الخميس 9 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

تاريـــــخ الشركــــات.. قنابــــل موقوتــــة

إيحاءات سياسية فى علامة تجارية!

اهتمت «فورين بوليسى» الأمريكية، فى تقرير بعنوان «العلامات التجارية هى الضحية الأولى للحرب», أن تضفى عليه الصبغة التاريخية، بصور قديمة توثق الحكايات التى سردها كاتب التقرير، «بول موسجريف»، أستاذ مساعد فى العلوم السياسية بجامعة «ماساتشوستس». 



قال تقريره: إن شركة «بروكس براذرز» لا تقدم نفسها على أنها أقدم شركة ملابس أمريكية فحسب، بل باعتبارها قطعة أساسية من الملابس الأمريكية. ويروج موقعها الإلكترونى لتاريخها بأنها زودت المحاربين القدامى والجيش الأمريكى منذ تأسيسها 1818 وحتى الحرب العالمية الثانية بإنتاجها، ويوضح كيف احتفظت الشركة بالسجلات وعينات القماش من اتفاقية 1861، التى وقعها حاكم نيويورك والأخوة «بروكس» الأربعة أنفسهم، لتزويد أفواج الولاية بالزى الرسمى خلال «الحرب الأهلية الأمريكية». مضيفًا: «هذه ليست مجرد شركة راسخة، إنها شركة وطنية». 

وأضاف: كان هذا النوع من «أمريكانا التقليدية» أمرًا سهلًا بالنسبة للشركات، لكن فى عصر «العولمة»، أصبح التلويح بالأعلام عملاً خطيرًا، وإن ما تفعله العلامة التجارية فى سوق واحدة يمكن أن يؤثر عليهم جميعًا.

 

 

متابعًا: «عندما بدأت سلسلة مطاعم ماكدونالدز الإسرائيلية بتقديم وجبات مجانية للجنود الإسرائيليين، نأى أصحاب الامتيازات فى بقية الشرق الأوسط بأنفسهم، حيث تبرع العديد منهم بالمال لغزة».

وأكمل «موسجريف»: بالنسبة للشركات التى تمتلك علامات تجارية قيمة، يمكن أن تظهر التهديدات التى تواجه أعمالها على وجه التحديد بسبب قوة تلك العلامات، فكلما أصبحت العلامة التجارية أكثر عالمية، زادت احتمالية تورطها فى النزاعات الدولية، وكلما زاد الانحياز لأحد الجانبين تأتى التكاليف، حتى بالنسبة لأضعف المنتجات مثل المشروبات الغازية أو الآيس كريم».

 

 

وأشار: فى الاقتصاد الاستهلاكى الذى تهيمن عليه العلامة التجارية، يعد تعريف الذات من خلال «العلاقة» مع «العلامات التجارية» أمرًا لا مفر منه. حتى فى الأوقات العادية، فإن الاختيار بين «ستاربكس» أو «بيتس» و«أتليتا» أو «لولى مون» لا يعبر عن الشخصية فحسب، بل أيضًا عن إيحاءات سياسية وأخلاقية. مشيرًا إلى أنه فى أوقات الحروب يتجنب العملاء المتاجرة مع العدو، وحتى بعد انتهاء الصراع، تتعرض العلامات التجارية لضغوط لاتخاذ موقف.

أضاف: فى السابق، كان بإمكان الشركات تقسيم رسائلها فى بلدان مختلفة، أو حتى تجنب التعليق على الصراع على الإطلاق. وفى عالم الوسائط الرقمية والناشطين الاستهلاكيين، لم يعد هذا ممكنًا. مشيرًا إلى أن هذه ليست المرة الأولى التى تضطر فيها الشركات إلى السير عبر «المياه الضحلة الجيوسياسية الصخرية» ذات العواقب الدائمة.

صهيونية.. أم نازية؟

وحكى الكاتب قصة «كوكا كولا»، موضحًا أنها من أوائل العلامات التجارية العالمية، والتى وجدت نفسها على طرفى الحرب. مشيرًا إلى كتاب «مارك بيندرجراست» عن تاريخ الشركة، وكيف أدى النقص فى تركيبة «كوكا كولا» والسكر زمن الحرب العالمية الثانية إلى قيام «ماكس كيث» بتطوير مشروب غازى بديل للحفاظ على المبيعات خلال انقطاعها عن الإنتاج، واعتمد المشروب الجديد «فانتا»، على بقايا متاحة لنكهة الفاكهة، بما فى ذلك «مصل اللبن» و«ألياف التفاح»، لافتًا إلى أن مخترع التركيبة كان يتطلع بعد نهاية الحرب إلى تولى منصب «مدير الشركة الأم» مكافأة له، لكن هذا لم يحدث. 

 

 

نظرًا لأن «فانتا» مشروب لا يزال شائعًا فى أوروبا والولايات المتحدة، فغالبًا يتم تلخيص قصة أصله بشكل مضلل على الإنترنت بأنه: «تم اختراع فانتا لألمانيا النازية»، لافتًا إلى أن المشروب الذى يباع اليوم لا علاقة له بوصفة «العصر النازى»، والسبب كان تسجيل العلامة التجارية للمشروب فى جميع أنحاء أوروبا التى يحتلها «النازيون»، وهى علامات تجارية ظلت سارية حتى بعد الحرب. 

وانتقل «موسجريف» إلى الصراع العربى الإسرائيلى قائلًا: جاءت التجربة الأكثر قسوة لشركة «كوكا كولا»، عندما انجذبت الشركة إلى الصراع العربى الإسرائيلى خلال الستينيات، مضيفًا: أصبح الشرق الأوسط، وخاصة مصر، سوقًا رئيسية لشركة كوكا كولا بعد الحرب العالمية الثانية. 

ويشير المؤرخ «موريس لابيل» إلى أن الشركة أنشأت العديد من مصانع تعبئة الزجاجات فى مصر للمساعدة فى إنتاج ما يصل إلى مئات الملايين من الزجاجات سنويًا بحلول عام 1950. وكان الملك فاروق من أشد المعجبين به. 

وبعد سقوط الملكية ومغادرة الملك فاروق، كان الرئيس الراحل جمال عبدالناصر فى زيارة إلى الجزائر 1963، وطلب مشروب «كوكا كولا»، فلم يستطع المسئولون توفيره، و«لم يشرب أى شيء آخر».

وتابع: وصورت شركة كوكا كولا نفسها كشريك فى جهود التحديث المصرية، وروجت الشركة لكيفية رفع مستويات المعيشة من خلال استثماراتها وتوفير فرص العمل، لقد سعت إلى بذل كل ما فى وسعها لتقديم نفسها على أنها أى شيء سوى أداة للقوة الأمريكية.

وتعثر هذا الهدف عندما وجدت كوكا كولا نفسها منجرفة إلى الصراع العربى الإسرائيلى. ولم يكن للدافع الأولى أى علاقة بمصر فى حد ذاتها. فى عام 1966، اتهمت «رابطة مكافحة التشهير»، وهى مجموعة مناصرة يهودية مقرها فى الولايات المتحدة، الشركة بالامتثال للمقاطعة العربية لإسرائيل، على أساس أن «كوكا كولا» لم تمنح شركة تعبئة إسرائيلية امتيازًا. 

ونفت الشركة هذه التهمة، وزعمت أن إسرائيل غير ملائمة لأعمالهم. ومع ذلك، يكتب «بندرجراست» أن العديد من اليهود الأمريكيين كانوا غاضبين. وسرعان ما ظهرت المقاطعة. وتخلت مؤسسات مثل «مستشفى ماونت سيناى» و«متجر ناثان» الشهير للهوت دوج عن الكولا.

 

 

وأكمل «موسجريف»: أدى هذا إلى تسوية مجموعة من المشاكل، لكنه سرعان ما أثار مجموعة أخرى. ومن الواضح أن دخول كوكا كولا رسميًا إلى السوق الإسرائيلية يشكل انتهاكًا للمقاطعة العربية التى تأسست عام 1945، وكانت تحظر فى الأصل شراء المنتجات المصنوعة فى القطاع اليهودى فى فلسطين فى جميع أنحاء العالم العربى. 

المقاطعة تشمل ليس فقط الدول والشركات العربية، بل أى جهات اقتصادية فاعلة فى العالم تتعامل مع إسرائيل. وفجأة، وجدت كوكا كولا نفسها فى مرمى النيران الاقتصادية الناجمة عن التوترات فى المنطقة. باعتبارها علامة تجارية عالمية، كانت شركة كوكا كولا موضع ترحيب فى مصر وأماكن أخرى فى المنطقة قبل عام 1966. لكن ممارسة الأعمال التجارية فى إسرائيل قضت على هذا الترحيب وقتها.

سحبت الشركة كل ما لديها من «خيط»، وضاعفت جهودها بشكل خاص على الحجة القائلة بأن انخراطها فى العالم العربى من شأنه أن يساعد فى التحديث والتنمية الاقتصادية. ومع ذلك، لم تتأثر «الجامعة العربية»، التى تضم مجموعة من الدول العربية بما فى ذلك مصر. لقد صوتوا لصالح فرض مقاطعة شركة كوكا كولا. وتم فرض الحظر رسميًا عام 1967.

وتُركت كوكاكولا لتشاهد كيف أصبحت علامتها التجارية فى العالم العربى مرتبطة بالإمبريالية والصهيونية. وتطلبت العودة إلى الأسواق العربية فى الثمانينيات تخفيفًا تدريجيًا للتوترات مع إسرائيل. فى غضون ذلك، تحولت مصانع التعبئة العربية التى عملت معها شركة كوكا كولا إلى المشروبات الغازية المنافسة بدلًا من ذلك، مما أحدث انقلابًا على شركة بيبسى كولا وغيرها من المنافسين.

أوكرانيا والـ«آيس كريم»

فى تقريره، تحدث الكاتب عن أن أزمة روسيا وأوكرانيا أدت إلى خلق توترات بين مصالح الشركات والضغوط للانحياز إلى جانب ما بشكل صارخ. والشركات التى أمضت عقودًا من الزمن فى تعزيز وجودها فى روسيا، إمّا علقت عملياتها طوعًا فى ذلك البلد أو غادرت (أو واجهت ضغوطًا كبيرة للمغادرة) مع بدء العقوبات الدولية. 

بعض الشركات صنعت أزمتها بأيديها مثل «بن أند جيرى» لتصنيع الـ«آيس كريم» ومقرها ولاية «فيرمونت»، التى انحازت إلى أحد الجانبين فى الصراع الروسى الأوكرانى. ففى فبراير وقبل أيام قليلة من الحرب، غرد فريق وسائل التواصل الاجتماعى بالشركة: «لا يمكنك منع الحرب والاستعداد لها فى نفس الوقت. ندعو الرئيس بايدن إلى تهدئة التوترات والعمل من أجل السلام بدلًا من الاستعداد للحرب. إن إرسال آلاف إضافية من القوات الأمريكية إلى أوروبا ردًا على تهديدات روسيا ضد أوكرانيا لن يؤدى إلا إلى تأجيج نيران الحرب».

ربما كان فريق Ben & Jerry على علم بالمخاطر، ولكنه قرر الاستمرار فى ذلك. ربما لا تزال روح المؤسس المشارك بن كوهين، الذى يلقى باللوم على الاستفزازات الأمريكية فى الغزوات الروسية، باقية فى الشركة. أو ربما حسبوا أن الحفاظ على معارضة الحرب سيكون بمثابة إشارة مكلفة إلى أن علامتهم التجارية هى فى الواقع «معادية للثقافة». فحتى التصريحات المضادة للثقافة من الناحية الأدائية يمكن أن تهدف إلى تعظيم قيمة العلامة التجارية، بعد كل شيء. قد يرغب مديرو العلامات التجارية العاديون فى الابتعاد عن الصراع، لكن الاستراتيجيين قد يرون إمكانية ظهور شكل من أشكال الرأسمالية الناشطة.

 

 

منذ ذلك الحين، أعربت العلامة التجارية عن دعمها لمنظمة «صوت إلى البرلمان» (التمثيل الدائم للأمم الأولى فى البرلمان الأسترالى)، وأصدرت بيانًا يفيد بأن «الولايات المتحدة تأسست على أراضى مسروقة للسكان الأصليين»، ورفعت دعوى قضائية ضد الشركة الأم «يونيليفر» بسبب مبيعاتها فى إسرائيل والضفة الغربية. وأدت هذه الإجراءات إلى المقاطعة والانتقادات من المحافظين مثل السيناتور مايك لى والناقد بن شابيرو ولكن، بالطبع، من المشكوك فيه أن مثل هذه الانتقادات تضر العلامة التجارية بين المؤمنين بها.

الصين.. تحدٍ جديد

يختم الكاتب تقريره: العلاقات الدولية معقدة بشكل «شيطانى -  وحشى»، فـ«ضربة» اليوم يمكن أن تكون «خطأ» الغد. ويمكن للأحداث أن تحول رسالة تبدو جيدة الصياغة أو «صفقة تجارية» غير ضارة إلى «كارثة علاقات عامة مفاجئة». وحتى تاريخ الشركات يتحول إلى «قنابل موقوتة»، مع اكتشاف حقائق محرجة بشكل لا يمكن التنبؤ به. 

ويمكن أن تشهد السنوات المقبلة ظهور المزيد من المشاكل. وقد يشكل صعود الصين، على وجه الخصوص، مشكلات للشركات التى تواجه خيارات بين موقف «بكين» الثابت بشأن قضايا مثل التبت وتايوان، وقيم مثل حرية التعبير، أو الأسواق فى أماكن أخرى. 

عندما قام داريل مورى، مدير عام «هيوستن روكتس»، بالتغريد دعمًا للمحتجين فى هونج كونج عام 2019، توقف تليفزيون الصين المركزى عن عرض مباريات الدورى الأمريكى لكرة السلة للمحترفين، وهى ضربة قوية للدورى الذى يعتمد على الصين للحصول على إيرادات دولية كبيرة، ويمتلك أصحاب الأندية استثمارات كبيرة فى جمهورية الصين الشعبية. حتى أن نجم الدورى «ليبرون جيمس» انتقد «مورى» لأنه لم «يطلع على الوضع القائم». وقد انجذبت شركات أخرى إلى نزاعات بين الهند وباكستان. واضطرت شركة «تويوتا» لصناعة السيارات وسلسلة مطاعم البيتزا دومينوز إلى الاعتذار عن التغريدات حول كشمير.

ومع إعادة توازن العالم بين الغرب وبقية العالم، فإن الشركات التى استفادت من توسع الأسواق العالمية سوف تضطر إلى الإبحار فى بحار أكثر صعوبة. وستواجه العلامات التجارية والشركات الأم وجهًا ثابتًا بين اتخاذ المواقف وتجنب الصراع. ومع تسارع حدة الصراعات فى جميع أنحاء العالم، فإن الضغوط الاجتماعية والسياسية المرتبطة بهذه الاختيارات سوف تزداد سخونة.