الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

ألا تكفى النية الحسنة لإلغاء الرقابة؟!

موضوع الرقابة على السينما حاضر وبقوة فى كل دراسة مناقشة تدور حول صناعة وتداول الفن السينمائى، وفى كل برنامج ومرجع يتابع القضية ذاتها، فموضوع الرقابة حساس جدًا ويتطرق لمسائل تخص الحريات والدين والآداب العامة وأصول الفن، فعلى الترتيب إلى أى مدى يمكن استخلاص حريتك من براثن الرقيب المتزمت؟ وإلى أى درجة يُسرف الرقيب المتحرر فى إطلاق أيدى صنّاع الفيلم فى عصر الديمقراطية والعولمة؟ وماذا عن استخدام الدين كخط رئيس فى العمل، أو حتى الاقتراب منه بحذر فى بعض المناطق؟ وماذا عن العلاقة بين الأديان؟ وكيف تتعامل الرقابة مع أخلاقيات المجتمع؟ فالموضوع فى إيران غيره فى مصر، ويختلف عنه فى أوروبا أو اليابان. البعض فى بلدان - مثل بعض البلاد العربية - يجادل فى حذف القبلات من الأفلام التى أجازتها فى عهود سابقة. وفى بلدان أخرى يهبط التحذير العمرى من 18إلى 16 أو يرتفع إلى 21، ومجتمعات أخرى تستخدم الأفلام الإباحية فى خط السينما التجارى المملوك للدولة. وقد يقرر الرقيب رفض الفيلم لا لشيء إلا لضعفه الفنى، مع أن هذا الأمر يمكن الدفاع عنه بحجة أنها مسألة نسبية. 



 

 

 

 

شعار أجوف أم مبدأ حازم؟

حين وُجهَّت الدعوة إلى عدد كبير من الشخصيات للكتابة فى هذا الموضوع المتجدد والقضية المفتوحة، لتقديم آرائها وتصوراتها، متسائلين: وما الجديد الذى يدفعنا إلى مناقشة تصّور مستحدث للرقابة؟ سؤال استنكارى يتظاهر بالدهشة ويسهل اتهام أصحابه بالوقوع فى غياهب لامبالاة ثقافة الخوف. وتولى الكاتب والناقد حسين بيومى مهمة جمع مقالات كّتاب هم من هم فى مجال النقد السينمائى، أسماء تضم محمود على، وأمير العمرى، وهاشم النحاس، ود.صبحى شفيق، وسلوى بكر، ونجيب محفوظ شخصيًا! وتوفيق صالح وعطيات الأبنودى ومحمد ملص وحسن محمود إبراهيم، ومناقشة على أبو شادى، ود.مدكور ثابت وأتم جمع هذه الحصيلة الثرية فى كتاب مهم أسماه (الرقابة على السينما.. القيود والحدود) صدر عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، قال فى مقدمته ما معناه أن البحث عن مفهوم أو تصور مختلف للرقابة يعنى ضمنًا القبول بوجود (رقابة) وإن كنا بالطبع نرفض تمامًا وجود وصاية. ونحن نعى هذا التمييز بكل وضوح. فإلغاء الرقابة بكل أشكالها وصورها فضلًا عن إلغاء قوانينها وتشريعاتها حلم يستحيل تحقيقه كاملًا الآن، وبالتالى فإن المطالبة الفورية بإنجازه شعار أجوف وفوضوى.

ولأننا ندرك حدود الحرية ودواعى الضرورة، وما دام أنه ليس بإمكاننا تحقيق المطلق فعلينا الصراع من أجل تحقيق النسبى أو الممكن. وعلى سبيل المثال، قد يجد مطلب إلغاء رقابة الدولة على السينما، والبحث عن نظام مختلف يتكون من هيئة رقابية غير خاضعة مستقلة، صدى كبيرًا لدى الكثير من الباحثين عن تغيير فعلى يحقق الحرية المنشودة دون وصاية من السلطة الحاكمة، ويعتبر هذا الكتاب هو أول كتاب يخصص بالكامل لمناقشة وبحث قضية الرقابة على السينما خصوصًا مع تقنيات العصر الحديث من خلال التطور الكبير فى صناعة الأفلام وفنون الصورة خلال السنوات الأخيرة بدءًا من ظهور الفيديو وانتشاره فى أواخر السبعينيات والثمانينيات، ثم انتشار القنوات الفضائية التى أعطيت بعدًا جديدًا لمسألة العرض الجماهيرى، علاوة على اختراع الكاميرا الرقمية التى جعلت من كل واحد مشروع مخرج صغير، ومع تطوير تقنيات الإنترنت ورفع الملفات أصبح هذا المخرج المحتمل قادرًا على عرض أعماله مع جمهوره الصغير. فضلًا عن طفرة عصر الكمبيوتر وتحديث استقبال الصورة واللقطات من خلال الاتصال المباشر بواسطة الأقمار الصناعية، فأصبح بمقدورنا الحصول على الأفلام حسب الطلب على شاشات الكمبيوتر المنزلى ومشاهدتها (أون لاين) من مصادرها الأصلية. 

 

 

 

كل هذه التطورات المتسارعة أثّرت بشكل حاد فى مفهوم الرقابة العتيق ومعناه التقليدى مما يتطلب إعادة النظر فى مفاهيم عمل الرقيب ومن وراءه الجهاز الرقابى ككل. كما أن للرقابة دورًا تظن أنه سياسى، فمع تصوير مشاهد التحرّك إلى الحرب عرض المخرج العالمى بيسكاتور فيلمًا لعرض عسكرى للعروش الملكية الأوروبية، بينما كان فيلم ليبكينشت يوزع منشورات مناهضة للحرب عام 1913، ثم تلاه عرض لاجتماع الحزب الديمقراطى الاجتماعى فى ألمانيا، وفيه احتج ليبكينشت على دق قبول الحرب، وعند التصويت على رفع قروض الحرب ظهر على الفور فيلم أرشيفى لمذبحة على الجبهة تصوّر هجمات قذف الحمم النارية وأكوام الجثث المشوهة والمدن المحترقة. تحدى بيسكاتور الرقابة بفكرة أن أفلام الحرب لم تصل بعد إلى درجة الموضة، لذلك كان لتلك الصور أثر فى جماهير البروليتاريا أكبر من مائة منشور أو محاضرة. هذا وكيف تصّدت الرقابة فى إسرائيل لفيلم (وداعًا أمهات) عن قصة حب بين شاب مسلم (المهدى ابن بنشقرون) وفتاة يهودية (إليان بنت شوشانة) ينحدران من أسرتين مغربيتين كما هو واضح من الأسماء ومن حرص المؤلف على تخفيف الصدمة، أسرة مسلمة والأخرى يهودية كانتا تنعمان بحياة حافلة بالهدوء والانسجام لكن سرعان ما ينتهى مشروع قصة الحب والتفاهم بالفشل الذريع بسبب الاختلاف الدينى والسياسى، كما يفشل الصديقان اليهودى هنرى والمسلم إبراهيم ويخرب المعمل المشترك بينهما. الفيلم يعود إلى ستينيات القرن السابق (سنوات الهجرة السوداء بالنسبة لليهود). لم تنس الرقابة هذه النقطة التى كانت كغصة فى الحلق جعلتها تتصدى للعمل. 

 

احتياجات بصرية جديدة

لقد وثقت جماعة السينما الجديدة فى مصر أوائل السبعينيات فى منشورها أن إنشاء الرقابة على الأفلام فى مصر فى أوائل الحرب العالمية الأولى سنة 1914.

وكانت تابعة لوزارة الداخلية حتى سنة 1930، وكان الغرض الأول منها مراقبة المسائل الحربية فقط، وظلت هكذا، حتى وضعت الحرب أوزارها، وعندئذ أخذت هذه الرقابة فى الاتساع لتمثل كل النواحى الاجتماعية والدينية وشئون الأمن العام والأخلاق والآداب. وعلى الجانب الآخر ففكرة إلغاء الرقابة غير واردة فى أى مجتمع مهما بلغت درجة تحرره. إن النماذج المتطرفة من الأفلام تمنع فى العالم كله، وقد تسمح أوروبا مثلًا بأفلام بها قاصرات عاريات تمامًا لكن متاجر الفيديو تبيع أفلام القتل المفصّل البشع، (Snuff Movies) سرًا، وتضع على أفلام البورنو طائفة مجددة من المحاذير: ألا يقل عمر أى ممثل أو ممثلة فى الفيلم عن 18 سنة، وأن تقدم الأفلام الجنسية ممارسة العلاقات برضا جميع الأطراف، فلا يشمل ذلك الاغتصاب أو ممارسة العنف المؤذى مع الجنس، وألا تصل درجة الشذوذ إلى تصوير مشاهد التبول أو جماع الحيوانات أو مضاجعة الموتى أو زنى المحارم. روجعت 18 دولة فى العالم كله حتى فى أمريكا اللاتينية ووجد أنها جميعًا توجد بها لجنة تصنيف ولا توجد رقابة بالمعنى الموجود عندنا. ولا بد من وجود جهاز رقابى لمراقبة المعايير سالفة الذكر على الأقل. وإلغاء الرقابة ككل سوف يؤدى حتمًا لفوضى شاملة، فلماذا تفترض أن صُنّاع الفيلم كلهم أصحاب ضمير يقظ ونية حسنة؟ 

 

 

 

فى أحد مشاهد فيلم أمريكى يعرض ضمن برامج الترفيه عن المسافرين، كان هناك ولد صغير يحمل عروسة بحجم إنسان، ليست بالحجم الصغير الشائع فى لعب الأطفال. ذهب الصبى إلى جسر تمر من تحته سيارات على طريق مفتوح سريع وألقى العروسة أمام العربات جنونية السرعة. وفرملت السيارة متوقفة فجأة عندما سقطت أمامها الدمية الكبيرة، فحدثت فوضى وهرجلة وراحت العربات تصطدم ببعضها والولد يضحك باستمتاع فوق الجسر. وفى النهاية هبط من فوق الجسر إلى الناحية الأخرى من الطرق. لا أحد يعرف لماذا فعل الولد ما فعل. هذا المشهد لا عُرى به ولا إساءة للدين ولا الحكومة ولا دماء ولا اغتصاب هنالك، لكن الرقيب الحصيف يعرف أن هذا المشهد قد يحدث فى الحياة الفعلية ببساطة والمنفذ طفل آخر يشاهد هذا الفيلم الآن. فكم من حوادث انتحار على سبيل الخطأ قرأنا عنها فى الجرائد اليومية ونعرف من ملابسات الحادث أن الصبى كان يحاول شنق نفسه مقلدا البطل فى فيلم ما - حدث هذا الموقف بحذافيره فى فيلم (واحد من الناس) وقام ببطولته كريم عبدالعزيز، وجاء مشهد الشنق مرتين، الثانية كانت فى ذروة انتصار البطل وانتقامه من خصومه واحدًا تلو الآخر على طريقة «كونت دى مونت كريستو»). وقد جاء فى قانون الإنتاج الأمريكى عام 1946 فى بند الرقابة على جزئية الجريمة فى الأفلام: الجرائم ضد القانون، مثل هذه الجرائم لا يمكن أن تعرض بطريقة من شأنها إثارة العطف على الجريمة التى ترتكب ضد القانون والعدالة أو الإيحاء والرغبة فى تقليدها فى نفوس الناس، كما يجب أن تعرض وسائل القتل فنيًا بطرقة لا توحى بالتقليد، ويجب ألا يعرض القتل الوحشى بالتفصيل، وعدم تبرير الانتقام والأخذ بالثأر، وعدم عرض طرق الجريمة ووسائلها بوضوح، ويجب ألا تعرض بالتفصيل السرقات وتحطيم الخزائن ونسف القطارات والمناجم، ويجب أن يخضع الحريق الجنائى لنفس مقتضيات الحماية، وتقييد استخدام الأسلحة النارية إلى أقصى حد، وألا تعرض طرق التهريب ووسائله.

وفى قانون الرقابة المصرى المتزامن (فبراير، عام 1947) نص على عدم السماح بالقصص التى تظهر مرتكبى الجرائم بمظهر البطولة وتكسبهم عطف المتفرجين، وعدم السخرية بالقانون بطريقة من شأنها إثارة العطف على جريمة ترتكب ضد القانون أو العدالة ومنع إظهار الأساليب المبتكرة فى ارتكاب الجرائم، وكذلك المناظر الإجرامية التى توحى بأسلوبها إلى ضعاف النفوس بالتقليد. ولا يسمح بمناظر العنف والقسوة البالغة أو الاعتداء الوحشى وخاصة على الأطفال والحيوان. وكذا مناظر الشنق والجلد والتعذيب وأساليبها ووسائلها بوضوح. ولا تعرض أساليب الانتقام القاسية كالذبح أو بتر أعضاء الجسم. ولا يسمح بالمواضيع التى تقوم على الأخذ بالثأر إلا إذا وجد علاج ناجح لهذا التقليد. ويجب أن تعرض وسائل القتل العنيفة باختصار حتى لا يسهل تقليدها، وعدم المبالغة فى استعمال الأسلحة النارية وإزهاق الأرواح. ولا يسمح بإظهار مناظر قتل الضباط ورجال البوليس بأيدى المجرمين كما يمنع إظهار أحدث الأسلحة النارية كالمدافع الرشاشة أو السيارات المصفحة فى أيدى رجال العصابات أو المجرمين وكذا كل مناقشة حول هذه الأسلحة لتحبيذ استعمالها للمفاخرة. ويمنع إظهار الأساليب أو الحيل المبتكرة لإخفاء الأسلحة أو المهربات أو الممنوعات. ومنع عرض جرائم خطف الأطفال إذا لم تعالج القصة بحيث ينال المجرم جزاءه الرادع أو كذا جرائم خطف الرجال وأساليب المجرمين فى رد المخطوف بالإتاوة مع التخفيف فى إظهار هذه المناظر. وتخفيف مناظر العصابات ووسائل إخفاء المخدرات. 

رأى النخبة فى ما هو خادش للحياء

ويبدو أن المفهوم السائد لدى الكثيرين أن الفيلم لن يجد طريقه للنجاح إلا إذا كان يحوى حشدًا من المشاهد العارية والعلاقات المحرمة واللقاءات المريبة، وقد وصفها أحد المخرجين بأنها بمثابة التوابل التى لا يخلو منها طعام. والرقابة تحرص على قيم وتقاليد المجتمع وترفض كل ما يخالفها، وخير وصف للرقص الشرقى تجده فى كتاب توفيق الحكيم (فن الأدب) وفيه يقارن بين الراقصة الشرقية وراقصة الباليه.

وتتفق الدول العربية فى هذه الجزئية من الرقابة على الإطار العام والقواعد الأساسية ثم يختلف كل بلد فى بعض التفاصيل مع اختلاف القيم والثقافات والمستويات الفنية والفكرية بين الخليج والشام ومصر والمغرب العربى. يحكى حسن محمود إبراهيم كيف أنه فى شهر ديسمبر عام 1977 طلبت منه جمعية الفيلم الذهاب إلى الرقابة على المصنفات الفنية، والحصول على فيلم سينمائى يكون ممنوعًا رقابيًا وغير مصرح بعرضه داخل مصر، لتعرضه على أعضاء الجمعية، مع دعوة مديرة الرقابة وقتها لحضور ندوة بعد عرض الفيلم تلتقى فيها مع أعضاء الجمعية لتعلق على أسباب منعها للفيلم من وجهة نظر الرقابة وتتحاور مع من يريد محاورتها. وسمحوا له فى الرقابة الاطلاع على دوسيهات وملفات الأفلام الأجنبية الممنوعة. وكانت كمية لا بأس بها بالطبع وأخذ يقرأ ملف كل فيلم وأسباب رفضه، وكان معظم هذه الأفلام أفلامًا تجارية رخيصة الفكر والمستوى مليئة بمشاهد العنف والعرى، إلا أنه لفت نظره فيلم أمريكى من إنتاج شركة (وارنر) عنوانه (المراهقات)، موضوعه فى منتهى الخطورة والأهمية إذ يحكى عن فتاة بريئة لا تجارب لها تفد إلى المدينة للمرة الأولى عندما تلتحق بالجامعة لكنها تقع فى براثن عصابة مدربة تنصب الشباك للفتيات الساذجات البريئات عن طريق شاب وسيم يتعرّف على بطلة الفيلم ويتودد إليها حتى تقع فى حبه وحبائله وتثق فيه وتذهب معه إلى شقته وتستسلم له بالكامل، وهى لا تعلم أن باقى أفراد العصابة موجودون فى حجرة مجاورة، يسّجلون بالصوت والصورة كل ما يحدث بين الشاب الماكر والفتاة البريئة التى غرر بها، من خلال نافذة كبيرة تحتل جدارًا بأكمله لكنها تسمع بالرؤية من جانب واحد فقط، جانبهم هم بالطبع! هذه الكاميرات الخفية التى تسجّل اللقاء الحميم بالكامل ومن عدة زوايا تمنحهم مادة دسمة لأفلام البورنو والمجلات الإباحية، والأهم هو ابتزاز الفتاة المسكينة لتعمل معهم بعد ذلك فى شبكة الدعارة.

 

 

 

الموضوع مهم وخطير رغم ما يكتنفه من تفاصيل قد توصف بالوقاحة والعرى، لكن هذا قد يحدث فعلًا لأى فتاة فى أى مكان فى العالم، لذلك قرر المراجع اختياره وحصل على الموافقة اللازمة، ودعا السيدة علية ربيع مدير عام الأفلام الأجنبية فى ذلك الوقت والتى أصبحت مدير عام الرقابة على المصنفات الفنية، وتم عمل نشرة وعرض الفيلم ودار حوار طويل هادئ بين أعضاء جمعية الفيلم والرقيبة والتى أوضحت الأسباب التى جعلتها لا تجيز الفيلم. هذا فى بداية اللقاء، ثم فنّد الأعضاء بدورهم أهمية الفيلم كرسالة تحذير لكل فتاة لا خبرة لها، وإن العرى الذى جاء بالفيلم ليس بهدف الإثارة الجنسية ولكنه فى صلب الموضوع وهو محور الفيلم وأن الحدث الدرامى الرئيس فى الفيلم قائم على هذه المشاهد. وفوجئوا فى نهاية المناقشة بالسيدة الرقيبة تعلن أنها سوف تعيد النظر فى قرار الحظر، وتعد بإجازة عرض الفيلم بعد حذف وتخفيف المشاهد العارية بحيث لا تخل بسياق الأحداث. وبالفعل أجيز الفيلم بعد ذلك وثم عرضه فى سينما (راديو) بوسط المدينة بعد هذا اللقاء بمدة وجيزة والفيلم من إخراج بيدرو ماسو وإنتاج عام 1977. هذا الحدث اللافت يقدم عددًا من الدلالات: أن التجمعات السينمائية وعناصرها الدراسة المثقفة هى بالتأكيد (الآخر) و(المقابل) الذى تريد الرقابة أن تسمع منه وتتحاور معه، وأن الرقابة تحتاج من وقت لآخر لسماع رأى النخبة المثقفة والتشاور معها لتكوين رأى جديد لا تستطيع تكوينه وحدها. يرى د. مدكور ثابت وكان رئيسًا للرقابة على المصنفات الفنية، أن مفهوم الرقابة يتغير مع الزمن، وأنه يختلف فى وقته عن الأيام التى تولى فيها الأديب الكبير نجيب محفوظ إدارتها فى الخمسينيات. إذ كانت مهمة الرقابة وقتها تقتصر على مجرد رقابة المحتوى ولكن مع المتغيرات التى استجدت تاريخيًا ظهرت مهمة حماية الملكية الفكرية، وبصفة خاصة تلك الجزئية التى تناقش حق المؤلف، علاوة على التعقيدات الناشئة عن تعدد المصنفات السمعية البصرية، فبعد أن كانت شبه مقتصرة على قاعات السينما والمسارح، أصبح أمامها أشرطة الكاسيت والفيديو والأسطوانات وأضيف إلى كل هذا الكمبيوتر والدخول على شبكة الإنترنت. أما وجه الاعتراض الأول من قبل المخرجين والفنانين فهو فى وجهة نظرهم التى ترفض (الرقابة على الإبداع) فالرسام حين يمسك ريشته والمصور يضبط كاميراته والمخرج حين يرتب أدوات مشاهده والكاتب حين يخُط السيناريو والقصة والرواية والمسرحية لا يحتاج إلى إذن من أحد، وبعد تحقيق إبداعه لا يقبل أن يجىء شخص ما ليفنده ويقص منه فقرات أو مشاهد ربما لأنها- فقط - لا تعجبه. 

 

وفى شهادة للرقيب والناقد السينمائى مصطفى درويش يقول: لأننى منذ الصغر كنت مولعًا بالسينما فما أن أصبحت شابًا راشدًا حتى أخذ اهتمامى بها يزداد. وبفضل متابعة جادة للأفلام، اكتشف أن أرفعها شأنًا، معظمه لا تتاح له فرصة الوصول إلى دور العرض عندنا إما لدوافع تجارية وإما لدوافع رقابية. واكتشف أيضًا أن الأفلام التى حيل بينه وبين مشاهدتها بسبب تلك الموانع، قد جرى حظر عرضها لا لشيء إلا أن بعضا من الموظفين قد أوصى بحرماننا، وحتى من حق العلم بها بواسطة المقدمات والملصقات. وأيًا ما كان الأمر، فقد وجد مصطفى درويش نفسه رئيسًا لإدارة مهنة جميع موظفيهم يمقتهم مقتًا شديدًا، وبعضها معاد للفن والسينما بالذات. وتلك الأحكام التى كان لزامًا عليه أن يطبقها على الأفلام، هى أحكام قانون سنة 1955 لتنظيم الرقابة على الأشرطة السينمائية ومصنفات فنية أخرى، أما سبب القسوة والعدوانية فى بعض الأحيان، فذلك لأنها تُخضع جميع الأفلام المصورة بقصد الاستغلال التجارى لنوعين من الرقابة: رقابة سابقة على التصوير والأخرى رقابة نهائية لاحقة له. ويضيف الرقيب الأسبق إن البعض لاحظ أن أديبنا الكبير نجيب محفوظ يتعامل بذكاء دائمًا مع الرقباء، كان يرى أن اختيار المرأة فى لجان الرقابة ثقة فيها، فأحيانًا المرأة تكون أكثر تشددًا وتحفظًا. ولقد اختاره وزير الثقافة الأسبق ثروت عكاشة عام 1995 لمنصب الرقيب وأمضى فيه أقل من عام ثم انتقل لمؤسسة دعم السينما.