الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

أباتشـــــى

شيخ هندى فارع القامة، بسراويل من جينز باهت وحزام جلدى فاخر، غزا الشيب شعره الطويل، عقد بخيط بلون التوت كذيل حصان، الشىء الغريب أننا منذ عام واحد تقريبًا كنا معا فى مغسلة إينجل فى الوقت نفسه، لكن ليس فى نفس الورديات، أعنى أنه فى بعض الأيام أذهب فى الساعة السابعة يوم الاثنين أو ربما أذهب فى السادسة والنصف مساء يوم الجمعة، وهو يكون قد سبقنى.



 

السيدة أرميتاج كانت مختلفة، عجوز هى الأخرى، قابلتها فى نيويورك فى مغسلة سان خوان، كان صاحبها من بورتو ريكو، ورغوة الصابون تملأ أرضيتها. كنت أمًا شابة وقتها، أنظف الحفاضات صباحات الخميس، وكانت هى تعيش فى الطابق العلوى. ذات صباح فى المغسلة أعطتنى مفتاحًا فأخذته، ثم قالت إنه إذا لم أرها يوم الخميس فهذا يعنى أنها ماتت، وعلىّ أن أعثر على جثتها!

 

ماتت يوم الاثنين فلم أعد إلى سان خوان قط، ولا أعرف كيف وجدها مفتش الشرطة.

 

لأشهر -فى مغسلة إينجل- لم أتحدث مع العجوز الهندى، لكننا جلسنا قبالة بعضنا على كراسى بلاستيكية صفراء متصلة، مثل تلك التى فى المطارات، تصدر صوتًا يضرس الأسنان باحتكاك المشمع الممزق. ينظر الهندى إلى يدى، ليس مباشرة، بل من خلال المرآة المقابلة لنا، فوق الغسالات ماركة «الملكة السريعة».

 

فى البداية لم يزعجنى. شيخ  هندى ينظر إلى يدى، فى المرآة المتسخة، بين لافتة بخط مصفر تقول «الكى بدولار للدستة»، وأخرى عليها دعاء بخط برتقالى مضىء: «رب هب لى الرضا لقبول ما لا يمكن تغييره» لكنى بعدها بدأت بالتساؤل عما إذا كان لديه فتيش للأيادى، وجعلنى هذا أتوتر. يشاهدنى أدخن ثم أنفخ الدخان من أنفى، وأتصفح مجلات موضة قديمة.

فى النهاية جعلنى هذا أحدق فى يدى، رأيته تقريبًا يبتسم بصفاقة لأنه ضبطنى متلبسة أحدق فيهما، ولأول مرة التقت أعيننا فى المرآة تحت لافتة «لا تكدس الغسالات». بان الهلع فى عينى، نظرت إلى أسفل إلى يدىَّ: بقع عمرية مرعبة وجرحان. يدان غير هنديتين، متوترتان، وحيدتان. صار بإمكانى رؤية أطفال ورجال وحدائق فى يدىَّ. أما يداه فى ذلك اليوم (الذى لاحظت به يدىَّ) كانتا فوق فخذيه المشدودتين، ترتعشان فى حضنه، لكنه فى ذلك اليوم كان يحاول ألا يرتجف، والجهد حول براجمه إلى اللون الأبيض.

طفح حمام السيدة أرميتاج خارج المغسلة، فكان الوقت الوحيد الذى تحدثت فيه معها، لأن الماء فاض وتتدفق من خلال الثريا إلى الطابق الذى أقطنه، كانت المياه تمر عبر النور فظهر قوس قزح، فحدث أن سحبت يدى بذراعها الثلجية وغمغمت فى انبهار: 

- «ألا ترى إنها معجزة؟»

عرفت أنه أباتشى من أقصى الشمال، ذات يوم لم أره لكننى علمت أنهُ هو حين وضع يده المرتعشة على كتفى، وأعطانى ثلاثة قروش. لم أفهم، هممت بشكره على أية حال، ثم انتبهت إلى أنه لا يستطيع أن يشغل المُجفِف لأنه يرتجف فعلا. الأمر صعب حتى لو لم تكن ثملًا. عليك أن تدير السهم بيد واحدة، تضع القروش فى اليد الأخرى، تدفع المكبس لأسفل ثم تعيد إدارة السهم مجددًا لأجل القرش القادم. مسألة فنية معقدة لا تقدر عليها إلا لو كنت قد جربتها مرارًا. وبالتأكيد دون أن ترتعش كفك.

حتى أنه لم يستطع فتح الباب، وأغشى عليه فوق الكرسى الأصفر. كانت ملابسى جافة، وكنت أطويها.

حملت طونى (كما عرفت أنه اسمه) الثمل مع إينجل وعدنا به إلى غرفة الكى. الحرارة عالية. إينجل هو المسئول عن كل صلوات السلام والشعارات إياها، «لا تفكر ولا تشرب». وضع إينجل فردة جورب رطبة باردة على رأس طونى وجلس بجانبه: «أخى، صدقنى.. لقد كنت مكانك.. بالأسفل هناك، بالحضيض حيث أنت، أنا أعرف كيف تشعر».

لم يفتح طونى عينيه. أى شخص يقول إنه يعرف حقًا كيف يشعر شخص آخر هو حلوف.

مغسلة إينجل فى البوكيركى، نيو مكسيكو. الشارع السابع، محلات مهترئة وساحات خردة، محلات بالة تحتوى أسرة من مخلفات الجيش، صناديق من جوارب منفردة، نسخة 1941 من كتاب «دليل النظافة»، مخازن للغلة وموتيلات للأحبة والخائنين والسكارى والنساء العجائز، نساء بشعر مصبوغ من زبائن المغسلة، مراهقات عرائس من أصل مكسيكى يذهبن كذلك إلى مغسلة إينجل، مناشف، قمصان نوم وردية قصيرة، ملابس داخلية كتب عليها «ليلة الخميس»، يلبس أزواجهن وزرات زرقاء خيطت أسماؤهم على جيوبها. أحب أن أنتظر وأرى الأسماء تظهر فى المرآة الخاصة بالمجَفِفات؛ تينا، كوركى، كوكو.

يأتى المسافرون إلى مغسلة إينجل، بملاءات متسخة، وكراسى عالية صدئة مربوطة على أسقف سيارات مدخنة منبعجة من الأمام، بأحواض زيت تسرب، ومبردات مياه قماشية فى الضياع، وغسالات ميتة. يجلس الرجال فى السيارات، عراة الصدور، يسحقون علب البيرة الفارغة ويلقون بها فى الشارع. أكثر الزوار من الهنود الحمر، على أن طونى هو الأباتشى الوحيد الذى قابلته على الإطلاق، فى المغسلة أو أى مكان آخر، وكنت أحب أن أنظر إلى المجففات المليئة بالملابس الهندية تدور فى دوامات متألقة من البنفسجى والبرتقالى والأحمر والزهرى.

هل كنت أذهب إلى مغسلة إينجل فقط لأجل الهنود الحمر، وهى بالجهة المقابلة لى من المدينة؟ مع ذلك فعلى بعد مبنى واحد منى يوجد الحرم الجامعى، الفخم المكيف، مع الروك الهادئ بالخلفية، مجلات «النيويوركر» و«ميس» و«كوزموبوليتان»، زوجات المعيدين يذهبن إلى هناك، ويشترون لأطفالهم الحلوى وزجاجات الكوكا والمصاص. لمغسلة الحرم الجامعى عبارة مثل غيرها من المغسلات: «للأسف ليس لدينا صباغة». لكنى قدت بكل أنحاء المدينة مع ملاءة سرير خضراء حتى وجدت مغسلة إينجل ولافتتها الصفراء الأكثر حكمة وطرافة: «يمكنك الموت هنا فى أى وقت»!

لم تتحول الملاءة إلى الأرجوانى الغامق لكن إلى أخضر موحل داكن، لكننى رغبت بالعودة مجددًا على أى حال، فقد أحببت الهنود وغسيلهم، وماكينة الكولا المكسورة والأرض المغمورة ذكرانى بنيويورك. هل كنت سأذهب للبحث عن جثة السيدة أرميتاج يوم الخميس؟

قال الهندى: «أنا زعيم قبيلتى»، كان يجلس فقط هناك، يحتسى نبيذ رخيص وينظر إلى يدى. «زوجتى تعمل منظفة منازل، كان لنا أربعة أبناء، انتحر أصغرهم، ومات أكبرهم فى فيتنام، والاثنان الآخران كانا سائقين لحافلات المدارس» ثم أنه سألنى: «أتعلمين لماذا أنا معجب بك؟».

«لا، لماذا؟»

«لأنك من ذوى البشرة الحمراء»، وأشار إلى وجهى فى المرآة. لدى حقًا بشرة حمراء، ولكننى لم أر بحياتى هنديًا أحمر البشرة بالمعنى الحرفى للكلمة.

كان يحب اسمى، ويلفظه بالإيطالية: لوتشيا. كان فى إيطاليا فى الحرب العالمية الكبرى. كان يرتدى سلسلة بها بطاقة تعريف عسكرية، بين سلاسل فضية وفيروزية جميلة، وكان للبطاقة تجويف كبير. 

«رصاصة؟» 

«لا، لكننى اعتدت فقط على مضغها عندما أكون خائفًا أو شبقًا».

«يقول الإسكيمو لنضحك معًا». اقترح مرة أن نذهب للاستلقاء فى عربته ونرتاح معًا؛ فأشرت إلى اللافتة المضيئة بالأخضر الفوسفورى: «لا تبتعد عن الغسالات وهى تعمل»، وقهقهنا، ضحكنا معًا فى كراسينا البلاستيكية المتصلة، ثم جلسنا فى هدوء، بلا صوت إلا إيقاع المياه الحاملة للأوساخ، تدور كالدوامة. يده، كيد بوذا، تمسك يدى. مر قطار، فلفت انتباهى ثم قال: «حصان حديدى كبير يصهل»، وعدنا للقهقهة مجددًا.

أملك الكثير من التعميمات بلا أساس عن الأشخاص، كل الزنوج يحبون تشارلسون، والألمان أوغاد، وكل الهنود لديهم حس بالدعابة غريب مثل أمى. واحدة من نكاتها المفضلة كانت عندما ينحنى رجل للأسفل لربط حذائه ثم يضربه شخص آخر قائلًا: «أنت دائمًا تربط حذائك!»، وواحدة أخرى تشمل نادل يسكب البازلاء فى حجر أحدهم قائلًا: «أوه، أوه، لقد سكبت البازلاء!» اعتاد طونى أن يكرر هذه النكات لى بلا كلل فى الأيام البطيئة فى المغسلة.

كان مرة ثملًا جدًا، سكرانًا كالطين، فدخل فى شجار مع بعض البورتوريكين فى ساحة انتظار السيارات.

سكبوا قنينة الجيم بيم خاصته. أخبره إينجل أنه سيشترى له نصف لتر إذا ما استمع إليه فى غرفة الكى، نقلت ملابسى من الغسالة إلى المجفف بينما كان إينجل يتحدث إلى طونى عن مسلسل «يوم واحد فى كل أسبوع».

عندما خرج طونى دفع بنقوده إلى يدى، فوضعت ملابسه فى المجفف بينما راح يصارع غطاء زجاجة الجيم بيم، وقبل أن أستطيع الجلوس صرخ فى وجهى.

«أنا الزعيم، أنا هو زعيم قبيلة أباتشى! تبًا!».

«مرحى، أيها الزعيم». جلس فقط هناك، يشرب، ينظر إلى يدى فى المرآة. «لماذا إذن تتولى غسيل الأباتشى؟»

لا أعرف لماذا قلت هذا، كان شيئًا فظيعًا لقوله، ربما ظننت أنه قد يضحك، وقد فعل على أى حال. وغمغم: «إذن، من أى قبيلة أنتِ، يا ذات البشرة الحمراء؟» 

سألنى، وهو يراقب يدى تخرج لفافة تبغ.

«أتعرف أن سيجارتى الأولى أشعلها أمير، هل تصدق هذا؟»

«بالطبع أصدق هذا، قداحة؟»

أشعل سيجارتى ثم ابتسمنا أحدنا نحو الآخر. كنا متقاربين جدًا، وبعدها أغشى عليه فأصبحت وحيدة فى المرآة.

كانت هناك فتاة شابة، لا فى المرآة، بل قبالة النافذة، شعرها غائم فى الضباب، ناعم كنساء بوتيتشيلى.

قرأت كل اللافتات: «رب هب لى الشجاعة». «سرير أطفال جديد لم يستخدم بسبب وفاة الطفل». وضعت الفتاة ملابسها فى السلة ذات اللون الليمونى وغادرت. نقلت ملابسى إلى الطاولة، أتفقدُ طونى، وأضع قرشًا آخر. كنت وحيدة فى مغسلة إينجل، مع طونى، أنظر إلى يدى وعينى فى المرآة، عيون زرقاء مدهشة.

كنت مرة على متن يخت قبالة فينيا ديل مار، استعرت أول لفافة تبغ وطلبت شعلة من الأمير على خان.

قال لى: «تشرفنا». لم يكن معه عود ثقاب مع ذلك.

طويت غسيلى، وعندما عاد إينجل رجعت للدار.

لا أذكر بالضبط متى كانت اللحظة ولا فى أى يوم عندما أدركت أننى لم أر الشيخ الهندى مرة أخرى.