الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

مرايا النهار

ريشة: سماح الشامى
ريشة: سماح الشامى

 يستيقظُ، يبلِّل وجهه الخمريَّ بأحزانه الطَّازجة، يغلِّف جسده النَّحيل بجلبابه «الكستور»، ينتعل قبقابه الخشبيَّ؛ فيكسر خطوه صمت العزلة، يتَّجه صوب بابٍ خشبيٍّ متهالكٍ يحجبه فى تلك الدَّار الضَّيِّقة عن كُلِّ ما يجرى فى الخارج. الأثاث هنا فى غاية البساطة؛ فلا ترى سوى حصيرٍ مهترئٍ، وَوسادةٍ من ليفٍ، وأغطيةٍ باليةٍ، وأطباقٍ قديمةٍ، وَأوانٍ منطفئة البريق، وَموقدِ كيروسين. رُبَّما كانت هذه الدَّارُ الضَّيِّقةُ نقطةً منسيَّةً، لا تحفل بها العيون، إلَّا أنَّها مثَّلَتْ للصَّبيّ عالمًا من جمرٍ، أضلاعه الوحدة، ونكهاتٌ مُرَّةٌ من الذِّكرى، وخوفُ فرخٍ صغيرٍ من كُلِّ ما يرتقى سلالم الاحتمال خارج تلك النُّقطة الباهتة تمامًا فى خارطة الكون. هذا هو «مُحَمَّدٌ» بلا أيِّ رتوشٍ تُزيِّن اللَّوحة بعد موت الرَّجل، الَّذى كان يشعر عند الانصهار فى رائحة عرقه بدفء ونور آخر شعاعٍ، خفتَ فى الخامسة من عمره، بعد أن سلب منه التُّراب صاحبة (حكايات) الشِّتاء والسَّكينة؛ فَحُرِمَ من ملاذ صدرها الدَّافئ. 



كان وقتئذٍ فرخًا أخضرَ، بالكاد يُدَثِّرُ الزَّغب عريه، وَكان الشَّرابُ كعادته مُرًّا؛ فَلَمْ تتورع اللَّيالى يومًا عن صبِّ الكئوس إليه. يا اللهُ! كم عاندته المواقيت؛ فأمسى الرَّقم (5) سِرَّ حزنه المقيم، وأمسى الرَّقم (12) عدد الأوراق، الَّتى قامر بها فى تلك اللَّيالى الواجمة.

 (2)

مسكونٌ بالشَّوق إلى مرايا النَّهار، والانخراط فى متاهات الزِّحام؛ لعلَّ الأعين تلقى إليه بفتاتٍ من أمانٍ، يُطَمْئِنُ- وَلَوْ قليلًا- قلبه المملوء بالصَّفير والعواء؛ هذا ما دفعه إلى أن يجرجر قدميه فى البكور إلى العراء، حيثُ دوامات البرودة. يستنشق نسماتٍ من حليب الوقت تزيد الجذوة اشتعالًا، يُلْقِى نظراتٍ متوتِّرةٍ على قاطرته المُحدَّبة وفنطاس الكيروسين البيضاويِّ المُثبَّت أعلاها. كُلُّ شيءٍ فى مكانه؛ يتنهَّد، وَيفكُّ قيد أتانه، يعلِّقها فى عريش القاطرة، تسير بخطواتٍ متلكئةٍ، يتلَّهى بأنشودةٍ ناعمةٍ عبر نتوءاتِ الطَّريق. عند مشارف النَّجع يُخْرِجُ حديدته الصَّغيرة؛ فتتأرجح فى الهواء نغماتٌ ذات إيقاعٍ منتظمٍ، حفظوها عن ظهر قلبٍ؛ يهلُّون من الشَّبابيك الواسعة، وفى أجسادهم بقايا من رائحة الفرش، يُخَضِّبُون الفضاء بابتساماتٍ صافيةٍ. ثوانٍ يا مُحَمَّدُ. هكذا يجيبون نداءاته. تمتلئ الصَّفائح بالكيروسين، يجمع القطع الفضيَّة؛ فتتلطَّخ بعرق يديه. يرتدُّ عائدًا إلى داره. ثَمَّة غديرٌ على يمين الطَّريق التُّرابيِّ، تتجمَّع فيه مياهُ المطرِ كُلَّ شتاءٍ. تتعثَّر أقدام أتانه؛ يسقط الموكب فى الماء؛ تنشقُّ فى وجهه أخاديدُ مِنْ ماءٍ وملحٍ واستغاثةٍ؛ يجتمع أهل النَّجع كعادتهم للإنقاذ، يمتزجون رويدًا رويدًا؛ فيطلُّ وجه أبيه كبيرًا كبيرًا، يملأ صفحة الأفق، ويرسل إلى الصَّبيِّ ابتساماتٍ حانيةٍ.   

 (3) 

أنتبهُ، فجأةً، أمدُّ بصري؛ فأرى مربوعةً فسيحةً، وَأرى حشدًا من أهالى النَّجع، يجلس بينهم شيخٌ، تشبه ملامحى ملامحه. ممتلئ الجسم هو، يرتدى جلبابًا من صوفٍ فاخرٍ، بجواره عصا مَزْدَانَةٌ بزخارفَ ونقوشٍ عربيَّةٍ. الرَّجل يتكلَّم؛ فيصغى إليه النَّاس، وَيصمت؛ فتتعلَّق به الأعين. ينهض بعد حينٍ؛ فأجدنى منجذبًا إليه، أُسْرِعُ إلى نعليه، أحملها، أنحنى أمامه، وَأقربُ النَّعلين إلى قدميه. يَشدُّ عضدى، يجذبنى إلى أعلى؛ فأنتصبُ كالرُّمح. يسيرُ؛ فلا أسيرُ حذاءه، بل أتأخرُ إلى الوراء مقدار خطوتين. أستنشقُ-خلسةً- أريجَ العطر، الَّذى يفوح من جلبابه وجسده المُشَرَّب بالحمرة. نصلُ إلى الغدير، وَالشَّيخ يحدِّق مليًّا إلى الماء، وبغتةً، تتلاشى صورته المنعكسة على الصَّفحة الرَّائقة، ويحلُّ محلَّها صورةٌ أخرى، لصَبِيٍّ نحيلٍ يرتدى جلبابًا مهلهلا من «الكستور»، وينتعل قبقابًا خشبيًّا فى قدميه. الشَّيخ يبتسم، وَيستدير، وَيستقبل بوجهه أتانًا وقاطرةً يعلوها فنطاس الكيروسين. وَما إنْ يستوى على مقعد القاطرة، حتَّى يدعونى إلى الجلوس إلى جواره. الأتان تنطلق، والشَّيخ يشدو بأغنيةٍ قديمةٍ، وَسرعان ما نصلُ إلى دارٍ طينيَّةٍ واطئةٍ، تضجُّ بالذِّكريات.