الإثنين 6 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

حوار على قارعة الطريق

ريشة: سماح الشامى
ريشة: سماح الشامى

كنت أتجول فى شوارع القاهرة المحروسة حين أخذتنى قدمى إلى إحدى الطرقات، فوجدت بها مقعدًا شاغرًا.. كان التجوال قد أنهكنى، فأحببت أن آخذ قسطاً من الراحة قبل أن أكمل نزهتى.. نظرت إلى المارة، وأنا أفكر فى القصص التى يمكن أن تكون خلف كل إنسان يسير فى تلك اللحظة.. استغرقنى التفكير حتى نبهنى صوته إلى أن هناك من جلس بجانبى.. كان شخصًا يبدو من ملابسه المتسخة ولحيته الطويلة وشعره المشعث أنه من المشردين الذين يتخذون من الطرقات مأوى لهم.. يسألنى عن الوقت، فأخبرته أنها الخامسة مساء، ثم تبعتها بابتسامة لا تخلو من مغزى وأنا أسأله هل لديه ميعاد قد يفوته؟ لكنه تجاهل سخريتى الفظة وأجابنى بأن لديه فعلًا موعدًا مع المحامى.. سألته ثانية ولكن تلك المرة بنبرة جادة فضولية عن قصده بكلمة المحامى، فأخبرنى بأنها قصة طويلة ربما لا أملك الوقت لسماعها، لكنى أبديت له رغبة ملحة فى سماعها، وأننى أملك الوقت كله، وخاصة أننى رأيت فيه عقلًا راجحًا ومثقفًا أيضًا فأحسست أن خلفه قصة كبيرة جديرة بسماعها فبدأ يقص على حكايته:



«نشأت فى أسرة صغيرة لأب موظف لا يملك إلا مرتبه الضئيل، وأم هى ربة منزل من الدرجة الأولى، وأخ وأخت كليهما أصغر منى سنًا.. كنت أدرس فى إحدى المدارس الفنية المتوسطة، وأحلم بمتابعة دراستى فى كلية الهندسة، ولكن الرياح أتت بما لا تشتهى السفن، فقد رحل والداى فى حادث أليم، وأصبحت المسئول عن إخوتى الصغار فعملت فى إحدى الورش لأستطيع أن أقوم بواجبى تجاههما.. مرت الأيام، وكبرت أختى الصغيرة، فكان لزامًا علىّ تجهيزها للزواج حتى تزوجت بالشخص الذى يناسبها والحمد لله لبيت جميع النفقات اللازمة لهذا الزواج، أما أخى فقد أبدى رغبة فى إكمال تعليمه بالجامعة، فلم أبخل عليه بذلك.. لم أفكر يومًا فى الزواج أو تكوين أسرة حتى أكمل دورى معه.. بعد أن تخرج من الجامعة صارحنى بحبه لزميلة له، وأنه ينوى التقدم لها والارتباط بها فى شقة الأسرة ويطلب موافقتى.. لم أرفض كنت أحس بأنه ابن لى وليس أخًا.. ساعدته في الحصول على عمل، وإتمام زواجه بمن يحب حيث عاش معى هو وزوجته.. فى البداية كانت زوجته تعاملنى كأخ أكبر لها، ولكن بمرور السنين، وكنت قد تخطيت الأربعين وبدأ سيل من الأمراض يهاجمنى مثل السكر والضغط وبعض المشاكل التى نتجت عنهما فى القلب.. راحت تتأفف من وجودى فى المنزل، وتفتعل المشاكل معى، وتحرض أخى الصغير على كراهيتى، وبعد فشلها الذريع فى ذلك اتهمتنى بالتحرش بها، فما كان من أخى إلا وطردنى من المنزل.. قصدت منزل أختى، فاعتذرت عن استقبالى، وتحججت بعدم موافقة زوجها.. لم يكتف أخى بطردى فقط بل قصد صاحب العمل، وأخبره بتحرشى المزعوم بزوجته، فقام صاحب العمل بصرفى، وأصبحت عاطلاً أيضًا.. لم أجد إلا الطرقات ملجأً، وهأنذا مشرد حتى قابلنى فى المكان نفسه حيث أجلس الآن محام.. قصصت عليه حكايتى، فقرر مساعدتى برفع قضية على أخى لتمكينى من الشقة، وقد ينقذنى هذا من التشرد، ولكنه بالتأكيد لن ينقذنى من ذلك الجرح العميق الذى خلفته الأيام فى قلبى».