الخميس 9 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

قراءة فى رواية ماميلا لميرفت جمعة

أن تشرب من فم الأرض

مشاهد ضد الانسانية والقانون الدولى
مشاهد ضد الانسانية والقانون الدولى

«ماميلا» رواية مهمة للكاتبة الفلسطينية ميرفت جمعة، مزجت فيها بين التاريخ وفنون السرد، فهى رحلة فى المكان، والزمان لأبطال يبحثون عن الخلود، عن مدينتهم المقدسة، القدس، يستعيدون تاريخ المدينة، وحروبها، واستبسال أبنائها فى الدفاع عنها، يتأهبون لتحقيق انتصاراتهم، وتحرير المدينة المقدسة لتعود مثلما كانت فى عهد الناصر صلاح الدين الأيوبى مدينة للسلام والمحبة.



صدرت الرواية عن دار الرعاة للدراسات والنشر، رام الله، فلسطين.

من أسمائها

«ماميلا» أو زيتون المِلّة، أو ماء من الله وكلها من أسمائها تقع فى غرب القدس، قريبة من باب الخليل، وكانت تضم زوايا صوفية منها الزاوية الكبكية، والزاوية القلندرية، وبها أحواش ومغارة قديمة يعود تاريخها إلى العصور الرومانية، واشتهرت بأنها مقبرة «ماميلا» أو «مأمن الله»، وهى مقبرة قديمة جدًا أنشئت فى عهد الخليفة عمر بن الخطاب أثناء فتح المسلمين لبلاد الشام، وعند زيارة الخليفة عمر مدينة بيت المقدس لاستلام مفاتيحها أمر ببناء هذه المقبرة، وقد شهدت «ماميلا» حربين كبيرتين حين احتل الصليبيون بيت المقدس كما شهدت فتوح صلاح الدين الأيوبى ودفن فيها علماء وزهاد وأمراء وولادة وأبناء المدينة الشهداء.

 

غلاف الرواية
غلاف الرواية

 

البطل المنقذ

فى هذا المكان الذى يمتزج فيه التاريخ بحكايات البطولة تنسج مرفت جمعة روايتها التى تتكيء على ميراث جمعى يستدعى المُخلص أو البطل فى أوقات الشدة والأزمات ممثلاً فى شخصية الخِضر» الخالدة فى التراث الدينى والأدبى وفى الفلكور الإنسانى، وهو البطل الذى يتجلى لينقذ النفوس بل يعيد الرأس إلى الجسد، فيحى النفوس كما ورد فى الأساطير الشعبية.

وتجليات حضور «الخضر» أو سلطان الماء نجده فى رواية «ماميلا» مُمثلاً فى عدة شخصيات فقد استلهمته الساردة فى «عابد» حارس المقبرة التاريخية، و«قنديل» والذى تسميه «سيد الماء» فى إشارة واضحة لاستلامها، و«الشيخ ريحان»، و«شهاب».

وقد ظهرت هذه الشخصيات لإنقاذ «كنان» الذى يعمل «عتَّالاً» فى البلدية، يتقاضى أجره من عربى يعمل تحت قيادة قوات الاحتلال الإسرائيلى، «كنان» ينقل ما يؤمر بنقله من «ماميلا» تصطك على ظهره الأشياء فى أكياسها، مناطق فيها كانت حادة، وأخرى منحنية، تصوَّر أنه ينقل قطعًا أثرية من «ماميلا» ربما يريدون استغلالها لصالحهم، ثم قرر أن يكتشف ما يحمل بين نقطتيّ شحن وتفريغ، فوق فعلى جانب الطريق وفتح الكيس الذى يحمله، وهنا تشكلت ملامح مأساته، إنه ينقل عظام وجماجم ورفات أجداده وأسلافه من الشهداء ليبددونها، وهنا تبدأ لحظة إدراكه، إنه الوعى المقترن بالألم الذى لم يتبق له سواه فيقول «كنان»: «قبل دخولى فى هذا الضباب الكثيف كنت أحمل أثقالاً، ويبدو أن هنالك شيء ما قد حدث معى، إجراء سرى يشبه تسليم الأمانات عند الباب، إنما تسليم يتم دون علم منى، وأتوقع أننى سأخرج من هنا من باب آخر، وقد نسيت حاجياتى، سحبوا منى امتدادى العائلى، ودفتر ديونى، بريدى الإلكترونى، وهاتفى، الأسماء، الأحقاد، والآلام أيضًا، ومع ذلك قالت لى بهية أننى كنت أنشد آلامى ليلاً، الآلام هى آخر ما تبقى لى

حفل توقيع
حفل توقيع

 

بداية الدنيا

و«بهية» أول ضحايا الاحتلال، فقد فقدت بيتها فى هذه الحارة على يد جماعة يهودية متطرفة بدأت تلتهم الحارة بيتًا بيتًا، ثم توسعوا حارة حارة ثم مدينة مدينة.

تنصحه «بهية» بأن يذهب ناحية البركة، بركة «ماميلا» حيث قارب «قنديل» تقول له: «إنه رجل مسكين طيب سيعتنى بقلبك، وسيأخذك فى رحلة لن تنساها، وسيعلمك كيف تتعلم بدون أسئلة».

فيسألها: «كيف ذلك؟.. تبًا لأسئلتى فتقول: ستعرف وسترجع إليّ فيسألها من جديد: ما الذى يجعلك واثقة من ذلك؟

وهنا تتبدى («ماميلا» كبداية للدنيا، ومآلها أو هى العالم كما تراها، «بهية» فتقول: «ماميلا» مستديرة، وأنت لن تضيع هنا، آه ولا تنس أن تستحم فى ماء البركة، ليس فقط تراب «ماميلا» من الجنة، ماؤها أيضًا شفاف كأنهار الجنة»).

سيد الماء

يذهب «كنان» البطل المأزوم إلى «قنديل» سيد الماء، ليغتسل من ذنبه ويبرأ منه، فقد نقل رفات أسلافه مقابل حفنة من الماء، ثائرًا على نفسه مُحدثها فى مونولوج داخلى: «أنا العَتّال ذو البزة الرمادية الذى كان سيكنس تاريخ الحقيقة، ويساعد اللصوص، وهم يبدلون تراب «ماميلا» النقى المسقى بالدم الحار ببلاط مُرقش، وأراجيح، ومراحيض، ومتنزهات كلاب، ومقاهى خمور، وأماكن فجور».

الأطفال ضحايا تدمير قوات الاحتلال
الأطفال ضحايا تدمير قوات الاحتلال

 

يذهب «كنان» مأزومًا إلى «قنديل» الذى يفهمه ويدرك مأساته فيقول لكنان:

فى الإلياذة: بغصن زيتون مشروب بماء نقى، كانوا يرشون كل الخاطئين برذاذ خفيف، يتطهرون، أنت محظوظ، وجدت فى أطهر بقعة فى الدنيا لتعتذر عن خطئك، اعتبرها رحلة روحية يا أخى، تماهى مع الأشياء.

وهكذا يطل سيد الماء على «كنان» لينقذه من يأس نفسه، ليدله على الطريق، وطريقه التسهر والوصول المعرفى، وتصف الساردة ذلك فتقول: «قنديل» يتغزل بالماء، بكل ذرة من كيانه، يذوب فى عناصره، يصبح هو ماء أو يكاد.

لذا فهو ينصح «كنان» بأن ينصت للماء معزوفة كونية، ومن لا يعزف تنساه الحياة.

بطريقة تبعث على الفرح

يدرك «كنان» بأنه بين يدى العارف الصالح »قنديل»، فيصغى للماء ودرسه، فيكتشف سحر بركة «ماميلا»، وقدرة الماء ومعجزته فيقول:

لا شيء يسرق من هذه البركة عذوبتها، يبدو أن التراب حولها امتص كل شوائبها، كان الماء عذبا جدا، عذبا بطريقة تبعث على الفرح، يمدنى بشباب لا يجف، ولا ينضب نبعه، مثل «قنديل» المشرب بالعذوبة، بدا لى أن هذه البركة ابنة مياه أعمق وأعرق نسبا، وكأن بحيرة كبيرة سكنت عمق هذا الحوض المقدس، وتراكمت حول الحوض نسقا بعد نسق، أرواح ظامئة،للمرة الأولى سأشرب الماء من فم الأرض، تذكرت عطشى الشديد المكسور بشاى مر، غرفت غرفة بيدى، وشربت من هذه البركة.

وكأن «قنديل» هو الذى علم «كنان» سر الماء، فهو ضد الفناء، وحضور «الخضر» برمزيته فهو صاحب النهر المنساب للخلود فى عالم الظلام، هو مخضر النبات، وصاحب ماء الخلود كما يرد ذكره فى الحكايات الشعبية كما يقول محمد أبو الفضل بدران فى كتابه «الخضر فى التراث العالمى».

الكاتبة ميرفت جمعة
الكاتبة ميرفت جمعة

 

ومع هذه المعجزة متمثلة فى سر الماء، تتحول شخصية «كنان» ويزداد إدراكه عمقا، فيحس بقداسة ماء «ماميلا»، ويستشعر قرابة الماء التى ترمز إلى عمق الشعور بالانتماء فيقول:

شعور مبهم غريب، وكأن الماء وحدنى بلحظة معه، ومع الأشياء كلها، مع «قنديل» أيضا، مع خشب ذلك القارب المبتل، هو مثلى كان يشرب حد الارتواء، انطفأ ظمئى، أصبح بيننا جميعا قرابة ماء، شربت كنبتة صحراوية تقدر قيمة القطرة العذبة، منذ قليل فقط كان الكون كله محل شك وريبة، الآن يؤلف الماء بيننا جميعا، قلت لقنديل، والماء يكسو وجهى ووجهه: حقا، من شأن هذه البركة أن تطهر العالم لو شاءت.

رحلة فى الزمن

اختفى قنديل ليظهر «شهاب» فى تجل جديد لرمزية «الخضر» الذى يظهر بتجليات عديدة ليكشف الأزمة، ويجلو العتمة، ويصطحب «كنان» فى رحلة إلى الزمن الماضى ليعيده ليكون فارسا فى المستقبل، «كنان» الذى يرى نفسه وهو يأكل «البرغر» ويستطيع فقط ذبح شريحة برتقال فهو ابن القرن الحادى والعشرين فهل حقا سيعلمه «شهاب» فنون القتال؟ فيتحول من «عتال» يعمل فى البلدية إلى فارس يصول ويجول بسيف ورمح، يسأل كنان نفسه فيقول:

بدا لى كل ذلك كأنه حدث قبل ألف عام من الآن، وهو كذلك، بدأت أحس أن كل ما مضى من حياتى يقبع فى ركن آخر من الكون، وأن فكرة الإمساك بذاكرتى الهاربة باتت مستحيلة تماما.

مساعدات مصرية لا تتوقف للفلسطينيين
مساعدات مصرية لا تتوقف للفلسطينيين

 

رحلة فى المكان

ويأخذه شهاب فى رحلة عبر الزمن إلى الماضى ليريه ملامح مدينته المقدسة «القدس» وكأنهما يطيران على حصان مجنح، هو فرس «شهاب» فيطوفان بنا لنتعرف على المكان، على المدينة المقدسة بشوارعها، وأسواقها، ومجاليها وكأن الرحلة فى الزمن تأهيل لكنان الذى تتطور شخصيته من عامل بسيط يحمل وينقل ما يؤمر به إلى حامل الميراث المدينة، وتاريخها، وأ أكتافه العريضة لتحمل شوارعها وأحياءها، بينما يستقر مسجدها الأقصى فى مكان القلب.

فيصف «كنان» مراحل الرحلة مع «شهاب» الذى لا يخفى ما فى اسمه من طاقة ضوء وإيحاء بالكشف والنورانية:

وكان سوق المدينة على حاله كما أعرفه أو الأصح أن أقول الشوارع بأيامى تماما كما تسلمناها من القدماء، ثلاثة شوارع متوازية، تحتضن الكثير من الأسواق، سوق العشابين، وتمشى فيه محمولا بخيط بخور شرقى، ورائحة التوابل والأعشاب الطبية، وعن يمينك وشمالك به محلات الصاغة، الجهة اليسرى للاتين، واليمنى للمحليين، فى نهايته تجد سوق السمك، ثم سوق الطيور والبيض والجبن، إنما كل شيء مجلى كأنها لوحة جديدة، قلت له: كما هى يا «شهاب» غير أن بلاط زمانى مختلف، وبالطبع عدد الدكاكين أكبر، أما محلات الصاغة فبقيت ممتدة على امتداد باب السلسلة.

وتحرص الساردة على تطعيم السرد والوصف ببعد تاريخى يصف العمق الزمنى للأمكنة حتى فى تفاصيل أسواق المدينة المقدسة فيسأل «كنان» شهاب عن أحد أسواقها «سوق الطباخين» فيقول له شهاب:

إنه السوق الذى بنى بأمر الملكة «ميسلند» أم الملك «بلديون» وأخذه شرقا إلى سوق الطباخين حيث كان الحجاج المسيحيين يغسلون رؤوسهم قبل دخول كنيسة القيامة، وهناك يبيع التجار فى دكاكين صغيرة: الشمع، والصدف، والكتب الدينية، فيقول «كنان»:

تأكدت أن ملامح هذا المكان متغيرة، لكننى لم أقل له ذلك، وانعطف بعدها به إلى سوق القماش، وهو يتبع السريان، كان الباعة بوجوههم الملونة يصطفون على الجانبين، يبيعون الأمتعة، والكلام الجميل المنمق، ويصنعون الشموع.

صدمة شهاب

وفى الرحلة يرغب «كنان» فى دخول المسجد الأقصى فيقول له «شهاب» أنه لابد من تصريح دخول، فتصيب الدهشة «كنان» فيقول: «تصريح دخول؟، تماما كما يحدث فى زمنى»، لم يبق سوى أن تقول لى أن لديكم «معاطة»!

- والمعاطة هو اسم شعبى يطلقه الفلسطينيون على بوابة الاحتلال الدائرية التى يجبرون على المرور بها، على كل حاجز مرتين فى اليوم، والمعاطة هى التى يتم فيها فصل ريش الدجاج عن بقية جسمه.

وهنا يشعر «شهاب» بالصدمة فيقول لكنان: «لابد وأنك تهذى، أمازالت «القدس» تحت قبضة الفرنجة حتى يومكم؟، لا أعتقد ذلك.

فيقول «كنان» حزينا: «القدس محتلة للأسف، والأعداء متشابهون كثيرا، نفس طريقة البطش، نفس الكمية من القهر).

رتل من الشاحنات التى تحمل مساعدات لغزة
رتل من الشاحنات التى تحمل مساعدات لغزة

 

كل الحوادث تدفع«كنان» لتعلم فنون القتال، مشاهد من زمن فات لجميلات بعن شعورهن لافتداء إخوتهن، وأبنائهن وأزواجهن من الأسر أثناء الحروب الصليبية التى استشهد فيها سبعون ألف مسلم من الرجال والنساء والأطفال ودفنوا فى «ماميلا»، وها هى خصلات شعور النساء تتحول لمشانق تلوح فى مكان بعيد فيقرر «كنان» أن يغادر دور العتال، ويؤمن بدوره كفارس مقاتل.

ما النار إلا حب مباغت

لكن «كنان» يريد أن يرى «جورية» التى أحبها قبل أن يمضى للقتال، يقول لشهاب إنه لايريد أن يقتل دون ملاقاتها، وهنا يظهر بعد آخر اقترن بالخضر فى حكايات شعبية مثل ألف ليلة وليلة وهو جمع شمل المتحابين كما فى قصة عبدالله بن فاضل ومحبوبته التى انتظرته أعواما فيجمع بينهما الخضر لإخلاصهما معا.

فيقول «شهاب»: (امش باتجاه النار، تجد «جورية» هناك، ما النار إلا حب مباغت).

فمشى «كنان» متبعا حدسه يقول:

للروح عيون واسعة متفتحة، ومن يتبع عيون روحه لايضيع أبداً، ومن يتبع عيون روحه لايضيع أبداً، كانت تمشى فى الاتجاه المقابل بنفس طريقتى ما تبحث عنه يبحث عنك، وكلانا يبحث عن الحب، وهكذا التقينا.

من أجل هذه المدينة

ويكتشف «كنان» أسرار «ماميلا» التى عاش فيها عتالا، لا تعدو عيناه الكيس الذى يحمله على ظهره، تنكشف له الرؤى، وعظمة المدينة، وما يحيط بها من أسرار، وتواريخ فيقول:

باسم الحب، وباسم الدين، وباسم التاريخ، هنا كانوا جميعا مقاتلين، وحجاج، وتجار، من السريان، والأرمن، واليونانيين، واليعاقبة، واليهود، والأكراد، كلهم كانوا هنا، ثم اختلطوا بتراب هذه الأرض، ما سر هذه المدينة؟ كانت «ماميلا» قد احتضنت أبناء المدينة المقدسة على مر الزمان، ودونت تاريخهم بكل أمانة ودقة، على شواهد منفصلة، وأحيانا على جسدها الترابى، وإن اختفت الشواهد، ومازالت واقفة غير بعيد مترامية الأطراف، فاتحة أبوابها جميعا كدعوة مغرية للموت فى هذا المكان المقدس، من فوق تلاحظ عشوائية القبور، وانكسارها، ومدى التكدس الحاصل، تشعر أن المقبرة تحمل أكثر من أربع طبقات من الموت.

عابد حارس حقيقى

استبسل «كنان» و«شهاب» فى القتال، وتراءى «عابد» لكنان وهو يقول له: «حين يفقد الإنسان خوفه من الموت لن يستطيع أحد أن يهزمه»، وهنا تظهر رمزية «الخضر» التى تتجلى فى العديد من الشخصيات، وهى تتجلى فى ساحة المعارك فقد ظهر «عابد»، وأعطاه خوذة من «جورية»، قال له: تنتظرك كما تفعل العرائس، لا تعد مهزومًا، ويهتف «كنان» من قلب مفعم بالنصر:

أصبحت خوزتى «جورية»، وسيفى «شهاب»، ولهذا انتصرت».

لكنه صدم عندما غافل أحدهم «شهاب»، وطعنه، فمضى ليبحث عنه ثم ليحمله على ظهره، ووصل إلى فرسه، وهنا يشف نسيج السرد فيمتزج بالشعر والحزن والألم معًا فينشد «كنان» من شعر محمود درويش الشاعر الفلسطينى هذه الأبيات:

لست سوى رمية نرد/ ما بين مفترش وفريسة/ ربحت مزيدًا من الصحو/ لا لأكون سعيدًا بليلتى المقمرة/ بل لكى أشهر المجزرة/ ومشى الخوف بى ومشيت به/ حافيًا، ناسيًا ذكرياتى الصغيرة عما أريد/ من الغد/ لا وقت للغد/ ومن حسن حظى أن الذئاب اختفت من هناك/ لا دور لى فى حياتى».

وحين يغرق «كنان» فى أحزانه يظهر «عابد» منقذًا فيقول له: «الآن عليك أن تنزل فى الماء لتنطفئ جروحك هيا، لا تضيع الوقت».

«عابد» هو حارس المقبرة الحقيقى، حارس «ماميلا»، والذى يقول عن نفسه أنه يتطوع ليساعد الموتى الجدد ليتأقلموا مع فكرة الموت.

البشارة

وبعد هذا الاقتتال، وبعد هذه الشهادة التى تعطرت بها الأرض المقدسة، وغياب «شهاب» فى فراديس «ماميلا» يظهر «عابد» من جديد مُبشرًا بالنصر، يظهر من عمق الزمن ليقول بشارته:

«تحررت القدس، مكتوب لك فى ظهر الغيب صلاة عزيزة فى المسجد الأقصي»، فيصف «كنان» نفسه ساعة البشارة فيقول: «كنت أرتجف من رأسى الطرى بفعل مياه «ماميلا»، وحتى أخمص قدمى المتيممة بترابها، سألته من حررها، فقال: الفرسان: قائدنا الناصر صلاح الدين الأيوبي».

أسئلة عاصفة

ورغم الارتحال إلى زمن النصر، يظل قلب «كنان» مُعلقًا بحاضره، وتظل أسئلته تعصف بقلبه، يود أن يظل فى رحاب هذا الماضى المنتصر، لكن يؤلمه ويجرحه زمنه بما حدث فيه من احتلال للأرض المقدسة، فيظهر «جلعاد»، و«رافي»، و«ناحوم» وقد لوثوا المقبرة، فتهتف الذات المتألمة، والمؤنبة فى نفس «كينان» فيقول: «ماذا عليّ أن أقول لهؤلاء الناصريين «الذين حققوا النصر بقيادة صلاح الدين الأيوبي»، ماذا أقول إن سألونى عن حال «القدس» بعدهم؟، وكيف أقول إن «القدس» ضاعت من جديد؟، أن دمهم الذى أريق، وأجسادهم التى تجللت ذهبت سُدي؟، كيف أقول أننا محرومون من الصلاة، وإن طقوسًا قبالية تقام فوق سجادات الفاروق، لن أفعل».

الزمان مرتب فى مسبحة

وفى هذه اللحظة الأزمة يظهر الشيخ «ريحان» كأنه تجل مهم أخير لإنقاذ «كينان»، والتبشير بالمستقبل، بل لإعادة الجسد إلى الرأس، فكينان الذى طعنه «جلعاد»، وكاد أن يقضى نحبه، يعود للحياة من جديد، ويظهر الشيخ «ريحان» الذى يصطحبه إلى المسجد الأقصى فيصليان فيه وترتسم صورته  بأعيننا: «إنه المسجد الأقصى بقبابه، وأعمدته، وأحجاره الكريمة، بالنقوش، والساحات، والمآذن، والكنائس، والملائكة تمشى بين الناس، والزمان مُرتب فى مسبحة، كل شيء مثبت حيث يجب أن يكون، كما أراد له الله، تراتيل القراء تُرتب إيقاع الكون، لست فى «ماميلا» ولست فى قبر، أنا فى الجنة».

لقد عرف «كينان» سر الأرض، وسحر مائها المقدس، وأول الطريق لتحرير «القدس»، ونجحت الساردة فى توظيف المخزون الحاضر فى الوعى الجمعى، ورموز دالة فى التراث الدينى والشعبى لتمزية التاريخ بالواقع المعيش، ومجد الماضى بانتظار تحققه فى المستقبل القريب.