«أبو الصُلح».. غناء.. كاريكاتير.. وأحزان أيضًا

تامر يوسف
هو أحد من أثروا وشاركوا فى تشكيل الوجدان الثقافى للشعب المصرى بمختلف أطيافه على مدار ما يقرب من أربعة عقود، حيث ركز إبداعه فى أكثر من مجال فنى. وكان إبداعه غزيرًا ومدهشًا ومتنوعًا. تركزت فى رسم الكاريكاتير والكتابة والشعر والغناء والسينما والمسرح، حيث كانت رؤيته فى بداياته بأن يتجول بين الفنون حتى يتغلب أحدها على الآخرين ويكمل معه المسيرة ويستمر.
وبالرغم من أن رسم الكاريكاتير تفوق فى هذه المرحلة وأخذ نصيب الأسد من وقته واهتمامه، فإنه لم يجد مفرًا من أن يتواجد وبقوة وبثبات فى سائر الفنون الأخرى. ليثبت للكل أن باب الفن مفتوح على مصراعيه أمام الجميع شريطة التركيز والتعمق فى الفكرة والمضمون.

هو وبحق الأب الروحى لشعر العامية. وهو بلا نقاش أبو الكاريكاتير المصرى، حيث تميزت أعماله بمواكبة الأحداث ونقدها. أثار الرأى العام بآرائه الصائبة، بالإضافة إلى خفة ظله وبعده عن النمطية. باختصار نحن أمام سيرة عطرة لمبدع عبقرى. يمشى على الأرض أحيانًا. ويحلق فى سماء وعنان الإبداع طول الوقت.
هو محمد صلاح الدين بهجت أحمد حلمى. الذى اشتهر باسم صلاح جاهين. من مواليد القاهرة فى 25 ديسمبر 1930 لأسرة قاهرية. وبالأخص فى 12 شارع جميل باشا بشبرا. وحول نشأته فهو حفيد الصحفى السياسى أحمد حلمى ابن حى الحسين الذى كان كاتبًا وثائرًا. طلع على الناس فى جريدة اللواء، بفرائد كان لها بينهم صوت وجرس، ومشى فى درب الكفاح الوطنى جنبًا إلى جنب مع مصطفى كامل، ومحمد فريد. وتم اتهامه بالعيب فى الذات الملكية لمعارضته للخديو عباس حلمى الثانى وتم سجنه. فكرمته الثورة فيما بعد وأطلقت اسمه على أحد الشوارع الكبرى بحى شبرا.
وجاهين هو الابن الأكبر والأخ الوحيد لإخوته البنات الثلاث. تجول بين ربوع محافظات مصر بسبب عمل والده، حيث كان وكيلاً للنيابة وتدرج فى عمله حتى أصبح قاضيًا ورئيسًا لمحكمة استئناف المنصورة، ولهذا السبب تنقل بصحبة أسرته من محافظة إلى أخرى حتى استقر مرة أخرى بالقاهرة بعد 12 سنة من التجوال فى القطر المصرى. وهو ما شكل وجدان صلاح جاهين طفلاً وفجرت لديه طاقات كبيرة فى الفن، حيث تنقل من مدرسة لأخرى. عاش بين ربوع الطبيعة فى الريف. ورأى بعينيه الشعب فى أعمق أعماقه بتقاليده وعاداته وحكاياته وأساطيره وأغانيه ورقصاته.

سؤال جعلنا نرجع لسنوات الصبى لهذا الفنان الكبير والتى صاغها فى حوار صحفى بسيط أجراه تحت عنوان «نقطة التحول فى حياتى» وكان قد نشر بمجلة سمير - التى تصدر عن دار الهلال - فى عدد 14 سبتمبر 1969 متحدثًا عن طفولته، حيث كشف صلاح جاهين مصرحًا: كان والدى وكيلاً للنيابة ثم قاضيًا.
وكان يريدنى أن أتخرج فى كلية الحقوق وأصير محاميًا أو وكيلاً للنيابة وأسلك دربه. وخلال إقامتنا فى أسيوط مرضت بالتيفود، وكان عمرى وقتها 12 عامًا. وأثناء مرضى كان والدى يسهر معى ويقرأ لى كتابًا استعاره من مكتبة مدرسة الأمريكان بأسيوط، يحتوى على مجموعة قصص من حياة الفنانين وكفاحهم، ومن هنا أحببت الفن.
وتابع جاهين حديثه: وكان لتأثير مرضى، وقراءة حياة الفنانين وكان للمنظر الخلاب الذى شاهدته من النافذة أثر كبير فى تحول مجرى حياتى إلى طريق الفن والرسم بصفة خاصة. وهكذا بدأت أعنى بدراسة الرسم، وأرسم فى البداية وجوه من حولى إخوتى وأصدقائى، وبعد عام واحد رسمت لوحتى المشهورة مشهد من «جحيم دانتى» وكنت وقتها ما زلت طالبًا بالصف الثانى الثانوى.

صحفى وكاريكاتورى
كانت بدايات صلاح جاهين الفنية مع فن التمثيل وقتما كان طالبًا. وكان مولعًا بالمسرح، لكن هذا الأمر لم يجد ترحيبًا لدى والدته. التى حذرته من التمثيل والاعتماد عليه كمصدر رزق ومجال للحياة. واستجاب جاهين لرؤيتها فى هذا الشأن. ولم يجد جاهين وقتها سوى الرسم ليفرغ فيه طاقته الإبداعية. وأخذ يرسم مشاهد درامية مسرحية بتمكن وببراعة، كما أنه كان يرى أن الفنان محمد عبدالمنعم رخا هو الأب الروحى الذى استقى منه فن الكاريكاتير.
ولأنه كان قريبًا جدًا من الوسط الصحفى وتربطه صداقات مع بعض الصحفيين الشبان. فوجد نفسه يتودد للصحافة ويرسم الماكيتات الصحفية ويصمم الصفحات ويرسم بعض الرسوم الساخرة فى هوامش هذه الصفحات. وكانت بدايته الصحفية مع جريدة «بنت النيل» وهى مجلة نسائية شهرية، ثم انتقل بعدها للعمل بجريدة «التحرير».

وفى إحدى الجلسات اقترح عليه أحد النقاد بأن ينتقل للعمل بمجلة روز اليوسف خلفًا للفنان الكبير عبدالسميع الذى قد ترك العمل بالمجلة كرسام وانضم إلى كتيبة جريدة الأخبار ليشارك الفنان المخضرم رخا والفنان الكبير صاروخان رسم الكاريكاتير بالأخبار. ولم ير جاهين نفسه رسامًا للكاريكاتير فى هذا الوقت، بل لم ير نفسه الشخص المناسب ليحل محل عبدالسميع. ورفض الفكرة شكلاً وموضوعًا، حتى عرض عليه الكاتب الصحفى الكبير أحمد بهاء الدين بنفسه – وكان يشغل فى هذا الوقت منصب مدير تحرير روزاليوسف – العمل بالمجلة كرسام للكاريكاتير. ووافق جاهين على الفور وانضم إلى كتيبة روز اليوسف عام 1955 ليبدأ تحديًا يثبت فيه قدراته وإمكانياته كرسام متمكن للكاريكاتير.

وكانه بدايته مع روزاليوسف مختلفة بعض الشىء عما ينشر بالصحف الأخرى، حيث كان الكاريكاتير إما سياسيًا موجهًا لصالح قضايا واضحة ومفهومة للقارئ، أو ساخرًا أقرب لكونه نكتة لإضحاك القارئ، لكن جاهين لمس برؤيته المتعمقة للشارع المصرى مدى معاناة المواطن داخل وسائل النقل. ونقد فكرة تشغيل أثير الراديو المشوش الصوت داخل حافلات النقل العام لإلهاء المواطن ليتحلى بالصبر على الزحام داخل الباصات. وكانت هذه البداية هى الطريق الذى مهده لنفسه لميلاد نجم ساطع فى عالم الكاريكاتير.
ومع ظهور أول عدد من مجلة «صباح الخير» فى إبريل 1956. لمع نجم صلاح جاهين وأصبح أكثر توهجًا. وهذا ليس بالغريب، حيث إنه أحد رواد مدرسة صباح الخير الكاريكاتورية، بل أكثرهم إبداعًا من حيث تناول الأفكار وغزارة الإنتاج. وهنا لابد أن نذكر أن جاهين من مؤسسى مجلة «صباح الخير». وأنه تدرج بالمجلة حتى وصل إلى منصب رئيس تحرير فى عام 1966.
ولهذا المنصب حديث وواقعة لابد أن تذكر وتسرد، حيث كان جاهين فى هذا الوقت قد انتقل للعمل بجريدة الأهرام. وكان الكاتب الصحفى الكبير أحمد بهاء الدين فى هذا الوقت يشغل منصب رئيس مجلس إدارة روزاليوسف ودار الهلال معًا. وكان الكاتب الروائى الكبير إحسان عبدالقدوس رئيسا التحرير «صباح الخير»، إلا أن الكاتب الصحفى الكبير محمد حسنين هيكل رئيس مجلس إدارة الأهرام وأخبار اليوم معًا وقتها، قد قرر اختطاف عبدالقدوس لينضم للزخم الكبير من عمالقة الكتاب بجريدة الأهرام، فكان الرد من بهاء الدين أن اختطف جاهين من الأهرام واستقدمه من جديد لمجلة «صباح الخير» ليتولى منصب رئيس تحريرها. وهو ما زاد من مبيعات المجلة تلقائيًا. فأفكار وأعمال صلاح جاهين كانت تلقى رواجًا كبيرًا بالشارع المصرى. ووقتها زادت مبيعات المجلة من 27 ألف نسخة إلى 65 ألف نسخة. وكان جاهين يطمح فى أن يحول «صباح الخير» لمجلة كاريكاتورية ساخرة تخاطب القراء بالرسم أسوة بـ Punch الإنجليزية وle Canard Enchainé الفرنسية.

وكان الكاتب الصحفى الكبير لويس جريس يشغل منصب مدير تحرير مجلة «صباح الخير» عقب عودته من ألمانيا. وناقشه جاهين فى فكرة أن تعتمد المجلة قلبًا وقالبًا على الكاريكاتير. وطلب منه الاستغناء عن المحررين ونقلهم لمجلة روزاليوسف والإبقاء على الرسامين فقط، وهو ما قابله جريس بالرفض وناقشه بالمنطق والحجة، متعللًا بأن الكتاب الصحفيين قد رتبوا حياتهم على العمل بالمجلة منذ إصدارها الأول.
ومن الصعب أن نغير من وضعهم وتحويل مسارهم بقرار عفوى.
تزامن هذا الموقف والحوار الذى دار بينهما مع انشغال جاهين بزيجته الثانية من السيدة منى قطان، الأمر الذى استغرقه أكثر من متابعة المجلة حتى تزوجا فى يونيو 1967، ثم حدثت النكسة وانخفضت مبيعات المجلة تلقائيًا، وأصيب جاهين بالاكتئاب.
وفى يوم 15 يونيو اتصل جاهين بجريس فى الصباح الباكر قبل أن يتوجه إلى المجلة ليخبره بأنه قد ترك له هدية فى درج مكتبه. كانت الهدية عبارة عن رسم بيانى لمبيعات «صباح الخير» قبل وبعد النكسة وكتب عليه: مبروك عليك المجلة!. وبعدها عاد جاهين من جديد ليرسم الكاريكاتير بجريدة الأهرام. ويملأ مساحات رسمه من الكاريكاتير بقصاصات ورق الزيبتون التى تضيف بعض التأثيرات والملامس على الرسم. ليجعلها أكثر غنى وبهاءً.

يذكر أن أول أجر تقاضاه صلاح جاهين من الرسم كان خمسة جنيهات. وكان ذلك نظير رسم خلفية لوحة قام برسمها لأحد المصورين الفوتوغرافيين. الذى وضعها كديكور فى الاستوديو حتى يقف أمامها الزبائن الذين يحضرون ليلتقط لهم الصور التذكارية وغير التذكارية، وكان وقتها فى الصف الثانى الثانوى، بحسب التصريحات التى نشرت له عبر مجلة سمير.
مسرحيًا
كان صلاح جاهين مولعًا بالمسرح منذ الصغر، لذلك كتب العديد من المسرحيات، بل كتب بعض المسرحيات الاستعراضية. وأعاد كتابة أعمال مسرحية خالدة مثل: دائرة الطباشير القوقازية للكاتب المسرحى الألمانى بيرتولت بريخت. يذكر أن جاهين قد نشط فى العمل المسرحى عقب النكسة، إلا أن أعماله المسرحية لم تجد ذلك النجاح والتهافت عليها كما كان يتوقع. فبدأ مباشرة فى توجيه أعماله نحو السينما والتليفزيون.

أنتج العديد من الأفلام الخالدة فى تاريخ السينما المصرية، والتى تعد علامات فارقة فى تاريخ السينما المصرية، ومنها فيلم «أميرة حبى أنا» وفيلم «عودة الابن الضال»، ولعبت زوجته الثانية السيدة منى قطان أدوارًا فى بعض الأفلام التى أنتجها.
كما كتب سيناريو فيلم «خلى بالك من زوزو» والذى يعتبر أحد أكثر الأفلام رواجًا فى السبعينيات، إذ تجاوز عرضه حاجز 54 أسبوعًا متتاليًا، كما كتب أيضًا أفلام «أميرة حبى أنا» و«شفيقة ومتولى» و«المتوحشة»، كما شارك بالتمثيل فى أفلام «شهيدة الحب الإلهى» عام 1962 و«اللص والكلاب» 1962 و«لا وقت للحب» عام 1963 و«المماليك» 1965.

ينظر البعض إلى أن جاهين هو متبنى موهبة على الحجار، وأحمد زكى، وشريف منير وغيرهم، كما ارتبط بعلاقة قوية مع الفنانة سعاد حسنى، حيث دفعها إلى العمل مع أحمد زكى فى مسلسل «هو وهى»، اللذين التقيا من قبل فى فيلم «شفيقة ومتولى» تأليف الكاتب والشاعر شوقى عبدالحكيم، وإخراج على بدرخان، وسيناريو وحوار صلاح جاهين.
وشارك جاهين فى خمسة أفلام كممثل، وهى: «شهيدة الحب الإلهى، ومن غير ميعاد، ولا وقت للحب، واللص والكلاب»، وأخيرًا فيلم «المماليك».
وجسد دور عمّار فى فيلم «شهيدة الحب الإلهى»، وقام بالغناء أيضًا، حيث غنى أغنية هى الوحيدة التى كتبها جاهين بنفسه ولنفسه فى هذا الفيلم.

فى أواخر الخمسينيات كان المخرج صلاح أبوسيف يستعد لتصوير فيلم «لا وقت للحب» المأخوذ عن قصة حب - للكاتب الكبير يوسف إدريس. التى كتب لها السيناريو الروائى الكبير نجيب محفوظ، وشاركه فى كتابته صلاح أبوسيف بنفسه. وقد اختار فاتن حمامة ورشدى أباظة كبطلين للفيلم. وراح يفكر فيمن سوف يجسد شخصية «بدير» فى هذا الفيلم. وتوجه فكره وألهمه نحو الفنان صلاح جاهين. الذى رآه الأنسب، بل شخصية جاهين فى الحقيقة هى الأقرب إلى شخصية بدير، لكنه تساءل مع نفسه: كيف يمكن أن يتواجد صلاح جاهين بين فاتن حمامة ورشدى أباظة؟
فتوجه على الفور إلى يوسف إدريس وقطع عليه تفكيره سائلًا: ما رأيك فى صلاح جاهين ممثلاً؟! وغمغم إدريس: صلاح الذى أعرفه وأحبه يتسم بعبقرية تتسع لكل شىء موهوب يتبنى الموهوبين من الشعراء والرسامين، وهو عون لكل وافد جديد على الساحة الفنية، والأمر يتوقف على الصورة التى تقدمه فيها على الشاشة.

صلاح فى الشعر
كان الرسم يأخذ كل وقت جاهين وهو طالب، لذلك كان يحرم من الرسم وقت الدراسة. فوجد نفسه يكتب الشعر كبديل للرسم. وكانت حيلة ذكية، حيث إن لا أحد كان يدرى إن كان يذاكر أم يكتب الشعر. ومن هنا كانت بدايته مع الشعر، حيث كتب الشعر العمودى فى هذه المرحلة. ومع نضوجه الفكرى وجد نفسه غارقًا فى غرام الشعر العامى. وقد لاقى بعض المشاكل والهجوم عليه بسبب هذا التوجه. إلا أنه صمد وواصل إبداعه مع الشعر العامى.
ومن أوائل الأعمال التى لمعت ولاقت نجاحًا باهرًا للفنان صلاح جاهين كان أوبريت «سوق بلدنا»، وأذيع عبر الإذاعة المصرية.
وتعد رباعيات جاهين الشعرية العامية الفلسفية هى قمة أعماله فى مجال الشعر. وتجاوزت مبيعات الرباعيات فى طبعة الهيئة المصرية العامة للكتاب فقط، أكثر من 125 ألف نسخة. وقام بتلحين هذه الرباعيات الموسيقار سيد مكاوى وغناها المطرب على الحجار، كما شارك فى العزف الموسيقار هانى مهنا. وقام بتأليف ما يزيد علي 161 قصيدة، منها قصيدة «على اسم مصر» وأيضًا قصيدة «تراب دخان» التى ألفها عقب نكسة يونيو 1967.

الشعر الغنائى
ما من مطربة أو مطربة إلا وتمنى أو تمنت أن تغنى من أشعار العبقرى صلاح جاهين. وكان جاهين قد كتب فى حياته لكبار المطربين، كما أن له مجموعة كبيرة من القصائد الوطنية التى تحولت بطبيعة الحال إلى أغانٍ وطنية.
مثل مع عبدالحليم حافظ وكمال الطويل كتيبة عمل أفرزت أجمل الأغانى الوطنية التى كانت تلهب حماس مصر بأثرها.
وأغنية «بالأحضان» و«صورة» و«احنا الشعب» من أشهر ما غنى العندليب الأسمر من أشعار صلاح جاهين، كما أن له مجموعة كبيرة من الأغانى الخفيفة والرومانسية السلسة.
ومن ألطف الأغانى «حدوتة» من غناء محمد قنديل وألحان سيد مكاوى.
وأهم ما تم تلحينه من إبداعات جاهين هو النشيد الوطنى «والله زمان يا سلاحى» والذى استمر فى الفترة من 1958 وحتى 1977. وهذا النشيد من تلحين الموسيقار كمال الطويل ومن غناء كوكب الشرق أم كلثوم، حيث طلب كمال الطويل من صلاح جاهين أن يكتب أغنية لتواكب الأحداث إبان العدوان الثلاثى عام 1956. كتب جاهين مقدمة الأغنية بعد عشر دقائق من اتصال الطويل، وأخذ يواصل باقى الأغنية ويبلغه له جزءا بعد جزء عبر الهاتف حتى انتهى من الأغنية بالكامل.

كما يرجع أنه عقب انتصار السادس من أكتوبر عام 1973 كتب جاهين أغنية «صدقت يا ابنى أنت» وهى التى غنتها سعاد حسنى وتم تصويرها سينمائيًا بشكل استعراضى يتوافق تمامًا مع تجليات الانتصار.
وألّف جاهين أوبريت الليلة الكبيرة الأشهر للعرائس فى مصر على الإطلاق بين عامى 56-1957. وقدم عبر الإذاعة المصرية عام 1957، حيث كان يذاع يوميًا، وقدمه مسرح القاهرة للعرائس فى أول عروضه عقب افتتاحه. تحت رئاسة الكاتب الصحفى راجى عنايت. وشارك جاهين فى إعداده نخبة منتقاة من مبدعى مصر. تم عرض الأوبريت للمرة الأولى فى عيد العمال مايو عام 1961.
وظل صلاح جاهين فى التعاون مع مسرح القاهرة للعرائس حتى عام 1964. وكتب عدة أعمال تم عرضها، لكن لم تأخذ أى من هذه الأعمال شعبية مثل «الليلة الكبيرة» الذى يعد ملحميًا تضافرت فيه كل الجهود الإبداعية لإنجاحه.
ولأوبريت الليلة الكبيرة قصة ورواية لابد من ذكرها.
عام 1958 شاهد الرئيس جمال عبدالناصر فريق مسرح العرائس الرومانية «سندريكا» وهو يقدم عروضه لأول مرة بالقاهرة. وأعجب بهم، فطلب من ثروت عكاشة وكان وزيرًا للثقافة فى هذا الوقت، إنشاء فرقة مصرية للعرائس. على أن تقوم الفرقة الرومانية بتدريب الفنانين المصريين وتأهليهم لهذا الفن، وهو ما تم من خلال ورش تدريبية.

وقبل مرور عام أصبح لمصر أول فرقة عرائس، تحت اسم «فرقة مسرح القاهرة للعرائس» وقدمت عرضها الأول فى العاشر من مارس 1959. بمسرحية «الشاطر حسن» من تأليف جاهين.
بعد نجاح الأوبريت أصدر الرئيس جمال عبدالناصر توجيهاته ببناء مسرح دائم للعرائس.
وبهذا القرار، تحمس مصمم العرائس «ناجى شاكر» وسعى نحو تحقيق حلمه بتقديم أوبريت غنائى من خلال العرائس، وما إن طلب منظمو المهرجان العالمى للعرائس فى «بوخارست» أن يقدم المصريون عرضًا للعرائس، حتى قفز إلى ذهن «ناجى شاكر» أوبريت «الليلة الكبيرة» لصديقه الصدوق «صلاح جاهين»، بعدما استمع إليه فى الإذاعة أكثر من مرة.
واتفق الثلاثى صلاح جاهين وسيد مكاوى وناجى شاكر - مصمم العرائس والمعيد بالفنون الجميلة - على تصميم أكثر من 45 عروسة تحمل جميعها مصرية الهوى، مما دفع مدير المسرح الفنان والكاتب راجى عنايت أن يقرر بأن يكون أول عمل يفتتح به المسرح هو «الليلة الكبيرة». ليتم على الفور تكوين فريق عمل لتقديم الأوبريت، وعهد إلى المخرج صلاح السقا بالسيناريو والإخراج، ونفذ الديكور مصطفى كامل وعاونته الفنانة التشكيلية زينات خليل التى ما إن رأت عيناها الشيخ سيد مكاوى حتى أعجبت به وإبداعه. ثم تتعدد اللقاءات بينهما خلال العرض، وتمكن الحب من قلبيهما، وسرعان ما تزوجا.
تجارب الغناء
كان لصلاح جاهين بعض التجارب الغنائية مع عدة ملحنين. معظم هذه التجارب مع الموسيقار سيد مكاوى الصديق الصدوق لجاهين. كان كلاهما مكملاً للآخر، وتجمعمهما جلسات خاصة، وهناك بعض التسجيلات التى توثق غناء صلاح جاهين وتجليه على عزف صديقه المقرب مكاوى.
وكان جاهين من أكثر من تبنوا المواهب وأكثرهم دعمًا للأصوات والحالات المتفردة فى الغناء، فعلى سبيل المثال كان جاهين متحمسًا لموهبة المطربة إيمان يونس التى غنت فى فرقة المصريين لمؤسسها وقائدها الموسيقار هانى شنودة، لذلك شاركها فى أغنية الشوارع «حواديت» التى كتب كلماتها بنفسه، كما كتب لنفس الفريق أغنية «متحسبوش يا بنات» والتى غنتها أيضًا إيمان يونس، كما كتب أيضًا لنفس الفريق أغنية «ماشية السنيورة» التى غنتها المطربة منى عزيز.
وكتب جاهين وغنى بنفسه «يا أبوزعيزع، والبيانولا» التى غناها فى حفل على موسيقى البيانو أمام الجمهور وقام بأداء استعراضى بسيط أثناء الغناء.
الغريب أنه بالرغم من كل هذا الإبداع والانغماس فى الفن، فإنه لم يفكر يومًا فى أن يخرج فيلمًا أو حتى فى أن يدير عملاً فنيًا. واكتفى بكونه صانع البهجة والإبداع. ووجد أن دوره كاستشارى فنى يعد أكثر إفادة للعمل نفسه، وهو ما تحقق بالفعل فى فيلم «الكرنك»، وقد ذكر المخرج الكبير صلاح أبوسيف حول رأيه فى صلاح جاهين أن هناك مثل بلدى يقول: «سبع صنايع والبخت ضايع.. لكن الحقيقة أن صلاح جاهين كدب المثل ده».
تزوج صلاح جاهين مرتين، الأولى عام 1955 من السيدة سوسن محمد زكى - الرسامة بدار الهلال. أنجب منها أمينة وابنه الشاعر بهاء. ثم عام 1967 من الفنانة منى جان قطان وأنجب منها سامية.
وعانى جاهين صحيًا بسبب وزنه الزائد. ويذكر أن عند انتقاله للعمل بجريدة الأهرام تم عقد ثلاث مخصصات مالية له. أولهما كانت كراتب، وثانيهما كانت لورق الزيبتون وأدوات ومعدات الرسم، وثالثهما كانت للعلاج والأدوية.
لكنه كان قد أصيبَ بالإحباط والاكتئاب بعد هزيمة 67 وكان الأسى مضاعفًا بعد غناء أم كلثوم لقصيدته راجعين بقوة السلاح عشية النكسة.
وتزامنت النكسة مع بلوغ جاهين مرحلة الكهولة. فعزل نفسه وصار يعمل من البيت. وكان يأتى إليه مبعوث جريدة الأهرام. أو الرجل الغامض – كما كان يلقبه – على موتوسيكل ليستلم منه الكاريكاتير الذى سوف ينشر فى اليوم التالى.
وأصبح جاهين يمارس الحياة من داخل بيته. لتأتى الحياة كلها إليه وهو جالس فى مكانه. محبوه والمقربون منه.. أصدقاؤه وأبناؤه. ويأتى كل منهم بحكاياته.
ووقتها اتجه إلى الشعر التأملى العميق والأغانى الخفيفة مثل : «يا واد يا تقيل» التى غنتها سعاد حسنى. ووفق مصادر متعدد، كانت هناك وللآن معلومات متضاربة حول النهاية.
فقد لازمته حالة من الاكتئاب حتى وصل به الأمر إلى تناول جرعة زائدة من الحبوب المنومة التى تسببت فى وفاته فى 21 أبريل عام 1986 عن عمر يناهز الستة وخمسين عامًا. تاركًا وراءه تراثًا كبيرًا من القصائد والرسوم الكاريكاتيرية والأفلام السنيمائية التى ما زالت تُعرض حتى يومنا هذا.
آخر ما قام به قبيل وفاته مباشرة، كانت زيارة لسعاد حسنى، حيث طلب من الفنان شريف منير بأن يصطحبه إليها. وقاد سيارة جاهين وكانت ماركة بيتلز – فولكس فاجن نحو بيت سعاد. وانتظره فى السيارة حتى انتهى من زيارته ثم أعاده إلى المنزل.
وعندما رحل، رحلت معه ضحكة سندريلا الشاشة سعاد حسنى وابتسامتها الرنانة وبهجتها وحبها للحياة، إذ إن جاهين كان قد تعرض فى أواخر أيامه لأزمة صحية جادة. ونقل على إثرها إلى المستشفى لمدة خمسة أيام كانت الأسوأ فى حياة سعاد وكل من حوله، ويحكى أن سعاد كانت فى قمة حزنها وهى ترى معلمها وأستاذها ووالدها الروحى وصديقها الغالى يستقبل الموت.
فى الواقع، لم يكن جاهين الأب الروحى لسعاد حسنى فقط، بل كان الأب الروحى والأستاذ والمعلم للكثير من مبدعى مصر والعالم العربى. لقد كان وبحق مؤسسة ثقافية إبداعية متنقلة فى صورة إنسان. وضع بصمته وأسس مدرسة إبداعية موثقة تحمل اسم أبوالصُلح. حامل لواء الإبداع والبهجة وخفة الظل.. ولابد أن تخلد أعماله بمتحف يحمل اسمه، فهو وبحق أبو الكاريكاتير المصرى.