كرافتة وروج
قصة: هيام هداية
خرج صوت فيروز عبر الهاتف «ناعمًا كوريقة زهرة ندية، دافئًا كحضن فى شتاء ديسمبر» – تذكر آخر مرة شو قولتيلى - ليقطع تركيزى فالتقطه فى غير اهتمام دون النظر إلى هوية المتصل، لتبدأ المحادثة المتصل : ألو ... ؟
أنا : ألو ؟
المتصل : ريما ؟
أنا : مين معايا !!!
سكون للحظات...قطعته سريعًا بإعادة النظر إلى الهاتف مرة أخرى فى محاولة لمعرفة هوية المتصل ؟؟؟ إنه رقم دولى .... لعله يكون ..
المتصل : أنا خالد ... ازيك ريما
أخذت نفسًا عميقًا .. ولا أعرف حتى هذه اللحظة سر البرودة التى أصابتنى فجأة، ارتعشت يداى وتشنج صوتى فاكتفيت بالإنصات فقط، وكأنى تحولت إلى مسجل، أسمع دون إدراك أو تفكير.
خالد : ثوانى خليكى معايا ع الخط، هخلص مع العميل وهكون معاكى
أنا :أوك
عدت فجأة بعقلى تلك الفتاة الصغيرة قبل خمس عشرة سنة ...عندما تذكرت آخر مرة تقابلنا أنا وخالد صدفة بعد أن كنت – لحيائى - أقطع على أنفسنا كل اللقاءات والمناسبات داخل العائلة .
امتدت يدى إلى درج الكوميدينو بجانبى لألتقط مجموعة من الصور كنت قد حزمتها بشريط أحمر وصرت أفرها كوريقات الكوتشينة والى جانبها كان يستقر جوانتى وردى اللون .
إنه خالد، حبيب الطفولة، كان قريبًا للعائلة، وكنت أتتبع أخباره من المقربين والأصدقاء المشتركين، حتى أننى صادقت أخته الصغيرة لأعرف منها كل ما يحب ويكره، كنت أتحول إلى إنسان آخر عجيب كاسرة أنفى الشامخة لأجله،أسعى لإرضاء ومحبة كل فرد فى أسرته لتكون لى أولوية الاختيار إذا ما طرح اسمى بين المرشحين كزوجة له . كنت أتجاهل النظر إليه خشية أن تفضحنى عينى بالاعتراف له بأن قلبى يكاد ينفجر حبًا له.
أتفنن فى رسم ملامح جامدة غير مبالية إذا ما تشاركنا التواجد بمكان فجأة معًا، لكن داخلى كانت ثورة فرح وجنون وحب وبكاء .
فى إحدى المرات تشجعت وطلبت منه التواصل بتبادل أرقام التليفونات، وبالفعل تحادثنا كثيرًا كل ليلة تقريبًا، وتشاركنا مواضيع كثيرة كانت تزيدنا قربًا وحميمية .
حتى قررت مصارحته بحبى رغم تحذيرات أمى بأن الرجل يزهد فى المرأة التى تعلن عن مشاعرها، ألقيت بكلام أمى خلف ظهرى وضربت بكل عادة وتقليد عرض الحائط وصممت أذنى عن كل ما قد يعيقنى عن هذا الاعتراف الأجرأ فى حياتى . ارتديت أجمل ما عندى وكنت قد احتفظت به خصيصًا لهذا اللقاء، وذهبت إلى مكان لقائنا المحدد بإحدى كافيهات جاردن سيتى، وصلت فى الميعاد وقلبى يكاد يتوقف من السعادة، فها هو الحلم يتحقق .
لم يكن خالد قد وصل بعد، فدخلت سريعًا إلى الحمام لأعيد النظر فى المرآة وإصلاح ما قد فسد من الماكياج ورحت أنفض شعرى كفرس كريمة عرفها .
تخيرت طاولة مميزة، كاشفة للمكان وخاصة باب الدخول وجلست ساكنة فى انتظاره، بينما عقلى لا يتوقف عن رسم سيناريوهات السعادة التى سأعيشها بعد لحظات .
تحولت اللحظات إلى ساعة انتظار كاملة كسرت فى نفسى لهفة اللقاء، وكان هاتفه مغلقًا طيلة هذه الفترة، أمسكت بحقيبتى وهممت بالاستعداد لمغادرة المكان بعد أن سئمت نظرات التساؤل فى عيون من حولى، لكن دخول خالد بوسامته وأناقته أطاح بفكرة الخروج من الجنة – كما تخيلتها وقتها – وهو يجتاز باب الكافيه متجهًا نحوى فى ثبات وقد تعانقت الكفوف والأنامل، قائلاً بكل هدوء
- ازيك ريما
- ازيك خالد
- ليه اتأخرت ؟
- كنت مشغول جدا فى المكتب ونسيت الميعاد
- بنظرة حزينة مترددة «طيب لو تحب ترجع الشغل عشان متتعطلش»
- لا عادى أخدت إذن ساعة
- قتل «خالد» ما بقى داخلى من كلمات، حتى أنه لم يبد أى تعليق على زينتى أو فستانى ولو على على سبيل المجاملة، لكنه أثنى على عطرى - دائما كما عهدتك زهرة كاميليا تكبر أمامى ويدك الرقيقة تأسرنى بدلالها- فبادلته بابتسامة ليست بالسعيدة ،لكنها أضفت على اللقاء بعض الهدوء لأخذ الأنفاس .
تركت له بداية الحديث ولى المشاركة، وقد استرسل بالحديث فيه عن العمل ومشاكله حتى أنه يفكر فى السفر للخارج .
حدثتنى نفسى «جرح جديد لكنه هذه المرة أعمق من أن أداريه بابتسامة»
- سفر، إلى أين ؟
- أى بلد أوروبى
- أنا «بجرأة كسرت كل حدود الحذر والكبرياء» ولكنى أحبك ولن أستطيع الحياة بدونك
- هو «بشىء من عدم الاكتراث «أعرف، ولكنى لا أفكر الآن بشىء غير بناء مستقبلى ووجودك فى حياتى سيعطلنى فى استكمال طريقى الذى أنشده من النجاح «.
- «بشىء من الصدمة .. وجودى سيعوقك؟!»
- أنت لاشك فتاة جميلة كنت أتمناها ولكنك فى الوقت غير المناسب .
حسمت كلماته موقفه، وحسمت دموعى الثابتة على طرف مقلتى موقفى .
طلبت منه السماح لى بالمغادرة - حتى لا تسقط آخر معاقل كرامتى أمامه عندما أنهار بالبكاء، وبالفعل قبل أن يبدأ حديثه بالشرح والتبرير فى محاولة لإصلاح تأثير قسوة كلماته،كنت قد غادرت الكافيه وأغلقت باب الجحيم – والذى حسبته منذ لحظات نعيمًا - خلفى، فأنا لا أقبل بحب الشفقة .
كنت أسير بالشارع كالمجذوبة، أرى الناس أشباحًا تتحرك من حولى، حتى وصلت البيت ودخلت حجرتى أختبئ بها، لا أدرى ماذا أفعل ؟ قلبى يعتصر حزنًا، وكرامتى نصبت لى محكمة تجلدنى فيها بلا رحمة . وهو ... هو ..ترى ماذا يفعل فى أول ليلة فراق بيننا ؟ هل هو حزين مثلى؟ هل يتألم قلبه ولو قليلا ؟ هل يجلده ضميره على قسوته معى كما تجلدنى كرامتى على إراقتى لها ؟أم أن نشوة أحلامه المستقبلية ضمدت جرحه سريعًا،ومات ضميره فى لحظة أنانية .
خذلتنى مشاعرى ثانية فى تلك اللحظة الضعيفة وأرسلت له رسالة كتبت فيها كيف سأنام دون سماع صوتك ؟كيف أغمض عينى دون أن تكون أنت آخر ما أسمع ؟
أجابنى سريعًا فى هدوء وثقة قائلا: ستعتادين الأمر.
ألو ... ألو ....ريما، هل تسمعينى ؟ آسف لانتظارك على الهاتف وقد تأخرت عليكى عزيزتى، فطلبات الشركة لا تنتهى، وقد أصبحت مؤخرًا رئيسًا للفرع هنا فى ايطاليا.
أفقت أنا الأخرى – ورحت أنفض عن نفسى غبار الذكريات - على سؤاله المتكرر، ريما .. ريما هل تسمعينى ؟ اشتقت إلى وجهك الجميل كثيرًا، وإنى لأشتاق الرجوع بعد أن حققت ما أريد،وأتمنى أن تكونى تزوجتى، وثقتى أنك كنت تحبيننى ولن تقبلى الزواج بغيرى، لمَ أنتى صامتة، ألم تشتاقى لى كل تلك السنوات؟
فقلت – وأنا ألتقط بابتسامة ساخرة الجوانتى الحريرى الذى كنت أخبئ به يدى وأنا تلك العاشقة الصغيرة وقتها لتظل ناضرة كما كان يحب أن يتغزل بها، ثم وضعته جانبًا وأنا أنظر إلى يدى وأزيل عن إصبعى المجروح هذا الصباح لفات البلاستر – لأقولها فى ثقة، لا، لا أشتاق إليك .
فقال لى – بصوت حزين – ولكنى بحثت كثيرًا ولم أجد مثلك طيلة سنوات غيابى وأدركت قيمة أن تحب المرأة رجلاً بهذه الصورة التى كنتى تحبينى بها والآن سأعود إليكى لنتزوج، هل نسيتى حبك لى، من أين أتيتى بهذه القسوة؟ وكيف استطعتى ذلك، وكيف سأعيش الآن بدونك ؟
لم يهتز قلبى للمرة الأولى أمام كلماته وكأنى أنثى غير التى أعرفها، وقلت قاسية على نفسى وعليه داخلى : لم أستطع، ولكنك ستعتاد الأمر.