الأحد 28 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
أبى.. رشدى أبوالحسن

أبى.. رشدى أبوالحسن

كان أبى، الذى لقىَ ربه قبل أسبوعين، يكره الكاذب من الطقوس، والمُفتعل من المواقف. لذلك كانت تعليقاتُه الساخرة بعض الشىء وتساؤلاته حول تفاصيل موته المفاجئ وجنازته هى أول ما افتقدتُ فى رحيله المفاجئ فى 17 أكتوبر الجارى!



لم يكن، هذه المرة، معنا لنحكى معًا عن هذا اليوم، ونسمع تعليقاته الحادة والكاشفة لزيف الكثير من المظاهر والباحثة دومًا عن التفاصيل الصغيرة العابرة. أغلب الظن أنه كان سيسأل عن «المغسل»، ومن أين جئنا به، وكم يطلب من المال. بل إنه، لو لم يكن يلعب دور المتوفى فى هذه المناسبة، كان سيعمد إلى سؤال المغسل نفسه كم يكسب من المال، وإن كان يكفيه هذا العمل. وأغلب الظن أنه كان سيوصينا بأن «نجزل له العطاء» كتعبيره الدائم. كان يهتم بمثل هذه التفاصيل، وبجهاد البشر العاديين فى مكابدة الحياة وصعوباتها. لم يكن يحب الاحتفالات، التى تركز على الذات كأعياد الميلاد وخلافه. ولم يكن من هواة المناسبات الاجتماعية الرتيبة كمجالس العزاء. لهذا السبب أوصى بألّا ينعقد له عزاء. أراد أن تكون تفاصيل خروجه من الدنيا بسيطة، كحياته ذاتها. كان يشفق على نفسه من معزين لا يعرف هو أغلبهم، فالصحاب والأحباب ورفاق رحلة الحياة سبقه جلهم إلى دار الحق.

ولو شئتُ أن أضع عنوانًا لحياة لأبى، الكاتب الصحفى الأستاذ رشدى أبوالحسن (1942 - 2023)، فسيكون ذاك: رجلٌ عاش حياته كما أرادها. هى نعمة كبيرة لا تتوفر لغالبية البشر الذين يعيشون حياتهم، عادة، كما يريد لهم الآخرون.. حتى دون أن يعلموا هم بذلك، وحتى لو تصوروا أنهم يفعلون بحياتهم ما يريدون، فهم فى الواقع أسرى لطرق وطرائق يفرضها الآخرون والمجتمع عليهم. أبى فرض طريقه وطريقته على الحياة ذاتها!. كان ذلك جهادًا عظيمًا، ومعركة مستمرة خاضها حتى آخر يوم فى عمره.

كلمة متكررة علقت فى ذاكرتى من تلقينه فى زمن الطفولة: الحياة معركة. لا أفهم السبب. الحياة تبدو هادئة هانئة. لماذا هذا التحفز الدائم؟. لماذا كان شاكى السلاح دومًا كأنه متأهب لنزال؟. المفتاح الأول فى فهم شخصيته هو ذلك الإدراك بأن الحياة مسؤولية، ومنحة نادرة لابد أن يفعل الإنسان بها شيئًا نافعًا وحقيقيًّا، لذاته وللآخرين أيضًا. كان يخوض هذه المعركة المستمرة، لا من أجل إحراز نقاط التفوق على الآخرين، (فلم يكن أبدًا فى تنافس مع أحد)، ولكن للارتقاء بذاته هو، وفق معاييره هو. كان ينشد «تحسين الحياة» ذاتها، وليس الانتصار فى سباقاتها!.

كان لأبى معاييره الخاصة فى الحياة، وبخاصة من الناحية الأخلاقية. كان يُعامل نفسه بالشدة، ويُلزم ذاته بما لا يلزم به الآخرين. أظن أنه أدرك فى مرحلة مبكرة من حياته التعقيد الكبير لعالم الأخلاق. البشر قادرون على التلاعب بالمبادئ لتحقيق أغراضهم. الدين ذاته يُمكن أن يُفرغ من كل مضمون سامٍ وأخلاقى ليتحول إلى غطاء يُخفى المطامع والأغراض. الحل، كما تصور، هو أن يكون للمرء معياره وميزانه فى الحياة. كان معياره صارمًا وميزانه قاسيًا جدًّا.

«بتضحك على مين؟، إنت بتخدع نفسك!»، كلمة كررها كثيرًا على مسامعنا، أنا وأخى، فى سنوات التربية. إذا فسد الضمير، فلا شىء ينفع. تربية الضمير اليقظ- وهذه كلمته المتكررة أيضًا- أصعب المهام، وأشدها خطرًا، إذ بينما كان يزرع ويبنى، كان المجتمع من حوله يهدم بلا هوادة. خداع الذات كان أكثر ما يكره فى الحياة، وكان يعرف جيدًا أن البشر بارعون فيه إلى حدٍ مخيف. لذلك كان يقرأ الأشخاص بعين ثاقبة تكاد تنفذ إلى قلوبهم. ومع الزمن، طور هذه القدرة، فصار الناس أمامه كتابًا مفتوحًا. يكاد يخترق مراميهم الخفية، ويخلع عنهم ما تقنعوا به من أقنعة. كان يُكرر دومًا: «ومهما تكن عند امرئ من خليقةٍ.. وإن خالها تخفى على الناس تُعلمِ». نسيتُ أن أخبرك أنه كان يحب الشعر، ولاسيما ذاك الذى يقتنص معانى الحياة الكبيرة فى كلمات قِصار موحية. كان يحب الكلام الذكى البليغ، كفرعٍ من تقديره للذكاء فى البشر، واحتفائه بحضور الذهن والبديهة.

كان رجلًا يُدرك الكثير عن «لعبة الحياة». يفهم كيف يلعبها الآخرون جيدًا، بل يُقدر الناجحين فيها، ولا يبخسهم أشياءهم. غير أنه رفض من البداية «أن يلعب اللعبة» بقوانينها الموضوعة. هو أدرك أن الحياة تقوم على المبادلات. «مفيش حد بياخد كل حاجة».. كان يقولها لنا عند كل منعطفٍ مهم فى الحياة لأنه يعرف رغبة البشر فى الحصول على كل شىء. أما هو فعرف من البداية أن هناك أشياء لابد من التضحية بها فى مقابل الحصول على أشياء أخرى. الحصيف مَن عرف قيمة ما يبادله، ومَن وضع للأشياء سعرها الحقيقى وقيمتها الحقيقية. هو وضع قيمة عالية جدًّا لاحترامه لذاته، ولرغبته فى عيش حياته كما يريد.. كرجلٍ فاضل متسق مع ذاته. فى مقابل هذا، كان مستعدًّا لتضحيات كثيرة. وأثبت عبر رحلته أن البيع ربح!.

 

 

 

أحسب أن الدنيا تغيرت من حوله فى الثمانينيات والتسعينيات. الكثير من أصدقائه ورفاق رحلته هاجر إلى الخليج. أصر على التشبث بمكانه فى الوطن رغم المُغريات، ورغم صعوبات الحياة المتزايدة. كان يعرف أنه لن يكون ذاته لو تخلى عن دوره فى مصر. ألم أقل إنه كان يرى الحياة مسؤولية؟. هذه المسؤولية كانت تمتد لتشمل الوطن كله. كان يعتبر نفسه مسؤولًا بصورة ما عن المجتمع. لا أعتقد أنه عد نفسه مجرد كاتب صحفى. كان يرى نفسه- فى الأساس- مصلحًا اجتماعيًّا يعمل على نطاق محدود، وفى ضوء المهام التى يُحددها لنفسه، ومن دون أى ادعاء للبطولة أو رغبة فى الحصول على مكانة.

55 سنة صحافة.. رشدي أبو الحسن

جرفته السياسة حينًا، خاصة فى الستينيات والسبعينيات. تعلق بأهداب الاشتراكية ورآها طريقًا لتغيير المجتمع. ثم كان أن اكتشف، بحاسته الرافضة للزيف وبعقله الناقد، أن هذا الطريق ليس خاليًا من المثالب والمزالق. كثيرًا ما استغربتُ جرأته فى فراق «قبيلة اليسار» من دون أن يسعى لأى مكسب من وراء ذلك، أو ينشد الانضمام لفريق آخر. راجع أفكاره كلها فى الثمانينيات فى شجاعة ناقدة، وحاسب نفسه بشدة، ولم يشأ أن ينغمس فى خداع الذات أو الشعارات الفارغة للحظة واحدة.

أهم ما شغل نفسه به هو التربية؛ تربيتنا نحن أبناءه، وأيضًا كل مَن يقبل به مُعلمًا. ظروف المجتمع لم تُعطه المساحة التى كان يستحقها لكى يُمارس عملًا عامًّا سوى فى فترة محدودة دخل خلالها مجلس نقابة الصحفيين سنة 1973. يقول عن هذه الفترة فى كتابه البديع (55 سنة صحافة): «وفى الفترة النقابية لم أتوانَ عن الواجب الصحفى. ولكن شغلنى العمل النقابى ليس فقط كأمين للصندوق، ولكن فى مجمل النشاط. وإذا كنا تعلمنا (ولا تُزَكُّوا أنفسكم)، فلابد مع ذلك أن أذكر أننى خلال عامين أنجزتُ أعمالًا باقية. أذكر منها فقط الآن تأسيس أرشيف للنقابة، بالاستعانة بخبراء ظلوا يعملون شهورًا، تعجب الموظفون بعدها كيف كانوا يعملون دون هذه الأعجوبة. وكان الأساس الذى حفظ ذاكرة النقابة، وتطور مع الأيام وإلى اليوم».

كان رشدى أبوالحسن بنّاءً عظيمًا، ويعشق البنائين العظام. يبحث عنهم ويعرف فضلهم، ويسعى لتقديمهم للجمهور. ومَن يقرأ كتاباته فى «صباح الخير» عبر السنين يُدرك هذا المعنى. هو كان يفتش فى دأب عجيب عن كل مجيد فى عمله، مبدع فيه لوجه الله والوطن. يكتب عن طبيبه الخاص، الذى صار صديقه «ألبير باسيلى»، وعن علماء يعملون فى صمت ودأب مثل مصطفى سويف ورشدى سعيد. كان يُقدر «الوطنية المُنجزة»، لا وطنية الشعارات، ويُجل أصحابها إجلالًا شديدًا. ولا أظن أننى رأيتُ فى حياتى شخصًا يعيش مبادئه قدر ما فعل أبى. لذلك كان قادرًا، على نحو مزعج للآخرين، أن يكشف الفجوات الهائلة بين القول والفعل، بين المبدأ والواقع. وقَلّما سمعتُه يتحدث عن المبادئ الكبرى والشعارات.

وفى المبدأ والمنتهى، ظل أبى فى داخله صعيديًّا حقًّا. صحيح أنه غادر الصعيد إلى عالم القاهرة منذ 1958، ولكن لا أحسب أن الصعيد غادره قط. كان يعيش مع ذكرياته الأولى وأسرته الممتدة ويُعايش رحلتهم فى محبة هائلة. زودته ثقافة الصعيد بكراهية فطرية للنفاق، وللمواقف المائعة. كان يرى «الحراجية- مركز قوص بقنا» أرض الحقيقة، وكان يتذكر أباه العمدة أمين فى كل يوم تقريبًا كأنه يعيش معه. وأغلب الظن أن عائلتنا فى الصعيد ظلت ترى فيه ابنًا بارًّا خاض رحلته فى عالم القاهرة دون أن يتلون أبدًا. كانوا يراقبونه من بعيد، ويقدرون «بطولته» الهادئة فى عالمٍ ملىء بالمُغريات. وعندما أتأمل مشواره الثرى، أرى معنى البطولة حاضرًا فى بهاء. إنها بطولة رفض قواعد اللعبة، من دون التمرد عليها أو ادعاء التعالى على المجتمع. كان أبى بطلًا يرفض التتويج. بطلًا يُصر على أن يعيش كشخص عادى، ويرحل كشخصٍ عادى. رحمه الله أبًا ومُعلمًا وصديقًا وإنسانًا نادرًا.

نقلا عن المصرى اليوم