الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

رحلة داعشية فى دوامة الخطايا

«على حافة بستان زيتون عند حدود تركيا وسوريا، وقفت سامنثا سالى معلقة العينين بزوجها إذ يسرع متقدمًا فى الأسود الحالك حاملًا ابنتهما الصغيرة وعلى ظهره حقيبة فيها جواز سفر سامنثا الأمريكى وكل ما ادخر الزوجان فى حياتهما، وفى غضون ثوان لن تميزهما فى العتمة الشاسعة فلا تراهما بعدها أبدًا».



 

«خطر لها أنها لو استطاعت استرداد ابنتها لعبرت الحدود راجعة إلى تركيا ببساطة ثم إنديانا. فى بلادها أمريكا تقدمت خطوات قليلات وصاح عليها زوجها لكى تسرع فبدأت تتحرك بمزيد من السرعة متبعة صوته فى الليل الحالك، وتعثرت فى بضع صخور وحشائش وهى تجرى ولا ترى أى شيء. قالت فلألحق به ثم لأرى حينئذ ماذا سأفعل، ولو أن العبور إلى سوريا كان بهذا اليسر، فكم تبلغ صعوبة الرجوع منها؟».

ما سبق هو مقتطف من كتاب الصحفية الأمريكية جيسيكا روى الصادر أخيرًا بعنوان «فتاتان من أمريكا: رحلة امرأة إلى الدولة الإسلامية وكفاح أختها لإرجاعها إلى الوطن».

تقترح سيوارد داربى فى استعراض للكتاب الذى نشرته نيويورك تايمز الشهر الجارى، أن يهتم بالكتاب المخرجين والنجوم فى هوليوود لأنه يصلح قصة سينمائية وقالت: «فلدينا الشقيقتان سام ولورى من منطقة الأوزارك، نشأتا على تعاليم (شهود يهوه) الصارمة، وفى سن المراهقة تخلتا عن عقيدتهما وتزوجتا بأخوين من مواليد المغرب هما موسى وياسين الحسانى اللذان تبين أنهما شخصان مستبدان وعنيفان، وانتهى زواج لورى وياسين بالطلاق وبقيت سام مع موسى، وفى عام 2015 تبعته من بيتهما فى إنديانا الأمريكية إلى سوريا، وقد تطرف موسى بأثر من دعاية الإنترنت وأصبح مقاتلًا فى (داعش)».

 

 

 

إنسانى مرعب

تكتب روى، «تعرفت للمرة الأولى على قصة سام ولورى سنة 2019 حينما كنت أعمل على موضوع لمجلة إيل عن الأختين، سام التى عبرت الحدود إلى سوريا رفقة زوجها الإرهابى، ولورى التى بذلت كل ما فى وسعها لإعادة أختها إلى أمان الوطن.

وفى ذلك الوقت كنت أحسب أن قصة سام محض حكاية بسيطة من حكايات التطرف الدينى، ثم لم يمض وقت يذكر حتى أدركت أن القصة تنطوى على ما هو أكثر من ذلك بكثير».

تقول المؤلفة إن «سام اصطحبت ابنيها وأنجبت اثنين آخرين فى سوريا واشترت هى وموسى طفلات إيزيديات أصبحن إماء جنسيات لموسى، ولم تتصل سام بلورى إلى أن قررت أن تهرب من (داعش) وتسنى لها ذلك عند علاج موسى فى المستشفى بعد إصابته خلال ضربة جوية. وقد لقى مصرعه فى النهاية فى ميدان القتال. وتقضى سام حاليًا حكمًا بالسجن فى الولايات المتحدة لتقديمها دعمًا ماليًا لجماعة إرهابية».

أما روى المؤلفة فهى صحفية ومديرة سابقة لمجلة (إيل) وتعتمد فى كتابها هذا على الدراما الأصيلة فى حكايتها، جاعلة من كتابها قصة أغرب من الخيال، فيها مشاهد قسوة مريعة ويأس سافر، غير أن الكتاب يبلغ أقصى درجات قوته حينما تلقى روى الضوء على الجوانب التى يمكن أن يشترك فيها القراء مع قصة الأختين، ومن ذلك قولها فى جملة لا تنسى إن (المراوحة بين الغضب والتسامح هى جوهر الأخوة)».

«تعرضت كلتا الأختين لسوء المعاملة وكراهية النساء والفقر، لكن إحداهما فقط هى التى تورطت فى منظمة إرهابية سيئة السمعة، وتسعى روى إلى فهم السبب».

«تتضح الفكرة فى فقرات تتأمل فيها روى تورط سام فى أخطاء جنائية وتصف نفسها بـ«الحمقاء» التى ارتكبت غلطات شنيعة، وبأنها زوجة مقهورة أرغمها موسى على الذهاب إلى سوريا حيث تعذبت وتعرضت للاغتصاب من مقاتلين آخرين فى (داعش)».

كتبت سام فى يومياتها بعد اعتقالها فى نوفمبر سنة 2017 (أنا لست إرهابية)، لكنها تعترف بمعاونتها لزوجها فى شراء طفلات ورغم ذلك تصر على أنها ما فعلت ذلك إلا لتنقذهن، فتكتب (لن أعتذر أبدًا أنى فتحت لأولئك البنات بيتي).

ولا تخفى روى، بحسب ما تكتب داربى، صعوبة التعرف على ما يمكن تصديقه فى حكاية سام، «فلا يمكن الاطمئنان إلى البشر فى رواياتهم لحياتهم، وبخاصة حينما يحكون لإنقاذ أنفسهم».

وسامنثا، وفقًا للصورة التى ترسمها روى، فى الكتاب» ماكرة وساذجة فى آن واحد، تخطئ فى حق الآخرين ويخطئ الآخرون فى حقها، ضحية وإرهابية ومتوحشة وأم، أما سام مرعب».

تقول داربى إن الخلاصة التى يمكن الخروج بها، من تلك القصص أن هناك «مسارات متباينة يسلكها الناس وصولًا إلى الحركات المتطرفة، إذ تسرد روى حكايات عدد من الأمريكيين الذين انضموا إلى جماعات الإرهاب الأجنبية، وتلمح إلى صعود مد الكراهية اليمينية التى كان يسهل جدًا أن تمضى بسام، إلى مسار مختلف.

وعندما نشرت مجلة «إيل» مقتطفات من الكتاب تساءلت: «كيف لأم شابة من أركانسو، فى الولايات المتحدة وهى امرأة درجت على ارتياد الحانات والاستماع إلى الأغانى ونشر الميمز فى (فيسبوك)، أن تنتهى فى منطقة حربية فى النصف الآخر من العالم؟ حيث التطرف والقتل؟ كيف تنشأ امرأة فى وسط الولايات المتحدة الأمريكية محاطة بمتاجر وولمارت والساعات السعيدة التى تخفض فيها الحانات أسعار الشراب ومباريات الكرة، لينتهى الحال إلى الحياة فى سوريا فى ظل حكم جماعة إرهابية قاتلة؟».

تقول محررة «إيل» إن المؤلفة تحاول فى كتابها أن تجيب عن هذين السؤالين من خلال تعقب الأختين لورى وسام كل فى رحلتها منذ النشأة وسط «شهود يهوه» فى الغرب الأوسط الأمريكى، وحتى رحيل سام إلى سوريا و«داعش».

وبناء على تقارير صحفية الواقع, يحاول الكتاب أن يبين كيف تبرز رابطة الأخوة، وسط تجارب الفقر والتطرف الدينى وإساءة المعاملة من الأبوين، بوصفها الأكثر تعقيدًا على الإطلاق بين جميع التجارب.

وكما تقول المؤلفة فإن سام وزوجها موسى وصلا إلى الحدود السورية التركية فيما اتجه موسى باتجاه الرقة، عاصمة (داعش) «وقتها، وكان ذلك فى لحظة ما من عام 2015، وقتما أعلنت (داعش) نفسها خلافة تقاتل من أجل الاستيلاء على أراض فى العراق وسوريا وتنشر دعاية على الإنترنت لاجتذاب مقاتلين، واعدة إياهم بالثروة والنساء (فى الدنيا) ثم بالفردوس والنعيم (فى الآخرة)».

وأضافت روى أن سام حكت عن اللحظة التى قضتها على الحدود التركية - السورية باعتبارها اللحظة التى تبدل فيها كل شيء، «فهناك فهمت أخيرًا أن زوجها قد تطرف وأنها تنضم إلى (داعش)، وأنها ماضية إلى ذلك بابنتها».

 

 

 

وتضيف روى أن «النساء يأتمرن بأوامر أزواجهن لأنواع شتى من الأسباب حتى حين يعلمن أنه لا يجدر بهن ذلك، ففى بعض الأحيان يتراكم الخطر ببطء بالغ فلا يكون محسوسًا، ففى ليلة عبورموسى مع زوجته الحدود السورية تسارع الإيقاع ومضى كل شيء بسرعة بالغة، وأخذ موسى يغوص بالأسرة فى المجهول، وفى المجهول فقدت سام القدرة على التفكير».

خيمة الأسيرات

قبل عام من نشر جيسيكا روى قصة الأختين فى مجلة «إيل»، كانت «ذى نيويوركر» نشرت تقريرًا صحفيًا أحدث ضجة هو الآخر كان عنوانه «الناجيات من (بوكو حرام) يرجعن إلى خاطفيهن».

صحيح أن «بوكو حرام» ليست «داعش» وأن العائدات إلى خاطفيهن إفريقيات لا غربيات، لكن هناك قواسم مشتركة بين الجماعتين الإرهابيتين، وافترض بداهة وجود قواسم مشتركة بين البشر، سواء ولدن محاطات بمتاجر وولمارت أم بأدغال إفريقيا.

فى تقرير «ذى نيويوركر» حكت الروائية النيجيرية أدوبى تريشيا نوبانى عن بعض زوجات قيادات «بوكو حرام» ممن أنقذتهن حملات حكومية بدأت عام 2015، ومن هؤلاء عائشة التى كانت رابعة زوجات أحد القادة، والتى كانت أيضًا كما «أميرة» ينوب عنها عشرات الخدم فى كل شيء إلا واحدًا. تقول عائشة، «كانت المهمة الوحيدة التى لا أسمح لهن بالقيام بها بدلًا منى هى تجهيز الطعام لزوجى، وكنت أفضل أن أفعل هذا بنفسى»، وكانت بحسب ما تحكى نوبانى «تطرد كل جارية يبدو أنها تضع عينها على نور (زوجها) وتردها إلى خيمة الأسيرات».

تقول أدوبى تريشيا نوبانى إن عائشة «لم تكن الأسيرة الوحيدة التى بدأت تتماهى مع خاطفيها»، فهناك زارا جون، وهى فتاة اختطفت فى الرابعة عشرة من العمر بعد أن «رأت المسلحين يحرقون بيوت قريتها ويقتلون رجالها»، ثم أركبوها مع أمها ونساء آخريات فى شاحنة، وفى الطريق سقطت الأم من الشاحنة فظلت تجرى وراءها، أو وراء ابنتها بالأحرى، لأميال قبل أن تيأس من اللحاق، وعند وصول الركب إلى مقر «بوكو حرام» قيل للنساء إنهن الآن جاريات، وهناك أكلت زارا وجبة الدابينو الذى يحتوى أساسًا على بلح.

كتبت نوبانى أن زارا «موقنة بأن ذلك التمر كان فيه سحر، وأنه المسئول عن تغير مشاعرها تجاه (بوكو حرام) خلال أسرها، وتقول (لم أكن بعقلى السليم)».

وقالت: «بات ينظر إلى زوجات قادة (بوكو حرام) السابقات بارتياب بعد رجوعهن، وعومل أبناؤهن معاملة المنبوذين، فهم ضحايا خرافة ترى أن كل من يولد لأب من (بوكو حرام) يرث ميوله إلى القتل، ووصمة العار أشد على من تزوجن من (بوكو حرام) طوعًا»، ولعل فى هذا ما يفسر رغبة بعض الناجيات فى العودة لما نجون منه.

ظنى هو أن الحقيقة تقع فى موضع ما بين سام وعائشة، فلا نساء «داعش» كلهن ضحايا مخدوعات مغلوبات على أمرهن، ولا هن مفتونات طاب لهن تمر الإرهابيين، وظنى أنه ما من حقيقة واحدة، وإنما هى حقائق بعدد النساء اللاتى تمتلئ بهن معسكرات وسجون ومن فى عهدتهن من أطفال، فلكل حكاية مهما اشتركت فى تفاصيل مع غيرها تبقى مختلفة، ومهما ظننا فيها من أكاذيب فلا يمكن أن نعثر بعيدًا منها على الحقيقة.