قصر «المأساة» فى جورجيا
قام بها: باسم توفيق
فى العمارة الريفية المتطورة فى البلقان فى القرن التاسع عشر تكمن المحاولة الجادة للتقرب للنظام الأوروبى لأنه فى ذلك الوقت كانت معظم القوقاز والبلقان تطمح فى مواكبة المزاج الأوروبى والطفرة الأوروبية آنذاك على الرغم من ارتباطها بإمبراطوريتين عظيمتين وهما الإمبراطورية الروسية القيصيرية والإمبراطورية العثمانية.
لذا اتجهت العمارة فى الريف والمدن للأسلوب الأوروبى تعبيرًا عن التقدم والازدهار.
وهذا ما يحكيه لنا القصر الصغير للأمير الجورجى «لدولة جورجيا» ألكسندر شافشافاتزيه.
بل يحكى لنا القصر حكايات هذه الأسرة التى تقلبت بين الثراء والفقر والحب والموت.. ولايزال القصر شاهدًا على حياة أحد أهم الأسر النبيلة لجورجيا والقوقاز كلها.
يقع قصر ألكسندر شافشافاتزيه فى قرية تسيناندالى الجورجية التى تبعد حوالى 108 كيلومترات عن العاصمة تبليسى.
بناه فى الأساس جارسافين شافشافاتزيه والد النبيل ألكسندر الذى كان على علاقة وثيقة بروسيا القيصرية حتى إن ابنه ألكسندر ولد فى روسيا وكانت أمه فى العماد إمبراطورة روسيا نفسها، لذا كان أرسله الأمبراطور هرقل الثانى جارسافين والد الإسكندر لتوقيع معاهدة بين روسيا وبين جورجا بصفته أحد أهم نبلاء جورجيا.
سئم والد ألكسندر من الحملات العسكرية فانتقل إلى قرية تسيناندالى وابتاع الأرض التى بنى عليها القصر وشرع فى بنائه على الطراز الأوروبى عام 1818.
لكننا لا نستطيع أن نطلق على قصر شافشافاتزيه طرازًا أوروبيًا محضًا، فهو فريد من نوعه بين الطراز الأنجلوساكسونى والفينيسى الأندلسى وبين البسيط والمعقد.
فهو بسيط فى هيئته الخارجية ومعقد فى بنيته الداخلية كما فى تنوع خامات بنائه محاولة فريدة للموازنة بين البيئة التى بنى فيها القصر وبين الغاية الوظيفية منه وبين معادلة التحضر والجمال التى بدأتها عائلة شافشافاتزيه.
يتكون القصر من مبنيين متصلين يحدد بينهما مدخل القصر نفسه، والمبنى الأيمن أكبر بشكل واضح من الصرح الأيسر لأنه يضم مساحة الشرفة العلوية وأسفلها مساحة الممشى الخارجى لهذا الجانب والذى يشكل ما يطلق عليه منفذ الحديقة.
يعلو المدخل فى سقف القصر برج قصير مأخوذ من طراز العمارة الفينيسية أو بمعنى أدق عمارة القصور الفينيسية فهو يشبه كثيرًا أبراج قصر المتنزه السكندرى الذي يبزه طولًا وتنوعًا، السقف فى الأساس كان من الخشب المطلى بالملاط وتغطيه طبقة من القرميد على الطراز الأوروبى، لكنه بالطبع يحتفى أيضًا بالطراز الجورجى التقليدى الذى يمكن أن نطلق عليه أيضًا الطراز المالطى لأنه استخدم فى جزيرة مالطة بشكل واسع.
وتبدى هذا الاحتفاء فى الشرفات التى تنم تنفيذ أسوارها وأحجبتها من الخشب المفرغ والمنقوش على الطريقة الجورجية التى تعود جذورها للزخارف الإسلامية وبخاصة الطراز الأصفهانى.
ويعتبر القصر انعكاسًا لتطلعات ألكسندر تشافتشافاتزيه، لذلك فهو لم يطبق تقنيات الهندسة المعمارية الأوروبية فى البناء والتخطيط الداخلى فحسب، بل قام أيضًا بوضع حديقة إنجليزية حول قصره.
توجد بها أشجار ماغنوليا وغابة الخيزران وشجرة الزيزفون الضخمة التى انقسمت تقريبًا إلى نصفين بسبب صاعقة من البرق يقال إنها ضربت القصر منذ سنوات.
لم يكن ألكسندر تشافتشافاتزيه قائدًا عسكريًا فحسب، بل كان أيضًا أكثر الشخصيات تعليمًا فى عصره. كان كاتبًا ومترجمًا ومتعدد اللغات ومالكًا كبيرًا للأراضى وشاعرًا عظيمًا. وصل شعره إلى أيامنا هذه والأغانى الشعبية التى كتبها. أصبح منزله مركزًا للحياة الفكرية الجورجية فى القرن التاسع عشر، حيث تجمعت الشخصيات الثقافية والاجتماعية. بدأ أول عزف لبيانو كبير فى جورجيا فى هذه الجدران، واستخدمت عائلة شافشافاتزيه أول طاولة بلياردو وعربة أحصنة. واستضاف الشعراء الروس العظماء مثل ألكسندر بوشكين وميخائيل ليرمونتوف والشاعر الديسمبرى ألكسندر أودوفسكى والكاتب الفرنسى ألكسندر دوما.
يشاع بشكل كبير أن أسرة ألكسندر حالفها سوء الحظ وبشكل عجيب، ففى عام 1846 كان ألكسندر ينزل من عربته وهو فى مدينة تبليسى فتعلق طرف ثوبه بعجلات العربه فسقط على رأسه ومات على الفور.
ومنذ رحيل النبيل ألكسندر توالت المحن على أسرته النبيلة التى كانت خير مثال للأسرة الراقية فى جورجيا خاصة وفى القوقاز عامة بشكل عام.
وفى عام 1854، قام رجال قبائل ليزجين من جبال داغستان بنهب منزل تشافتشافاتزيه.
ويقال إنهم خطفوا 23 امرأة وطفلًا وخدمًا وانطلقوا إلى القوقاز وضربوهم بعد أن ربطوهم فى سروج الخيل. وطالب زعيمهم شامل بعودة ابنه جمال الدين، الذى كان قد تم تسليمه إلى الروس كرهينة قبل 15 عامًا، وهو فى الثامنة من عمره.
استغرقت المفاوضات تسعة أشهر، ولكن فى النهاية تم تبادل الرهائن (مع 14000 روبل فضى للمتمردين).
للأسف فإن جمال الدين نفسه لم يكن يريد أن يعيش فى جبال داغستان البدائية ويترك الحياة الروسية المتقدمة والمرفهة والتى اعتاد عليها، ومن ثم بعد أن ترك روسيا.. وعاد وتوفى بعدها بستة أشهر بعد أن أصابه الاكتئاب.
بعدها اضطر ديفيد نجل الإسكندر لرهن المنزل لدفع الفدية.
تمت إعادة الرهائن، لكن ديفيد لم يتمكن من سداد القرض وانتقل اقصر شافشافاتزيه إلى القيصر ألكسندر الثالث.
أصبحت الغرفة الرئيسية فى المنزل الآن متحفًا، مع لوحات وصور مثيرة للأشخاص والأحداث المرتبطة بالمنزل، بما فى ذلك لوحات تصور واقعة الاختطاف والفدية، بل بورتريه كبير لجمال الدين الداغستانى. وتعتبر نينو شافشافاتزيه ابنة ألكسندر من أقوى القصص الدرامية فى حياة القصر، وقد اشتق ممشى الحب الموجود فى حديقة القصر اسمه من حكايتها ولازال يسمى بهذا الاسم نسبة إلى وقائع هذه القصة الحقيقية.
التقت نينو بزوجها، الشاعر الروسى ألكسندر خربيدوف، فى مدرسة براسكوفيا أخفيردوفا. كان خربيدوف رجلًا يتمتع بذكاء هائل وإنجاز تعليمى غير عادى تم قبوله فى جامعة موسكو المرموقة، وبدأ دراسته فى قسم الآداب بالجامعة، وحصل على الدرجة الأكاديمية للعلوم عام 1812. وتابع دراسته فى كلية الحقوق، وتخرج فيها بدرجة «مرشح العلوم القانونية»، ثم انخرط فى العمل فى السلك الدبلوماسى الروسى الذى أرسله إلى بلاد فارس عام 1813.
بعد أن تزوجا هى وألكسندر خربيدوف قضيا بضعة أشهر فى القصر فى قمة السعادة، وكان هذا الممشى الموجود بالحديقة مكانهما المفضل فسمى لذلك ممشى الحب.
وبعد أن عاد خربيدوف لبلاد فارس ليدبر أموره ويعود، حيث كان يعمل فى سفارة روسيا هناك كانت العداءات مشتدة بين العامة وبين روسيا فاقتحم جمع من العامة سفارة روسيا وقتلوا من فيها ومن بينهم خربيدوف.
وكان قد أوصى قبل أن يفارق الحياة بأن يدفن فى تبليسى.
وقع الخبر كان على نينو كالصاعقة وحزنت حزنًا شديدًا حتى إنها لم تتزوج بعده أبدًا على الرغم أنه مات وهى فى سن ال16.
يمكن لزوار القصر زيارة تسع غرف فى المنزل، لا تزال تحتوى على أثاث أصلى، بما فى ذلك البيانو الفرنسى (مع لوحة مفاتيح قابلة للطى). كان يستخدمها خربيدوف مع مجموعة كبيرة من البورتريهات لأفراد العائلة، كما تبين الغرف كيف كانت الحياة الجيدة فى إقليم كاخيتى فى القرن التاسع عشر، وهنا نوجه شكرًا خاصًا للأميرة تمار شافشافتزيه لدعوتنا لزيارة القصر والتجول فى جنباته.