كأنه نبع

د.عـزة بــدر
يكتب إبراهيم نصر الله رواياته مستلهما بطولات المواطن الفلسطينى فى معركته اليومية للدفاع عن حقه فى الحياة، عن حقه فى وطنه وأرضه، يكتب عن البيوت، والنوافذ، والبلابل، وطيور الدورى، عن الورد وشتلات الزنبق، عن «نابلس» و«جنين» و«بيت لحم»، و«غزة»، و«القدس».
وتدور أحداث روايته «تحت شمس الضحى» فى «رام الله» وهى إحدى روايات مشروعه الملحمى الذى بدأه عام 1985، والذى تضمن ست روايات، لكل رواية أجواؤها الخاصة بها، وشخوصها، وبناؤها الفنى، ومنها «طيور الحذر»، و«طفل الممحاة»، و«زيتون الشوارع»، و«أعراس آمنة»، و«زمن الخيول».
.. وفى روايته «تحت شمس الضحى» يأخذنا إبراهيم نصر الله إلى أعماق شخصياته فنرى عن قرب كيف تتجسد روح البطولة، بكل ما فيها من حب وإيثار، وفداء، وانتماء وتضحية.

كلمة حلوة وناعمة
الإنسان الباحث عن لحظة حب، عن حياة بسيطة، آمنة هو مواطنه الفلسطينى الذى يجسده فى أول مشهد من الرواية فيقول: «وقفت أم الوليد»، المرأة الشروة، المرأة ذات الوجه الصغير كوجه طفلة فى العاشرة، ونادت بأعلى صوتها:
«أبوالوليد» وحين التفت وهو يسير برفقة عشرة رجال بعمره، وتوقف الرجال، استدارت العيون كلها نحو مصدر الصوت، رد «أبوالوليد»: شوفى؟!
فردت بصوت فاق نداءها الأول علوا: بحبك».
كلمة تتردد فى فضاء شمس الضحى، تسمعها النوافذ، وطيور الدورى والأولاد، «كلمة ناعمة وتفرح وحلوة» لكن هل ظلت هذه الأجواء الساحرة تظلل هذا البيت وهذه الأسرة؟ تتوالى الأحداث لتهدد أمن هذه الأسرة وغيرها، من الأسر الفلسطينية ويقوم المحتل بمراقبة وتتبع أفرادها وجيرانهم وخاصة «ياسين الأسمر» صديق العائلة الذى تعرض للاعتقال أكثر من مرة، كما تعرض للتعذيب لكنه لم يفقد أبدا حبه للحياة، بل أصبح أطفال هذه الأسرة هم أطفاله، يحمل لهم الود، ويهدى باقاته لأم الوليد وأبى الوليد وخاصة شتلات الزنبق.
ويتحول «ياسين الأسمر» فى حياة هذا المجتمع إلى رمز للحب، ورمز للمقاومة وعشق الحياة، أصبح أيقونة لدرجة أن فكر «سليم نصرى» المحب للفن، الذى كان يود أن يكون مطربا لكنه أصبح ممثلا، أن يكتب ويخرج ويمثل مسرحية عن حياة «ياسين الأسمر» تجسد بطولته وأمانته وتأثيره على من حوله.
بطولة جماعية
وينسج إبراهيم نصر الله أحداث روايته مستعينا بأسلوبه الفنى الفريد، فى تنويع السرد فيمزج بين رؤى نقدية لدور الممثل وبين رؤية «سليم نصرى»، ويبرز لنا هذا الصراع الذى ينتقل من الأوراق والنظريات إلى عمق حياة هذا الممثل الذى اضطرمت نفسه بتحقيق ذاته، لكنه لم يستطع الخروج من عباءة الشخصية الآسرة للدور الذى يمثله وهو «ياسين الأسمر»، لقد عشق «سليم نصرى» بطولة «ياسين»، فقلده حتى فى عرج ساقه التى أصيبت تحت التعذيب فى المعتقل الإسرائيلى، كان «سليم نصرى» فى أعماقه يود أن يكون هذا البطل لكنه لم يستطع، ويمضى بنا السارد مصورًا هذا الصراع الداخلى فى نفس «سليم» مخاطبا نفسه مناقشا ما يضغط على نفسه وموهبته، «يريد أن يتمتع بنعمة وجوده فى واحدة من المناطق التى لا جنود فيها من جنود المحتل، ولا حواجز، يريد أن يصل إلى منطقته الخاصة به التى يستطيع أن يقف فيها أمام مرآته ويرى نفسه ولا أحد سواه».

لكن يطارده نص «بريخت» فى كتابه «نظرية المسرح الملحمي: (إن استخدام صيغة الغائب والزمن الماضى يمنح الممثل إمكانية مراعاة المسافة الضرورية التى تفصل بينه وبين الشخصية) .
لكن «سليم» يعيش شخصية «ياسين الأسمر» ولا يمثلها فقط، بينما يرى «ياسين» أن كل واحد من هؤلاء الذين يملأون الشوارع الفلسطينية أطفالا ونساء ورجالا وشيوخاً، كل واحد سيغدو بطلا إذا كتبت حكايته فيقول ياسين: (لست بكاملى لأننى سواى أيضا، تحدثت عن الطفل «النمر»، عن فناء أهله، عن خروجنا بمعجزة متسللين بين فكىّ المجزرة فى «تل الزعتر» تحدثت عن «نعمان» عن «أم الوليد»، عن «أبى الوليد»، عن «تل الزعتر»، عن المحقق، وعن الزنزانة، أنا كل هذا، ليس هناك شخص بمفرد ذاته يمكن أن يكون بطلا لأنه فى الحقيقة كل بطولات سواه».
من المعتقل إلى المنفى
يجمع «سليم نصرى» كل التفاصيل عن حياة «ياسين» فنراه فى المعتقل عندما سجن لأول مرة يواجه المحقق الإسرائيلى بكل شجاعة، يقول له المحقق «أنا آسف أننا اضطررنا أن ننتزع منك الاعترافات تحت التعذيب ولكنك كنت صلبا اعترف بهذا، إلى حد أنك للأسف لم تترك لنا وسيلة أخرى»، فيقول له «ياسين»: «لم تأخذوا شيئا منى، لم تأخذوا أى شىء سوى غيبوبتى»، فيضعه المحقق تحت أضواء ساطعة فى زنزانة ينبعث منها جحيم لا يطاق قائلا: «ستتبخر هنا، ستحولك هذه النار إلى قطعة فحم فوقها غيمة».
فى هذا المعتقل الذى كان يسميه السجناء «القبر» اكتشف «ياسين» فى زنزانته طولها لا يصل المترين، وعرضها أقل من ذلك بقليل أن الحياة أحب إليه، إلى ذلك الحد الذى اعتقد معه «أن على الموت أن يقاتله طويلا قبل أن يصل إلى داخل قلعتى هذه:
«جسدى»
ومن المعتقل إلى المنفى حملت سيارة الاحتلال «ياسين» إلى خارج وطنه، صار واحدا من المبعدين، ورغم ذلك كان يشعر فى قرارة نفسه أنهم يخشونه، يخافون وعيه، ومقاومته، وأوراقه ففى زمن الخوف لا شيء يخيف كالأوراق (فقد حملوا كل ما وقعت عليه أيديهم من قصائد لمعين بسيسو، وتوفيق زياد، وقصصا لمحمود شقير، وغسان كنفاني، ودراسات لإحسان عباس، وكتبا ومقالات، ونشرات لا يعرف أحد ما فيها، وبعض روايات الهلال وكتبها، وثلاثية «نجيب محفوظ»، و«قنديل أم هاشم» ومجلة «العربى» وبعض أعداد مجلة «صوت الجيل»، ولم تسلم دفاتر تحضير الدروس وصور لاعبيه من ناديى الزمالك والأهلى.
لا شىء يخيف كالأوراق
ولذا توقفت مسرحية غنائية للأطفال بسبب الحصارات والإغلاقات وأوامر حظر التجول، وأشياء تتعلق بنصها وإخراجها، بل والمفاجأة القاسية أن الطفل الذى كان يؤدى دور البطولة فيها «دور العصفور» قد استشهد بعد إيقاف عرض المسرحية، كما يذكر «سليم نصري» الذى كان يمثل فى هذه المسرحية بل إن نص مسرحيته المونودراما عن «ياسين الأسمر» هى الأخرى مهددة بالتوقف بعد أن تحدث فيها «سليم عن أمانة «ياسين» فى توصيل المال من «عمان» إلى مخيم «شاتيلا» عابرا كل الأخطار، نفدت نقوده ولا يمد يده للأمانة التى يحملها، يجوع لكن لا يشترى منها رغيف خبز، رغم أن ما تبقى من ماله بالكاد يكفى أجرة سيارة للوصول إلى «بيروت».

كان مفهوم الأمانة ومساعدة الفلسطينيين فى المخيمات سببا فى شعور عملاء الاحتلال بالخوف والتعرى من أقنعتهم التى التمسوها لتقيهم من ردود أفعال الناس ضدهم.
«الدكتور» أحد هؤلاء العملاء يهتف صارخا فى وجه هذا المشهد، موبخا «سليم نصرى»: «هل سمعت بحقيقة أغبى من هذه؟» وأمره بحذف هذا المشهد رغم تأكيد «سليم» أنه سمع هذه القصة من أكثر من شخص عن «ياسين».
زلزلت هذه الأمانة شخصية «الدكتور» من الداخل، نكأت المناطق الآمنة التى تكاد أن تنكشف، فهو «نصاب المشاريع الأكبر» كما تصنعه «منال» وهو الذى يقوم بعمل دراسات لا يعرف أحد إلى أن تذهب؟!
عن تأثير الانتفاضة على المستوى التعليمى لطلبة المدارس، والتوجهات السياسية للرأى العام الفلسطينى، «الدكتور» الذى يقوم بصرف رواتب العاملين معه باتفاق غير معلن بأن يوقع كل منهم أما مبلغ من المال، ويحصل على ستين بالمائة منه!
أملى عليه حياته!
إن أزمة «سليم نصرى» الحقيقية هى أنه استسلم لإغراء نفوذ «الدكتور» استسلم لفكرة أن ما يأخذه من أجر أفضل من أن يعانى فى البحث عن وظيفة فى مدرسة يرى أنها غير موجودة فالتلاميذ تبعثروا، وتبعثرت معهم مدارسهم، وأضحى الوصول إلى غرف الصف أكثر صعوبة من معجزة بقاء البشر أحياء حتى صبيحة اليوم التالى، فوقع «سليم نصرى» بين محنتين محنة داخلية متمثلة فى عزلته، وضعف شخصيته على الرغم من موهبته، ومحنة خارجية متمثلة فى استسلامه لأفكاره اليائسة من عدم وجود فرص للعمل فوقع فريسة لواحد من عملاء الاحتلال يفرض عليه رؤاه، سليم يريد أن يصبح مغنيا فيصيح الدكتور غاضبًا! لأنه يريده ممثلا، سليم يحب صورة «مارسيل خليفة» التى أهدتها له حبيبته «وردة»، لكن الدكتور يريد له أن ينزعها، وأن يعلق صورة «جون واين».
سليم يريد أن يتحدث عما تعرض له «ياسين الأسمر» فى سجون الاحتلال من تعذيب، لكن الدكتور تغريه بالعمل فى ثقافة الموالاة يقول له: «قطاع الثقافة بحر، بحر من المشارع لا حدود له، صدقنى، هؤلاء الأمريكيون لا يريدون منا الكثير: أرقاما وتحليلات تغص بها الصحف اليومية، ويريدون أسماء مشاريع براقة متفائلة بالمستقبل».
لقد أملى عليه «الدكتور» ما يريد بل واستغله، أخذ مفتاح شقته ليمارس فيها ما يسميه «مباهجة الصغيرة» وفيها اغتصب فتاة، يحكى عنها لسليم فيقول: «تعرف يا سليم بعد ثلاثين سنة من الزواج تنسى تماما كيف كانت ليلة الدخلة»!!، صمت «سليم» وإذعانه، واستسلامه للآخر الذى استلبه قيمه ووعيه، وتركه فى حبوس حاجته، وبحثه عن دوائر النفوذ، كل ذلك كان السبب فى هجر «وردة» حبيبته له، لقد غدا بالنسبة لها ظلا، وساعدا من سواعد «نصاب المشاريع» بعد أن كان «سليم نصرى» بالنسبة لها أيقونة الفن والجمال، كانت تراه كنز مواهب، ومسرحيته تفرعا أنواع المقاومة فتقول له: (بمسرحية كهذه تستطيع أن تحرك المياه الراكدة هنا، لا فى المسرح وحده بل فى قلوبنا، نحتاج شيئا جميلا، صورة جميلة، إنسانا جميلا ولا أجاملك، أظن أن مثل هذا الشخص الذى كتبت عنه هو ما نحن بحاجة إليه، أكثر من أى شىء آخر، نحن بحاجة إلى أن نقول لأنفسنا قبل سوانا، أننا لم نزل جميلين رغم كل سنوات الموت والتى عشناها تحت الاحتلال، بصراحة جمال كهذا، ولو كان رمزياً، يجعل الإنسان يحس بأنه فوق الاحتلال لا تحته».

تبعت «وردة» صوت نفسها فى تطور درامى جديد، ذهبت تبحث فيه عن الإنسان الجميل، عن «ياسين الأسمر» فعرفت عنوانه وسألت عنه «أم الوليد»: «سمعت أن عندكم شب غير متزوج»، فتقول لها «أم الوليد»: لا بد أن ترينه قبل أن تتزوجينه، فتقول ها «وردة»: «لأ مش ضرورى»، هل هو موجود؟ قولى له البنت راح تعلن إضراب مفتوح على باب داركم حتى يتزوجها».
«النمر» و«نعمان»
وتمضى الرواية لتضع أمامنا نماذج إنسانية للبطولة، أطفال مثل «النمر» و«نعمان» يشهرون قلوبهم الصغيرة فتطل كمصابيح خضراء مضيئة تغمر بأنوارها مضمون الرواية الذى يسلط الضوء على بطولة المواطن الفلسطينى اليومية فى انتزاع حق الحياة، والإصرار على مواجهة الغد بأوراق أخرى تخيف المحتل، فها هو الطفل «النمر» وقد فقد أهله بعد القصف يبحث عنه كتبه:
«للحظة بدا أن «النمر» غير معنى بذلك الخطر الذى يحدق بهما فى العراء، يقول لياسين:
- كتاب العربى احترق، وكتاب الحساب، شوف شو اللى باق منه!
وامتدت يد «النمر» ببقايا كتاب لم يبق الحريق الذى التهم أطرافه، والشظية التى عبرت منتصفه أى معنى للمعادلات التى كانت تملأ صفحاته».
وبدا كما لو أن القذائف استشعرت حرارة جسديهما فى المكان فراحت تقترب أكثر، وسقطت قذيفة تفقد بعدها ياسين الطفل الذى حمله على كتفه، «لم يكن هناك سوى النصف الأسفل الملتصق بصدر «ياسين» وما تبقى كان الفراغ، الفراغ الذى خلّفته القذيفة فولد كتفه، الفراغ الذى راح يتفلت، الفراغ الذى يشير بحرقة الصدى دون جدوى إلى كتاب الحساب).
«ونعمان» ابن شهيد، يرى أن أباه لم يأخذ حذره واحتياطاته لذا فقد أصيب برصاص المحتل، يحفظ شكل ونوع الرصاصة التى أصابت والده.
«نعمان» كان يطير طائرة ورقية ملونة صنعها له «ياسين» يشكو نعمان له أن جنود الاحتلال قصفوا طائرته الورقية برصاصة (إم 16)، يقول: رأيتها فى صدر أبوى..
وهنا نرى كيف كان رد «ياسين» وهو يبث الثقة فى نفس هذا الطفل اليتيم فيقول له: (على أى حال إذا ما أسقطوا الطائرة، وهذا ليس سهلا، فكن مطمئنا لأن لديك مصنعًا للطائرات هنا فى البيت.
فيجيب الطفل: هذا صحيح لكن لا يبرر لهم إسقاط طائراتنا.
وقد أصيب «نعمان» برصاص المحتل، وذهب لزيارته ياسين، وأمه «نورا»، وزوجها «نعيم»، فإذا بالطفل يقول:
- لم أمت لأنى أخذت احتياطاتى، وفسر ذلك بأنه ارتدى عددا كبيرا من (الجرازى)، يظن أن الرصاص لن يخترقها قائلا: «لو أبوى كان يلبس يوم استشهاده ملابس أكثر لما استطاعوا أن يقتلوه».
حبس انفرادى
تعنى هذه الرواية بأدق التفاصيل التى تصبح دلالاتها رمزا على الصمود الإنسانى أمام قسوة التجربة، والدمار الذى لحق بجسد «ياسين» فى السجن عندما اعتقله جنود الاحتلال للمرة الثانية، وحبسوه حبسا انفراديا، وأصيب ساقه فسببت له ألما وعرجا، لكنه فى السجن عمل كثيرا على أن يعيد تأهيل ساقه فيقول: (كان يؤرقه أن أولئك المحققين سيعيشون مزهوين بالدمار الذى ألحقوه بجسده، لكنها خذلته تماما، وفجأة أحس أن عليه إعادة النظر فى هواجسه السوداء كلها حين تذكر أن هذه الساق رغم العذاب الذى عصف بها، لم تتخل عنه، ومنذ ذلك الليل راح ينظر إليها بصورة مختلفة كما لو أنها طفل جسده المدلل، لم تخذله). الدفاع عن تنكة ماء
ومن هذه التفاصيل التى رصدتها الرواية ومن خلال رصد الحياة اليومية للمواطنين الفلسطينيين تحت الحصار نجد هذا الأدب المفعم بروح المقاومة، وتلك المشاهد التى تحمل كل معانى الصمود فيصف السارد موقف امرأة مصابة قال لها «ياسين»: (سنأخذك إلى المستشفى قبل أن تنزفى دمك كله، فقالت: وهل تعتقد أن الوصول للمستشفى أسهل من الوصول للماء؟ تريد أن تخدمنى اربط لى هذا الجرح، ومدت يدها له، هل تعتقد أن تنكة ماء دفعت ثمنها جرحا كهذا دما؟، يمكن أن أتخلى عنها؟ وظلت تنتظر فى الصف الطويل ذلك المساء.
البيت
ومن خلال التفاصيل أيضا نرى هذا الدمار الذى أحدثه جنود الاحتلال بالبيوت والمدنيين ويصف السارد ذلك فيقول: عندما عاد «ياسين» ليبحث عن أوعية بلاستيكية، وحفنة عدس منسية من زمن طويل فوق أحد رفوف المطبخ، لكنه حين وصل لم يجد البيت.
وعندما اعتقل جنود الاحتلال «ياسين الأسمر» للمرة الثانية فقد حبسوه فى سجن انفرادى مع كلب ضخم، ويصف السارد ذلك فيقول: «كانوا يريدون كل شىء إلى ذلك الحد الذى يشعر معه المرء بأنهم حين يطلقون سراحه، لن يكون قد تبقى منه سوى جلده الذى يشير لقامة تُشبهه، أو تُشبه ما كان، أما داخلها فليس سوى ذلك الهواء الرطب الدبق والحرارة المختلطة بأنفاس الكلب»، ثم يقول على لسان «ياسين»: «وأسوأ ما فى الأمر أنه بعد مرور ثلاثة أعوام، كلما فتحت عينى أحس بأن الكلب لم يزل ينظر إلىّ».
عذاب الصدى
ويصف «ياسين» معاناته فى السجن الانفرادى فيقول: «كان أهم شىء يمكن أن يحدث لى أن أتمكن من العودة ثانية للجلوس بين السجناء، وحين أجلس بينهم يكون الشىء الوحيد الذى علىّ أن أفعله أن أتكلم، أن أقول أى عبارة تخطر ببالى، ليس المهم ماذا أو ما هو معناها؟، لم أكن أريد أكثر من ألا يكون لصوتى صدى، يكون الصدى حين تكون أسير عزلتك، حين لا تكون هناك أذن تسمعك، يدور الصوت ويدور، يبحث عن بشر، وعندما لا يجدهم يعود إليك، المشكلة الحقيقية لك كإنسان أن يكون صوتك فى النهاية مجرد صدى ينطلق، ويعود دون أن يعثر على إذن تسمعه».
كأنه نبع
كل هذا الصمود للذات والنهوض به، تَحملُ السجن الانفرادى، والمحافظة على قيم الذات استلفت «سليم نصري»، وجعل من «ياسين» شخصية مبهرة، عظمتها فى إنسايتها وبساطتها فظل «سليم» يُساءل نفسه عن ما أسقطه سريع عذاباته؟ نعم، «هى تلك الذكريات العذبة التى يفيض بها قلب «ياسين الأسمر» كما لو أنه نبع وحاول أن يعثر على ذلك الفرق الذى يجعل من شخص مثل «ياسين» محبوبًا، قادرًا على بناء حياته، وذكرياته حتى فى سجنه الانفرادى».
وتنتهى الرواية باستشهاد «ياسين» فى انفجار أمام السيارة التى كان يهم بركوبها، ولكنه ظل حيًّا فى ضمائر الناس، ورمزًا لمحبة الحياة والوطن، وظلت أسئلته الوجودية تُدوى فى فضاءات الرواية، وفى حنايا السرد، تتردد أصداؤها فى ضمير الشخصيات، وتنبض بها القلوب، أسئلة وجودية ضد الموت، تنبت كالبذور فى عمق الأرض التى ارتوت بزكيّ الدماء، حيث تنبض كلمات «ياسين الأسمر» بالحياة، وليضع أمام الإنسانية أهم أسئلة الوجود، وتبعاته ومسئولياته، «أفكر أحيانًا فأقول: كان يمكن أن نتخفف من كل هذا الموت، لو أن العالم يسمح لنفسه بين حين وآخر أن يكون أكثر عدلاً، يؤرقنى أن فكرة جميلة كالحرية لا تتحقق سوى بجمال موتك لا بجمال حياتك، وهو جمال يكفى ويفيض، يؤرقنى أن البطل يصبح بطلاً أفضل كلما ازداد عدد الأموات حوله أو فيه، وأن أم الشهيد تصبح أكثر قدسية وبطولة حين يُستشهد لها ولد آخر، يؤرقنى أننا تحولنا إلى سلالم لجنة هى فى النهاية تحتنا، ولو كان الوطن فى السماء لكنا وصلنا إليه من زمن بعيد».
.. هذه الرواية المبدعة لإبراهيم نصرالله تثير أسئلة الوجود، وتُطالب بعالم أكثر عدلاً، يحترم حقوق الإنسان، وحقه فى الحياة، عالم يتخفف من كل هذا الموت، ليكتشف كيف يبنى الحياة.