الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

شبـــاك الجــوازات

ريشة: سماح الشامى
ريشة: سماح الشامى

حذرت هيئة الأرصاد الجوية من التعرض لأشعة الشمس المباشرة ونصحت بعدم الخروج، فدرجات الحرارة تتعدى الـ45 درجة مئوية.



لكنى قد عقدت النية على تجديد الباسبور... لم يعد ساريًا منذ سنوات، أوراقه جميعها بيضاء لم أحصل على تأشيرة واحدة خلال السنوات الماضية.

فقد قررت أن أقدم فى اللوترى الأمريكى. أخبرتنى صديقتى أن كثيرين يقع عليهم الاختيار، القليل يستطيع أن يسافر ويجد عملاً ويستقر، والأغلبية لا يستطيعون حتى الإقلاع من مطار القاهرة بعدما ارتفعت أسعار الطيران بشكل غير مسبوق.. فضلاً عن غلاء المعيشة فى أمريكا وزيادة معدلات البطالة.

قررت أن أجرب حظى، فكثيرًا ما راودنى حلم الفرار والهجرة تاركة كل شىء خلفى. 

تركت سيارتى فى أحد الشوارع الجانبية المواجه لقسم الشرطة هربًا من المخالفات والكلابشات.

سرت ما يقرب من ربع ساعة حتى أصل لقسم الشرطة.

وصلت بصعوبة، حرارة الجو أنهكتنى، الساعة تشير إلى أنها الثانية عشرة ظهرًا. 

سأنهى ما جئت من أجله فى ربع ساعة فمَن سينزل من منزله فى هذا التوقيت؟!

وأمام شباك الجوازات تفاجأت بالطابور الطويل الذى يمتد حتى الباب الآخر من الجهة الأخرى لقسم الشرطة يلتوى وينحنى فى بعض أجزائه ويتكدس فى أنحاء أخرى.

الجو خانق؛ بلا نسمة هواء.. كريم الشمس بدأ فى الذوبان، المناديل التى معى أوشكت على النفاد.

الكحل فى عينى بدأ يرسم هالات سوداء أراه واضحًا فى كاميرا الموبايل، وجهى ملطخ ببقايا الماسكرا.

بحثت فى حقيبتى عن ربطة شعر صغيرة لأعقص بها شعرى المبتل عرقًا.

نموذج التقديم والباسبور القديم استخدمتهما كمروحة يدوية.

الحرارة لا تُحتَمَل، الرجل الواقف خلفى ذو اللحية الكثيفة يدعو بصوت مسموع: اللهم أجرنا من النار.

الطابور يتحرك ببطء، الكل بتململ، القليل يحافظ على النظام، الأغلبية تريدها فوضى..

حتى الحفاظ على المكان فى الطابور أصبح مهمة صعبة فى هذه الدنيا.

وفجأة اشتدت خناقة بين سيدة فى منتصف العمر ممتلئة القوام ترتدى عباءة سوداء وطرحة سوداء تكشف نصف شعرها النحاسى اللون.

تتزين بقطع كبيرة من الذهب وترسم عينيها بكميات من الكحل الأسْوَد وبين فتاة راقية ماكياچها بسيط ترتدى ملابس صباحية مريحة.. تى شيرت وچينز وتضع حجابًا أبيض أنيقًا على رأسها.

فقد حاولت المرأة ذات العباءة السوداء أن تدخل فى منتصف الطابور وتدّعى أن هذا مكانها وأنها كانت تقف بعيدًا كى (لا تحتك بأجساد الرجال).

وعندما دافعت الفتاة عن مكانها اشتعلت الخناقة والشتائم فلم ترد الفتاة الراقية إلا بكلمة واحدة على المرأة ذات العباءة السوداء (خليكى احلمى)، أى توهّمى أنك ستدخلين فى الدور قبلى، وهذا لن يحدث.

فردت المرأة ذات العباءة السوداء بصوت عالٍ أشبه بالصراخ وبلهجة شعبية: (أنا ما بحلمش ياحبيبتى أنا اللى بحقق).

وقعت هذه الجملة على أذنى.. وقعًا مختلفًا.

لم تسب المرأة الفتاة الراقية التى تدافع عن حقها فى الطابور؛ بل سبتنى أنا الفتاة الواهمة التى اكتفت بنشوة الحلم ولم تذق نشوة تحقيقه طيلة عمرها.

أنا عالية عبدالله.. ابنة إخلاص السيد.

أنا عالية تربية واحدة ست.

 تراجعت عالية عدة خطوات وهى تواجه نفسها.

أحلامى كانت كبيرة... لكنى لم أواجه أيًا منها طيلة حياتى.. حتى تقزمت، أصبحت أخجل منها.

اكتشفت متأخرًا أن الحياة كلها مواجهات حتى الأحلام تحتاج للمواجهة.

وأنا جبنت فى كل مراحل حياتى.

فلم أقوَ على اتخاذ أى قرار.. لم أستطع الدفاع عن نفسى عن حبى عن هوايتى.

المرأة ذات العباءة السوداء لا تزال تتشاجر، تتلفظ بأبشع الكلام، تقاتل من أجل نشر الفوضى والاستحواذ على مكان ليس مكانها.

جملتها لا تزال ترن فى إذنَىّ (أنا اللى بحقق).

هل هو صراع طبقى؟ أمْ حقيقة وحدى أغفلها؟

هل ترى هذه الطبقة المتفاخرة بالذهب أن الحلم جرم وأن المرأة القوية القادرة هى من تحقق ولا تترك نفسها لأضغاث الأحلام؟!

أمْ أن الجميع يرون ذلك وأنا الوحيدة المغيبة؟! 

إن من يحلم فقط مجرم.. حقيقة كشف عنها هذا الموقف السخيف.

تراجعت عالية عدة خطوات أخرى وهى تحدث نفسها:

حتى قرارى اليوم فى تجديد جواز السفر أقدمت عليه لأن السفر نفسه شىء غير مؤكد.

أنا أقبل على الأشياء غير الموجودة وغير المؤكدة وعندما تتأكد أفزع وأهرب ولا أعود.

لم أقوَ يومًا على تحقيق حلم الهجرة.. ربما أقدمت فى بعض المرات على السؤال عن إجراءات الهجرة.. أرسلت إيميلات.. ملأت استمارات، ولكن قبل أن يأتى الرد كنت أهرب..ضعيفة مهزومة.

وقفت دائمًا فى خندق ضيق لم أحقق شيئًا حتى الآن، فاشلة.. حلمت كثيرًا ولم أنعم..اكتفيت بالأحلام.

وكل يوم يأخذ الوهم جزءًا من روحى، من شخصيتى.

خرجت عالية من طابور شباك الجوازات.. الجميع ينظر إليها باستغراب.

فلم يكن أمامها سوى دقائق وتسلم النموذج والصور.

وفى سيارتها بكت بحرقة.

لقد ضاع عمرها. فى الخوف والتأجيل والهروب من المواجهات.

لكن هل ولدت هكذا جبانة مهزومة؟

ولدت عالية يتيمة الأب؛ فقد توفى قبل مولدها بشهر.

عاشت مع والدتها، المرأة الضعيفة التى تحسب حسابًا للجميع.

لا تخطو خطوة من دون رأى العائلة، فكان الخال والخالة والجدة الكل يملى على الأم ما يجب أن تفعله.

لم تكن مشاركة حب؛ لكنها كانت تنظيرًا مؤلمًا لبنت وصمت يوم مولدها بأنها ستكون تربية واحدة ست!

والأم تتحاشى هذا الاتهام فلا تدافع عن ابنتها؛ لكنها تشارك مع الجميع فى إسكاتها.

فكان الخوف من الناس وكلام الناس المحرك الأساسى لحياتهما.

عاشت عالية حياة روتينية لا يوجد فيها سوى المدرسة والمذاكرة وأسبوع مصيف مع العائلة منتصف شهر أغسطس.

لم تعرف النقاش، الخصوصية، ولم تنعم بدفء الأسرة.

كانت تسمع صديقاتها وهن يتحدثن عن إجازاتهن الصيفية وكيف خططن لها مع الأم والأب، كيف كان القرار مشتركًا ملبيًا لاحتياجات الجميع.

لكن هى كانت دائمًا مجبرة كمَعزة فى قطيع يرعى.

كانت العيون دائمًا عليها، ما هو مسموح للجميع محرم عليها.

فهى تربية واحدة ست!

هربت من واقعها للأحلام، رضخت لرأى أمّها دون مقاومة التحقت بكلية التجارة كما أرادت العائلة ولم تناقش.

لم تشعر بفرحة البنت التى تنتقل من الثانوية العامة للجامعة، فالسجن واحد، فقط خلعت الزى المدرسى وارتدت آخر. 

أصبح مسموحًا لها أن تضع بعض الماكياچ الخفيف.. أمور بسيطة شكلية؛ لكن الحقيقة كانت قبيحة من دون أى ماكياچ.

مرت سنوات الدراسة ثقيلة كئيبة.

لم تعقد صداقات فى كليتها، كانت كزائرة تلتزم فقط فى الامتحانات.

وأغلب الوقت كانت تقضيه مع صديقاتها فى كلية الفنون الجميلة الحلم الذى طالما رادوها.. وجبنت فى مواجهة تحقيقه.. الألوان.. الخيال.. الإبداع كانت نافذتها التى حلمت بالهروب منها.

منّت نفسها بالالتحاق بالدراسات الحرة فور تخرجها فى كلية التجارة.

فى يوم من الأيام سيكون لديها «جاليرى» تعرض فيه اللوحات والمنحوتات أعمال تخلقها بيديها.. شاركها هذا الحلم.. شادى شاب تعرفت عليه فى كلية الفنون الجميلة جمع بينهما حب الفن.

وتقدَّم شادى لخطبتها، ولكن خالها رفض وضع كل الحواجز والقيود أمامه.. لازم يكتب الكتاب الأول.. البيت مافيهوش راجل.. الناس هتقول عليّا إيه دخّلت شاب على أختى وبنتها؟!

وعندما حاولت عالية إقناعه بالخطبة سنة أو اثنتين حتى ينهيا دراستهما، كان الرد صفعة على وجهها بمباركة الأم زادت من هلعها وخوفها.

فهربت من نفسها ومن شادى.

وبعد عام.. خطبت ابنة خالها وكانت فى سنة أولى جامعة لزميل لها.

وفرحت العائلة بها وصفوها بالبنت «الشاطرة» اللى عرفت توقّع عريس أول ما دخلت الجامعة.

الأحلام لا تزال ممكنة حتى ولو راح شادى.. فحلم الدراسات الحرة لا يفارق روحها.

وبعد التخرج واجهت عاصفة رفض من أمّها مدفوعة من عائلتها سجنتها فى وظيفة مقيتة فى شركة محاسبة.. ووأدت فكرة الدراسات الحرة.

فقد آن الأوان أن تساعد فى مصروف البيت، هل ستظل طيلة حياتها تدرس؟!

ومرت السنوات.. والأحلام يومًا بعد يوم تصطدم بتحكمات الأم والعائلة، تبترها .. وهى تراقب الجميع.. الجميع يحقق حلمه.. إلا هى.

الحلم أصبح بعيدًا وإن تحقق لن تكون سعيدة.

أحبت بعد شادى أكثر من مرة وفى كل مرة كانت تهرب؛ مرة خوفًا من الخيانة ومرة من الفشل، ومرات خوفًا من رأى العائلة.

توقعت البلاء قبل وقوعه فوقعت فى بئر من الخوف والهلع.

أضاعت عددًا كبيرًا من الفرص، هربت قبل اكتمالها. لم تدافع عن حقها فى الحياة.

اعتادت ضعف الأم وقهر العائلة وخافت من المواجهات.

أقنعت نفسها بأنها تبحث عن الحلم، لكن فى واقع الأمر كانت تبحث عن العدم.

هل يمكن أن تخرج من هذا القبر، هل تقوى على التمرد، هل يمكن أن تدافع عن حقها... هل يمكن أن تعطيها الحياة فرصة حرة؟!

«أول خمس سنوات فى حياة الإنسان هى الأساس فى تشكيل جوهر الشخصية» نظرية قرأتها يومًا فى علم النفس.

هل يمكن أن تغير هذه النظرية؟.. هل يمكن أن تصنع نظريتها هى؟!

نزلت من سيارتها، عادت للطابور من جديد. دورها قد فات.

أكوام أخرى من البشر أخذت دورًا جديدًا.. لن تحلم هذه المرة ستنفذ.

لن تضيع وقتًا، ستعافر هذه المرة؛ حتى تسلم النموذج والصور، لكن لن تستخرج الباسبور بهدف الهجرة.

ستعمل ما تحبه هنا فى بلدها، ستشاهدها العائلة وهى تحقق حلمها، الباسبور ستسافر به ترى العالم المتواجد خلف أسوار عائلتها.

خرجت من جروب العائلة على الواتس آب.. ستقدم أوراقها فى قسم الدراسات الحرة بكلية الفنون الجميلة.. ستترك عملها المقيت دون رجعة.

والدتها تتصل على الهاتف أكثر من خمس مرات فى دقيقتين.. ابنة خالتها تراسلها على الواتس آب تسألها عن سبب خروجها من الجروب.. الكل يريدها راضخة مستسلمة، لكنها تستحق فرصة حرة.