الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

قصة مترجمة

أمطار الخريف

رأيت –بعين الخيال- شلالاً من النيران يسقط على المرتفعات المكسوَّة بأوراق الخريف الأرجوانية. كانت الجبال عالية، شاهقة، تسد جانبى المجرى المائى، وكان الوادى بينهما يبدو كحفرة كبيرة. ولم يكن بإمكانى رؤية السماء إلا وأنا أجعل عيناى تنظر فى شكل عمودى لأعلى، كانت تبدو زرقاء وعليها علامات الغروب. ويبدو أن الصخور على جانب النهر شعرت باقتراب الغروب، وباقتراب الخريف. وكانت أوراق الخريف تندفع فى مهب الريح حولى من كل جانب.. ولم يكن فى مياه النهر القاتمة انعكاس لهذه الأوراق.. لماذا؟ 



وفى هذه اللحظة رأيت شلال النيران فوق المياه القاتمة.. لم تكن شظايا النيران تندفع فى الهواء، وإنما شظايا ضوء يتأرجح على الماء.. كانت كذلك بالتأكيد. كانت الشظايا تسقط من السماء، وتسقط فى المياه القاتمة، وتختفى هناك واحدة بعد الأخرى.. كانت تسقط أمام خلفية من النباتات القرمزية.. ألقيت نظرة إلى أعلى الجبال فرأيت فى السماء شظية نارية تندفع بسرعة جبارة.. وأثناء تأملى بدت السماء كمجرى مائى يحمل شظايا النار بين قمم الجبال.. كل هذا رأيته وأنا فى القطار السريع المتجه إلى (باكيوتو).

وأثناء علاجى فى المستشفى من حصوة المرارة –منذ خمسة عشر سنة- كانت إحدى فتاتين قد ولدت بدون القناة الصفراوية.. ولن تعيش أكثر من سنة، فأجروا لها عملية لتركيب قناة صناعية بين الكبد والمرارة.. كانت أمها تحتضنها فى الردهة.. قالت لأمها وهى تتأملها: «إنها.. إنها..»

قلت للأم: «إن ابنتك فاتنة.. تبدو كالبدر..»

قالت الأم فى هدوء: «إنهم يقولون أنها سوف تموت اليوم أو الغد.. وأنا أنتظر من يوصلنى للبيت».

كنت الآن ذاهباً بالقطار لرؤية إحدى الفتاتين فى فندق (باكيوتو).. وكانت إحدى الفتاتين تنام فى هدوء وتبدو ملابسها منتفخة عند الصدر وعليها رسم لزهرة الكاميليا، ربما بسبب الأربطة التى تغطى جروح العملية الجراحية.. كنت سخيفاً حين تكلَّمت مع الأم بهذه الطريقة، ولكن لم أكن مبالياً إذ كنت بين زملائى المرضى. كان مستشفى جراحى.. لذا فقد جاء عدد من الأطفال لإجراء عمليات القلب.. كانوا يلعبون حول الردهة والمصعد، وذلك قبل أن يحين موعد العملية.. كنت أشعر برغبة فى الحديث معهم.. كانوا بين سن الخامسة حتى الثامنة من أعمارهم.. وبدون إجراء العملية الآن –وهم صغار- قد يواجهون خطر الموت قريباً.

وكان أكثر اهتمامى بالفتاة التى كنت أراها فى كل مرة أستقل فيها المصعد.. كانت فى الخامسة من عمرها تجلس فى وداعة وهدوء فى ركن المصعد، ترفع وجهها النحيل بعيداً عن أرجل الآخرين، وتتألق عيناها ببريق غريب، مذمومة الشفتين.. وقالت لى الممرضة: «إن الفتاة تركب المصعد ثلاث ساعات يومياً».

وعندما رأيتها مرة تجلس على أحد المقاعد فى الردهة.. حاولت أن أتحدث إليها لكنها لم تنظر إليّ.. قلت للممرضة: «يا لها من فتاة». 

ولم أر الفتاة فى أحد الأيام، فسألت الممرضة: «هل أجريتم لها العملية؟.. هل هى أحسن حالاً الآن؟»

أجابتنى الممرضة: «لقد عادت إلى البيت دون إجرائها، لقد رأت طفلة فى نفس الحجرة وهى تموت، فأصرت على العودة إلى البيت، ولم نستطع منعها من هذا القرار».

غمغمت: «ولكن.. ألن يُعرِّضها هذا لخطر الموت فى هذه السن الصغيرة؟»

والآن أنا فى طريقى إلى (باكيوتو) لأراها، وقد كبرت البنت وأصبحت فتاة ناضجة شابة. 

استيقظت من غفوتى فى القطار على صوت قطرات المطر على زجاج النافذة.. كنت واعياً لضربات المطر عندما بدأت أغفو ولا ريب أنه الآن قد أصبح عاصفة، لأننى كنت أسمع قرقعة داخل القطار، وبدأت حبات المطر تميل على زجاج النافذة، وتنساب بعض القطرات فى خط مستقيم من طرف إلى آخر، وتقف بعض القطرات وتتحرك أخرى، وبدأت أسمع إيقاعا منتظما، ورسمت حبات المطر خطوطا متشابكة مُصدرة نغماً موسيقياً. لم تكن مشاهدتى لشلال النيران على المرتفعات مصحوبة بأى موسيقى.. ولم يعد هناك شك فى أن حبات المطر التى تنهمر على زجاج نافذة القطار وموسيقاه قد أصبحت فى جمال رؤيتى.. لقد دعانى تاجر ملابس (الكيمونو) لحضور عرض أزياء ملابس العام الجديد، فلم أخطئ اسم الفتاة فى كشف الأسماء.. «بيبو ريبتسوكو».. لم أنس اسمها بالرغم من أننى لا أعرف أنها تعمل فى عرض الأزياء.. سافرت إلى (باكيوتو) لا لأرى ألوان الخريف.. بل لأرى «بيبو ريبتسوكو».

 

 

استمر المطر لليوم التالى وقضيت المساء فى مشاهدة التلفاز فى ردهة الطابق الرابع، وكانت هناك حفلات زفاف فى القاعات المجاورة.. واكتظت الردهة بالضيوف الذين جاءوا لاستقبال هذه الحفلات.

لمحت عروساً تمر بثوب الزفاف ورأيت من انتهت حفلات زفافهم يستلمون صورهم ويرحلون. وجاء تاجر ملابس (الكيمونو) وحيَّانى مبتسماً.. فسألته عن «بيبو ريبتسوكو» فأشار بعينيه إلى نقطة إلى جوارى.. كانت هى بجانبى مباشرة.. كانت تقف وخلفها نافذة تغشيها الأمطار.. 

كانت تحدق فى عروسين تلتقط لهما صورة.. كانت شفتيها مذمومتين.. لقد عاشت لتصبح فتاة ناضجة حسناء طويلة القامة.. وقد هممت بأن أقترب منها وأسألها عما إذا كانت تتذكرني.. لكنى منعت نفسى عن هذا.. وهمس التاجر فى أذني: «إنها سوف ترتدى (كيمونو) الزفاف فى عرض أزياء الغد».