الأحد 28 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
وصية الأستاذ والمشهد الأخير!

وصية الأستاذ والمشهد الأخير!

رحل النبيل صاحب المشاعر المرهفة الذى عاش وكل همُّه وقضيته التى يكتب لها وعنها هى الإنسان والإنسانية.



رحل رجل زمن الإخلاص، من كان يرى الكلمة سلاحًا، ودواءً، وريشة لرسم الأحلام، وضوء يقود للهدف وهو الإنسانية والعدالة الاجتماعية.

رحل الرجل المهم فى وقت يمر فيه العالم ومنطقتنا العربية بالذات بمآسٍ وكوارث إنسانية وإحباط وخذلان.. كل هذا ربما أفقده شهية الحياة وانسحب منها فى سلام ودعة إلى مكان أفضل كما كان يعيش دائمًا فى هدوء وسلام مبتعدًا عن صراعات البشر المادية.

رحل أستاذنا رؤوف توفيق الكاتب الناقد المُلهم.. فقد كانت مقالاته (لا يصح إلا الصحيح) مُلهمة، بل هى كود أخلاقى للمهنة ولكيفية التعاطى مع الحياة بشكل عام فهو يكتب فى السينما كما يكتب فى السياسة وفى الاقتصاد وفى القضايا الاجتماعية بهدوء المتزن الواضح الرؤية والهدف لكن بلاحسابات ولا مؤامات.. تعلمت منه قبل أن أراه.

قلما يجود علينا الزمان بلقاء أشخاص مؤثرين فى حياتنا.. أصحاب بصمة لا تمحى وتنعكس على رؤيتنا لكل شىء.

وكان لى شرف وحظ أن يكون أستاذ رؤوف هو رئيس تحريرى لمدة عشر سنوات فى بدايات تكوينى المهنى ورأيته صورة للكاتب الصحفى الهادئ المتواضع الذى يستطيع التغيير بقول الحق ومواجهة الفساد والفاسدين دون استعراض عضلات ولا زعيق ولا قلم سليط اللسان.

فقط يكفيه أن يكتب عنوانًا مثل (ضريبة أن تكون فقيرًا) فى كارثة احتراق قطار الصعيد لتكون كلماته هى الأصدق والأعمق والأكثر تأثيرًا بين كل ماقيل وقتها.

وكما يفعل فى نهايات سيناريوهاته العظيمة دائمًا بأعلى حبكة تصل إلى الهدف بخلاصة راقية وواقعية ، بلور رؤيته بل قل وصيته عن دور الصحفى والصحافة فى آخر كلماته فى نقابة الصحفيين أثناء تكريمه الأخير فى ديسمبر 2018 وكأنها وصيته الأخيرة لأبناء مهنته قبل أن يتمكن منه المرض ويغيبه عن المشهد الصحفى فقال:

(لا أهدف إلى تحريك الآخرين، إنما إلى تحريك وعيهم.. فالصحفي هو حامل المشاعل للطرفين، الحاكم والمحكوم ولا يقوده إلا ضميره فقط).

وقال  أيضًا: (الكلمة لن تعيش إلا إذا كانت حرة غير ملوثة بالخوف أو الإغراءات المادية أو المهنية).

لهذا عاشت كلماته ومقالاته وأفلامه فى قلوب وعقول كل مريديه ومحبيه.

هكذا كان أستاذنا الذى تعلمت على يديه ولم ينقطع التواصل معه حتى بعد تركه منصب رئيس التحرير سواء فى بيته ومع أسرته الجميلة أو فى لقاء احتفالاً بعيد ميلاده أو فى معايدة جميلة أتلقاها منه صباح كل عيد، مع نصائح وكلمات: (أنا متابعك عايز أشوف شغلك دايمًا).

هناك أشخاص لو اختفوا أو انسحبوا من حياتنا حتى لو بالموت تظل أرواحهم وأعمالهم وذكرياتنا معهم حاضرة لا نستطيع وصفهم بالفعل الماضى (كان) فهو الحاضر دومًا فى ذكرياتنا وفى تجمعاتنا فما أن يرد اسمه تجد الملامح تغيرت وارتسمت ابتسامة مع هزة رأس تترجى الزمان يعود كما كان مع دبيب حنين فى قلوبنا لأيامنا معه. تمامًا كما تحل فجأة على ذاكرتى صورة والدى رحمة الله عليه فالأستاذ رؤوف هو والدى الروحى أنا وجيلى بالمعنى المهنى والإنسانى.. فعليًا كان يعاملنى كأب بابتسامته الحانية حين أدخل عليه بفكرة تحقيق أو أوراق تحقيق كبير متفق عليه وأنجزته فى موعده وبالشكل الذى يرضى عنه ليرفع نظارته بعد القراءة المتأنية وبعد دقائق من قلقى وانتظارى.. تمام تحقيق حلو عديه على الأستاذ رشاد كامل (مدير التحرير).

كانت بوصلته الصحفية لا تخطئ أبدًا.. يستطيع اكتشاف نقاط قوة كل محرر من المحررين فى جلسة واحدة ويساعده على إبراز قوته أكثر بدعمه وتشجيعه.

 

 

 

 

كان دايمًا يرانى متحركة فى الجامعات وأوساط الشباب وأعضاء هيئة التدريس فكان أسبوعيًا يسألنى هنعمل إيه؟ قضيتك إيه الأسبوع ده ؟

فكانت أغزر فترات إنتاجى الصحفى خلال العشر سنوات الأولى معه رغم زواجى وإنجابى خلالها، لكن لم أتوان  أو أقصر معه بالعكس.

أتذكر نزولى لإجراء حوارات وتحقيقات وأنا فى شهرى التاسع وأيام حملى الأخيرة، فلم أكن أستطيع التأخر ليس خوفًا، بل تقديرًا واحترامًا وإحساسًا بشغف كان يزيده بداخلى تشجيعه وابتسامة الرضا عن أدائى. أتذكر شتاء 1998 وكان يوم السبت 6 ديسمبر.

دخلت أسلم له تحقيقًا عن الجامعة  أتذكره جيدًا (هيبة الحرم الجامعى ضاعت) وأستأذنه فى إجازة طويلة لأنى سأدخل المستشفى .. موعد الولادة يوم الثلاثاء 9 ديسمبر.. فضحك وقال لى: بجد شدى حيلك بس إجازة طويلة ليه!.. أنتِ ست مصرية جدعة وهاتولدى بالسلامة وأسبوع وتعالى! فوجئت بنشر الموضوع فى نفس الأسبوع مع زيادة حجم الاسم (كتابة اسم المحرر ببنط أكبر)  ليكون أول خبر يسعدنى بعد ما أفتح عينى من بنج القيصرية!

الحقيقة أن من ضمن نعم ربنا على الأستاذ رؤوف هو زوجته الجميلة منى ثابت الكاتبة الصحفية الرقيقة التى لا تقل عنه فى رهافة الإحساس فهى نعم الزوجة المُحبة  المتفانية فى عطائها لزوجها وبناتها، هى الكاتبة الصحفية منى ثابت دائمًا تبحث عما يسعده وكانت تزيد من جسور التواصل بينه وبين تلاميذه وزملائه تفتح قلبها قبل بيتها لكل محبيه  لأنها تعلم أن ذلك يسعده.. فكنا حوله فى مناسبات كثيرة.

وألبوم الصور يوثق لقطات من ذكرياتنا معه.. كل صورة لها حكاية ومناسبة جمعتنا

فى الصورة الأولى كانت عام  2009.

جاء ليشاركنا احتفالنا برجوعنا لمبنى صباح الخير الأصلى بعد سنوات من الابتعاد القسرى عنه فى مبنى جديد، وكانت رغبتنا بالعودة للمكان الذى ولدت مجلتنا فيه وشهدت أركانه تاريخًا طويلاً لعمالقة الصبوحة من أحمد بهاء الدين وصلاح جاهين والسعدنى وحتى أستاذ رؤوف توفيق، وكانت فرحته أكثر منا فهو من عايش المكان وكل عمالقته.

فى الصورة الثانية يوم فى بيته ومع أسرته الجميلة

جمعنا بعضنا بناته من جيلنا والجيل السابق علينا من أساتذتنا الجميلات وذهبنا إليه نحتفل بميلاده ومعنا هدية رمزية كتبنا فيها جملتين عبرتا عن  مدى حبنا وتقديرنا لمشواره معنا ومشوارنا معه فى بلاط صاحبة الجلالة.. فباغتنا بخفة ظل: (إيه ده انتوا جايبين لى هدية إيه) وفرح بها جدًا، كان يومًا من أجمل الأيام وبذكائه الاجتماعى كان يُشعر كلاً منا أنه أهم شخص لديه ويختصه بتقدير خاص.. وظلت زوجته الرقيقة بعد الزيارة تتصل بنا لتعبر عن مدى فرحته بزيارتنا له وتجمعنا معه.

الصورة  الثالثة تكريمه فى المركز الكاثوليكى للسينما:

كنا معه فى حفل تكريمه بالمركز الكاثوليكى للسينما عن مشواره الفنى العظيم.

وكانت ليلة تليق به حضرها كل محبيه على رأسهم الأستاذ المبدع إيهاب شاكر رحمة الله عليه وكنا تلاميذه فى المسرح كما مشجعى الكورة فى الاستاد تصفيق وهتاف وصفير فرحة بتكرم الأستاذ المستحق.

أما الصورة الرابعة، فهى التكريم الأخير بنقابة الصحفيين.

وعلى طريقة الأفلام كان مشهد الفينال الجميل فى علاقة بدأت فى يناير 1994.

هو مشهد تكريمه كأستاذ قدير عن مشواره الصحفى الطويل وفوزى بجائزة المركز الأول فى صحافة المرأة فى مسابقة نقابة الصحفيين.

2018 وكانت آخر وأجمل لقاءاتنا.

وكأن القدر أراد أن يزيد من سعادتى بأحلى مشهد لقاء الأستاذ والتلميذة فى ليلة تكريم مهنى.. تفاجأت بحضوره ورأيته يدخل برفقة زوجته الجميلة ويجلس فى الصف الأول بجوار النقيب.

فما إن رأيته قفزت من مكانى وهرعت إليه بلهفة.. أستاذى وهو بذات اللهفة.. جيهااان.. أنا فرحان إنى شوفتك وأنا طايرة من الفرحة يا أستاذنا ونسينا الحفلة ومن فيها وامتد حوارنا والسؤال عن الأحوال إلى الملف الذى حصلت بسببه على الجائزة وهو ملف (التوحد بطولة أمهات وتخاذل مجتمع)  نُشر فى الزميلة مجلة «نصف الدنيا» فقال لى كلامًا أعتبره أغلى تكريم فى حياتى.

قلت له إن أفضل تكريم فى حياتى هو وجودى فى نفس ليلة تكريمك تكريم أستاذى الذى بدأت معه وتعلمت منه الكثير.

وكان آخر لقاء بيننا، لكنه كان أجمل لقاء.