الولد الشقى: ده ناشيء ده؟.. أمال أنا أبقى أيه؟!!
تامر يوسف
لم أكن يومًا أديبًا ولا كاتبًا.. ولا حتى حكواتيًا.. عرفنى القراء رسامًا صحفيًا ومخرجًا فنيًا.. فعمرى كله أمضيته أرسم الكاريكاتير بين جنبات صاحبة الجلالة.. لكن مع رحلاتى المتعددة.. وهجرتى إلى الولايات المتحدة الأمريكية.. وجدتنى أكتب وأدون كل ما رأت عينى وأتذكر.. الأحداث التى تملأ رأسى المزدحم بالأفكار.. فإليكم بعضًا مما كتبت من الذكريات والأحداث.. لعل ما دونت فى يومياتى يكون زاد المسافر ودليله فى السفر.
تشرفت بأن أزامل كبار رسامى الكاريكاتير عبر مسيرتى الممتدة مع صاحبة الجلالة. وكنت أنشر أعمالى إلى جانبهم عبر إصدارات مؤسسة الأهرام الغراء. ومن أهم الأسماء التى سعدت بمزاملتهم والعمل إلى جوارهم كان الفنان جورج بهجورى. وهو فنان يمثل مدرسة مستقلة مسجلة باسمه. والذى يعد وبحق أحد أعمدة الرسم الصحفى فى مصر. وكنت أتودد إليه وأجلس إلى جواره كى أستمع إلى تجاربه وخبراته ومغامراته الممتدة عبر أكثر من ستين عاما مع الفن المشاغب فى مصر وخارجها.
ولا أخفيكم سرا أنى كنت أتعلم منه بشكل غير مباشر. فمجرد أنى كنت أتابعه أثناء إنجازه للرسم الأسبوعى الذى سوف ينشر بـ جريدة الأهرام ويكلى لاحقا، كان له متعة خاصة جدا. وكانت هذه الجلسة أشبه بورشة العمل التى أتشبع من خلالها بجرعة كبيرة ومتميزة من الإبداع. فما بالكم من متابعة بهجورى وهو يراوغ ويناور بأسلوبه الفريد عبر الخط الواحد فى منتهى التناغم والعشوائية المدروسة لإنجاز بورترية لأحد الشخصيات. فلقد كان ذلك أشبه بحضور حفل أوركسترالى على مسرح دار الأوبرا.
ومن جانبى كنت أهدية بشكل دورى مجموعة من الأوراق المعاد تدويرها المخصصة للرسم. وكنت أقوم بتوصيله فى كل مرة من الأهرام إلى منزله الكائن بـ شارع معروف ناصية شارع شامبليون - (ذلك الفرنسى الذى كره باريس ووقع فى غرام القاهرة) - بـ وسط البلد. وكأنه اختار أن يقطن هذا الشارع على وجه الخصوص لارتباطه بتاريخ مصرى فرنسى مشترك. إذ إن الفنان جورج بهجورى يعتبر هو الآخر وبحق.. أحد الرموز التى سطرت وما زالت تسطر تاريخاً مصرياً فرنسياً مشترك لكن مع الفن.
وفى أحد الأيام خرجت مع عم بهجورى من مبنى ملحق الأهرام. حيث تقبع جريدة الأهرام ويكلى فى الدور التاسع. حيث مكتبى المطل على كوبرى أكتوبر وكان من يشاركنى فى نفس الغرفة هو صديقى العزيز الكاتب جمال نكروما. وأثناء نزولنا أنا وعم جورج على سلالم مدخل الأهرام مواجهين لـ شارع الجلاء. حيث كنا متوجهين لسيارتى المتواضعة لأقوده إلى منزله كالمعتاد. فاجأنى أبو جريج - كما كان يحب أن ألقبه - بأنه غير قبلته وأنه سيتوجه للقاء العم محمود السعدنى - الكاتب الصحفى الساخر والحكواتى الكبير. وعلى الفور عرضت عليه بأن أقوم بتوصيله للقائه. ولم أكن محتاجاً إلى الضغط على أبو جريج حتى يوافق.
فالزحام فى الشارع والكثافة المرورية كانا سببين وجيهين ليقبل عرضى على الفور. فسألنى إن كنت أعرف مكان النادى النهرى لنقابة الصحفيين. وأجابته على الفور وأنا أفتح باب السيارة متعجلاً، بأنه كائن بـ شارع البحر الأعظم.
لا أخفيكم سراً أننى كنت متحمس جداً للقاء عمنا السعدنى أو محمود عثمان ابراهيم السعدنى المعروف باسم محمود السعدنى والذى أشتهر بلقب الولد الشقى المولود فى 20 نوفمبر عام 1928. الكاتب الساخر والحكواتى الشهير الذى كنت أسعى كل السعى للتعرف عليه والإقتراب من عالمه. وها هى قد سنحت لى الفرصة بدون أى ترتيب. والغريب أنى أخذت أتحدث طيله الطريق عن عم محمود وعن معرفتى له من خلال قراءتى لأعماله. وقد قرأتها معظم ما كتب تقريباً. بل إنى قد وقعت فى غرام أسلوبه المتفرد. الحكاء الذى أراه أشبه بحكواتى المقهى صاحب الظل الخفيف والجمل البديعة المختصرة.
فمن منا لم يتابع أو يقرأ كتاب أو أكثر من مجموعته وسلاسله الرائعة. ومنها على سبيل المثال لا الحصر: مسافر على الرصيف، السعلوكى فى بلاد الإفريقى، الموكوس فى بلاد الفلوس، وداعاً للطواجن، رحلات ابن عطوطة، رحلات متنوعة، رحلة إلى لندن، رحلة إلى أمريكا، أمريكا يا ويكا، مصر من تانى، مجموعة مقالات عن تاريخ مصر، مجموعة مقالات ساخرة، المضحكون، ألحان السماء. بالإضافة إلى عدة مسرحيات منها مسرحية عزبة بنايوتى.
لكنى أرى أن أهم ما كتب كانت مجموعة الولد الشقى. والذى أستهلها بسيرته الذاتيه عن طفولته وصباه فى منطقة الجيزة. والتى سرد فيها بداية تعرفه على رفيق دربه رسام الكاريكاتير الفنان أحمد طوغان. ثم سرد فى أجزاء أخرى بداية عمله وذكرياته مع صاحبة الجلالة. ثم تطرق لشخصيات عديدة التقى بها وتعرف عليها عبر الولد الشقى فى السجن. تبعها ملاعيب الولد الشقى، وختمها بـ الولد الشقى فى المنفى. وهى سلسلة من الكتب التى أصدرها فى نهاية الستينيات وحتى تسعينيات القرن الماضى. والتى تعد من أروع ما كتب فى السيرة الذاتية وذلك بوصف الكثير من رواد الوسط الثقافى.
ولا أنسى أيضاً مقالاته اللاذعة عن الرياضة وكرة القدم ولاعبيه على وجه الخصوص بمجلة الأهرام الرياضى. ويذكر أن الفنان المبدع شريف عليش شاركه هذه المقالات بالرسم. ومثلا سوياً ثنائى ناجح جداً، وذلك إبان رئاسة الصحفى المخضرم إبراهيم حجازى لتحرير المجلة.
والغريب أن عم جورج كان يستمع لى طوال الطريق وكان ينظر لى وهو متعجب. لكنه أيقن بالفعل أننى من متابع جيد للـ سعدنى ولتاريخه ومن أكبر المعجبين به. والحديث عن عم محمود السعدنى يطول ويطول، لكن الطريق إلى الجيزة كان أقصر من الاستمرار فى الحديث عنه. ففور وصولنا لـ شارع البحر الأعظم، لم أهتم بوضع السيارة وصفها فى وضع ملائم. ونزلت على الفور وتوجهت نحو سلالم النادى النهرى لنقابة الصحفيين. وكان مدخل النادى مصمم بشكل يحافظ على المساحات المطلة على النيل.
فالسلالم التى صعدتها أنا وعم جورج، نزلناها من جديد على السلالم المقابلة لها. ثم اتجهنا نحو اليسار حيث مكتب عم محمود.
وفور وصولنا لباب المكتب انتظرت أنا بالخارج وهم عم جورج بالدخول وهو يصيح: هاهاهاهااااا.. إزيك يا محمود؟.. عامل أيه يا سعدن»؟؟. وسمعت وأنا بالخارج عم محمود يرحب به: أهلا يا جورج.. أخبارك أيه؟. فأجابه: أنا بخير يا صديقى... بأقولك.. معايا فنان ناشيء بره وعايز يتعرف عليك ويسلم عليك. فرحب عم محمود بالفكرة ووافق على الفور ورد على طلبه: أوى أوى.. خليه يتفضل.
هممت بالدخول وتوجهت بالنظر إلى عم محمود وكان يجلس خلف مكتبه مرتدياً بلطو فخم من الصوف الإنجليزى ويضع بريه أسود فرنسى فوق رأسه. وكان يتحدث إلى شخص يجلس أمامه. لكنه كان ينظر لى بطرف عينيه من خلف نظارته الشهيره. ليتابع ويرمق بنظره إلى ذلك الفنان الناشيء الذى هل لتوه أمام باب مكتبه. لكنه فجأة انتفض وتوجه بالحديث نحو عم جورج. وسأله سؤال فى منتهى السخرية: أيه ده يا جورج؟.. ده ناشيء ده؟؟... أمال أنا أبقى أيه؟!!
فانفجر كل من فى المكتب فى الضحك. وكان من بينهم الفنان المحترم محمود البزاوى زوج ابنة عم محمود. وأذكر أنه الوحيد الذى لم يجلس أو يسترح لدقيقة داخل المكتب. وكان يساعد عم محمود فى كل شيء ويسعى ويجتهد فى خدمته وراحته بمنتهى الدأب والمحبة والرقى. المهم أن وقع رد عم محمود الساخر على كانت بداية رائعة للتودد إليه والاقتراب منه. وبشيء من التفكير، وجدت أن عم محمود كان على حق فى هذا التعليق الساخر. فمن ظهر لتوه امامه وكان يحاول الدخول من باب مكتبه الصغير بصعوبة، كان شخص ضخم الجثة عريض المنكبين. ومظهره يوحى بأنه لاعباً لرفع الأثقال وليس فناناً كما وصفه الفنان جورج بهجورى. والذى كانت له تعريفات وقفشات بعيدة كل البعد عن الواقع، لكنها كانت لطيفه وساخرة. فالعبد الفقير إلى الله فى هذه المرحلة العمرية كنت قد أمضيت نحو أربعة عشر عاماً فى بلاط صاحبة الجلالة. فكيف لى أن أكون ناشئاً؟!!
ومنذ ذلك اليوم وأنا ألتقى بـ عم محمود وأزوره بمكتبه بـ النادى النهرى لنقابة الصحفيين. وكثيرا ما جالسته فى خيمته التى كانت تنصب فى بهو النادى فى ليالى شهر رمضان بعد الإفطار. وكنت أجلس بين الحاضرين وأستمع لرواياته ومغامراته وهو يسردها ويقصها بأسلوبه السلس والساخر. وكنت أستمتع بها كأنى أسمعها لأول مرة، مع أنى قرأت ما يسرده من قبل عدة مرات فى كتبه. لكنى تشرفت بأن أستمع لهذه الروايت وهو يقصها ويحكيها ويسردها بكل تفاصيلها لكل الحاضرين كـ حكاواتى أصيل وبصوته المميز. وهو أمر بالغ المتعة وكان له فى نفسى صدى رائع. فتجربته الإنسانية كانت بالغة الأهمية. وقد تأثرت بها وأصابتنى بعدوى الحكاواتية. وقررت أن أكون منهم.. حتى ولو على قدى.