه حتى يمنع تساقط دموعه.

أما أنا فقبل أن تلمسنى يداه كنت أسحب أخى وأجرى لكى نتصل بأبى وأمى اللذين يعملان فى أوروبا وينتظران انتهاء الأوراق الخاصة للحصول على الجنسية لهما ثم نسافر إليهما.

وأحيانا أقول لجدى ياأبى عندما تحن أذنى إلى سماعها مثل البنات عندما يبحثن عن والدهن أثناء الخروج من المدرسة، وأحيانا أخرى أنسى وأقولها لزوج عمتى عندما أناديه يا بابا مثلما يناديه أولاده، واختتمت أسمهان كلامها: هذه هى أسرتي.

هنا عقبت المعلمة: وأضافت بأن هناك أنواع كثيرة من الأسر داخل بيوتنا وفى أحيائنا الجديدة. فمثلا هناك أسر يعمل والدها فى الخارج والدتها أيضا والأبناء يقيمون مع الأجداد مثل أسمهان حيوا معى أسمهان التى أضافت إلى معلوماتنا معلومة جديدة لم تضفها كتب الوزارة، وتحدث أربعة تلاميذ آخرين عن أسرهم.

ثم رفع كريم إصبعه للتحدث عن أسرته، وكان تلميذًا مشاغبًا لا يحبه كثير من زملائه فى الفصل ويرفضون حديثه كما يفعل دائما معهم.

قال كريم: إنه يقيم فى شقة من عدة حجرات، وأن جده يحضره من المدرسة كل يوم -رغم كبر سنه- ليدخله شقته التى يقيم فيها مع أمه فقط، والتى دائما ما تحضر فى المساء من عملها، وأن لديه رفقاء خيال يلعبون معه طوال فترات غياب أمه ولهم أسماء واحدة وأجسام واحدة، يجلسون معه فى ساعات غياب أمه ويحكى لهم ويحكون له ويطلق عليهم أحيانا أخوة وأحيانا أبناء عم وأحيانا أبناء خال أو خالات ويظلون معه حتى تحضر أمه من العمل مرهقة متعبة لا تريد سماع صوت حولها، فيجلسون معا بعيدا فى زوايا الحجرات المتعددة حتى تنام الأم فيهرعون إليه يلعبون معه.

وأن والده-الذى يعيش مع زوجته وابنته منها - يغيب عنه كثيرا ويحضر له مرة كل أسبوع فى النادى الاجتماعى البعيد فى البر الثانى من حى الأفرنج، وأنه دائما ما كان يحضر ومعه أخته الصغرى من زوجة أبيه.

يحملها بين يديه ولا يستطيع تقبيلها إلا بعد موافقة أمها التى تصر على الحضور لتراقبه من بعيد، ويقول له إنها بمثابة أمه.

وقال كريم أيضا: أنه كان يعلم بوجود والده أو غيابه قبل أن يدخل النادى لأنه كان يرى ظل لوالده طويلا ممتدا يبتسم له ويفتح له ذراعيه من وراء مبنى النادى الاجتماعى العتيق هذا عندما يكون والده بانتظاره فى الداخل، وكثيرا ما بحث عن ظل والده ولم يره قبل أن يدخل النادي، فيعلم أنه لم يحضر لكى يراه، رغم أن أمه كانت تصر على انتظاره لمدة ثلاث ساعات، وهو يعلم أنه لم يحضر اليوم، وتصر أمه على أن يوقع الموظف المختص بغياب والده أمامه.

وسأل كريم معلمته: ما شكل أسرته التى ينتمى إليها؟

صمتت المعلمة فصمت الفصل كله. 

وقد لاحظت المعلمة رعشة بيديه، وسط سكون الفصل ورأت نظرات الحزن فى عيون الجميع، بعدها تململ التلاميذ فى الفصل، وتجنبوا النظر إليها حتى لا تطلب من أحد منهم التحدث عن أسرته.

فصمتت المعلمة وقالت لهم نكتفى عند هذا الحد لأن فصلنا به أنواع يصعب حصرها من الأسر، ويبدو أننا لا نستطيع التحدث عنها كلها فى حصة اليوم،  وسوف أتحدث مع كل واحد من  أبنائى الخمس وثلاثين الباقين بمفردنا.

وعندما همت المعلمة بغلق إحدى الشرفات المفتوحة فى فصلها،  تراءت لها صورتها وهى تلميذة تبحث عن والدها ولا تجده وتطلب منها معلمتها أن تنتظرها بعد اليوم الدراسى لتعطيها معونة الشتاء لأنها من أبناء الأيتام.

وهنا كانت شمس الشتاء قد توارت ودخلت بعض السحب المعتمة الفصل وأحاطت بالكل، وبدا للجميع أن الأوراق المرسومة على جدران الفصل قد أصبح لونها باهتًا وبعضها قد ذبلت أوراقها ومالت.