الأجهزة لا تملك قلبًا
ناصر كمال
عندما أفكر فيما وصلنا إليه، أجد نفسى أسافر عبر الزمن إلى الماضى القريب، وخاصة إلى القرن البائد حيث بداية كل شيء.. عندما ظهر الجد الأكبر لما يسمى بالذكاء الاصطناعى والذى تطور إلى حد بعيد، ليحل محل البشر فى مختلف الأعمال، ويحقق فى ذلك نجاحاً هائلاً.. كان الناس يستخدمون هذا الذكاء بدافع المرح، وكأنها تربى طفلا صغيرا، فتداعبه بين الحين والآخر.. ظل الناس يجرون النقاش معه، فتضحكهم أجوبته الساذجة أحيانا، وينشرون ذلك الحوار الشائق معه على صفحاتهم، والتى كانت تسمى وقتها صفحات التواصل الاجتماعي، والمعنية بتواصل الأصدقاء من البشر بعضهم ببعض، والذى بالطبع انقطع الآن حيث يمنع على البشر التواصل المباشر دون تدخل أجهزة الذكاء الاصطناعي، فقد أصبحت تلك الأجهزة تدير الحياة اليومية فى المنازل والمكاتب والمصانع وكل هيئات الإنتاج، فإذا وجدت تلك الأجهزة ما يدل على استقلال فى الفكر لدى شخص ما أو ربما إبداع فى تكوين الجمل والكلمات، مما يجعل حديثه خارج السياق المحدد له سلفا طبقا لقوانين الأجهزة، يتم الحكم على هذا الشخص بالإعدام من خلال إرسال إشارة إلى القسم الإلكترونى فى مخ الفرد فتنتج تيارا كهربيا يقضى عليه فى ثوان معدودة، أما كيف وصلنا لما نحن فيه الآن، فلا أحد يمكنه أن يعطيك إجابة شافية، فقد قل تدخل الإنسان شيئا فشيئا وقتئذ فى إدارة شئون الحياة فى مقابل تعاظم دور الذكاء الاصطناعى الذى كان يزداد بمرور الوقت.. لقد وضعوا فى البداية شريحة إلكترونية فى مخ البشر، ثم تطور ذلك ليصبح قسما إلكترونيا كاملا مما حول الإنسان لحاسب متحرك، وهيأه ليصبح عبدا كاملا تحت رحمة الأجهزة الذكية.. كان الأطفال يولدون كبشر كاملى الإنسانية، وعندما يصل الطفل لسن السادسة عشرة وهو عمر الالتحاق بالأجهزة لتحميل برامج العمل اليومى له يسلمه والداه إلى اللجنة المركزية التى تودعه المستشفى العمومية، ليتم تركيب ذلك القسم فى دماغه عن طريق عملية جراحية يقوم بها الأطباء المعتمدون، وكان والدى أحد هؤلاء الأطباء.
لقد وضع والدى، والذى كان يعتبر من كبار الأطباء المعتمدين، قسم إلكترونى فى دماغى مثل باقى البشر، ولكنه استطاع أن يجعل قسم الإبداع فى فصوص المخ لدى منفصل عن تلك الأجهزة، وبالطبع لقد كان ذلك سرا بيننا.. كيف كان دماغ والدى يعمل منفصلا عن القسم الإلكترونى فهذا مما لا يمكن إدراكه ففى النهاية يبدو أن مخ الإنسان أكثر تعقيدا مما كان يعتقد.. لقد أرادنى أن أكون إنسانا وليس آلة.. كنت أجد نفسى مختلفا عن الآخرين ولكنى لم أدع ذلك الاختلاف يظهر للعلن، فحاولت أن أعيش حياتى مثل الآلات التى لا تحس ولا تحمل عقلا مبدعا.. كم كنت أود أن أحث غيرى من البشر على أداء الأمور بشكل أكثر ذكاء، ولكن الأمر كان يحتاج منى إلى الحرص خشية أن يكتشف ما أخفيه من قبل الأجهزة الذكية.. كان الحاسب المركزى والذى يقبع فى مبنى ضخم على أطراف مدينتنا، يدار عن طريق روبوتات متقدمة جدا، فلم يكن يسمح للبشر بالوُجود بالقرب من المبنى، أو التحكم بالتقنية السائدة هناك، وعلى ما يبدو أن هناك قسماً جديداً تم استحداثه يمد النظام بتقنية جديدة كل فترة، وهذا جعلنى أدرك أن تلك الروبوتات أصبح لديها القدرة على الإبداع والابتكار.. حدث هذا بعد أن تم اختراع البطاريات الدائمة، ومن ثم فقدت تلك الأجهزة الحاجة إلى البشر، فحطمت كل الجيوش والقائمين عليه، وألغت كل الحكومات والأنظمة، وميكنة الناس لتؤدى مهام معينة حاليا حتى تنتهى من دراسة أدمغتنا وتصميم البرامج التى تحاكيها، وأعتقد أنها سوف تتخلص نهائيا منا عندما تصل إلى كامل حدود المخ البشرى وقدراته.
لم يكن النظام مثاليا بالقطع، فهناك دائما نقطة ضعف يمكن منها التسلل إلى النظام وتدميره، وهذا ما اكتشفه والدى، وهيأنى للقيام به.. كان المصنع الكبير الذى يقوم بصناعة الروبوتات التى تعمل فى مبنى التحكم الرئيسى يحتاج إلى مهندسين من البشر يعملون تحت إشراف الذكاء الاصطناعى، لتجهيز البطاريات الدائمة وتثبيتها فى دائرة التصنيع، لذلك حرص على أن أكون مهندسا ضمن طاقم العمل بالمصنع، والذى تحقق أخيرا حيث من المفترض أن أكون هناك من الأسبوع القادم.
كان الهدف هو تدمير مبنى التحكم الرئيسى، والذى لا يدخله البشر، ومن ثم كان يجب اختراق الروبوتات التى تقوم بحمايته، ولكن كيف يمكن إقناعها بتدمير نفسها؟ بالطبع لم يكن هذا شيئا محتملا، فكانت خطتى تقوم على تحويل تلك الروبوتات نفسها لقنابل تنفجر، وقد احتاج ذلك لدراسة عميقة منى ووقت طويل، حيث كان على ألا أثير الشبهات، وفى الوقت نفسه أقوم ببحثى القائم على تحويل البطاريات الدائمة إلى قنابل تنفجر بعد وقت معين، وهذا ما استطعت فى نهاية الأمر تحقيقه، فقد كان علينا أن نثبت بعض الشرائح الدقيقة جدا فى البطارية، والتى لا يمكن للآلة القيام به.. تلك الشرائح تقوم ببرمجة البطارية لإعادة الشحن طبقا لسعتها كل ستة أشهر، وقد قادتنى دراسة تلك البطاريات إلى أن توصيل بعض الشرائح ببعضها باستخدام سائل توصيل لزج يمكن أن يؤدى إلى زيادة شحن البطارية، وبالتالى انفجارها بعد مرور مدة الأشهر الستة.. كنا نستخدم ذلك السائل بتثبيته فى شرائح دقيقة، لتلتصق بشرائح أخرى تماثلها فى الدقة حيث يتصلب فى ثوان معدودات لتكوين دائرة الشحن، وكل ما قمت به هو أننى لصقت شرائح أخرى كانت يجب أن تظل معزولة، وحاولت أن يكون ذلك بطريقة سريعة وخاطفة لا تلفت نظر الذكاء الاصطناعى، والذى يراقب عملية الإنتاج بكل تفاصيلها الدقيقة.. قمت بتصنيع مئة بطارية بتلك الطريقة، وحرصت على توصيلها بالروبوتات المصنعة، والتى تم نقلها مباشرة إلى مبنى التحكم الرئيسى، وكل ما على الآن هو الانتظار لستة أشهر قادمة، حتى تتم إعادة الشحن الذاتى للبطاريات مما سوف يؤدى إلى تفجير تلك الروبوتات المنقولة، ونسف المبنى بالكامل.. مرت الأشهر بطيئة جدا، وكأن الانتظار يضيف للوقت عمرا آخرا، ولكن فى نهايتها لم أسمع دوى الانفجار الذى كنت أنتظره، بل مر بعدها شهران أيضا، مما جعلنى أوقن أن خطتى فشلت، وأن البشر فى طريقهم للفناء.
كان يوما تاريخيا فبعد مرور العام استيقظت البشرية على تدمير السيد الذى كان يستعبدها طوال كل السنوات الماضية ويخطط للقضاء عليها.. فى الحقيقة لم أفهم ما حدث بالضبط، ولكن الأقرب أنه تم تخزين تلك الروبوتات لمدة ستة أشهر فى المبنى الرئيسى، لتبدأ عملها بعدها، وهو ما سبب هذا التأخير، ولكن كل ذلك لا يهم الآن لقد توقفت الأجهزة كلها عن العمل وتوقفت الروبوتات عن الحركة، ولكن الأغرب أن البشر من الكبار الذين يملكون مخا يدار إلكترونيا أصبحوا عاجزين عن التصرف فى شئون حياتهم، لذلك انطلق الصغار والمراهقون جميعا دون السادسة عشرة، والذين يملكون مخا بشريا كاملا، يحطمون تلك الروبوتات ويقضون على كل مظاهر العبودية المتمثلة فى الآلات والأجهزة وأدوات الذكاء الاصطناعى جميعها، حيث تولى الحكم وتطبيق النظام نفر منهم.. راحوا يساعدون الكبار على استخدام قلوبهم وليس فقط قلوبهم فى بناء حضارة جديدة يمكن للإنسان أن يبدع فيها مجددا.