الخميس 9 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

حرروا مشاعركم

جروحنا النفسية طريق نور جوانا

مازلنا فى رحلة البحث عن النسخة الأفضل بداخلنا، لا شك أن كل منا يحمل نسخته بداخله، ولكن ربما تكون نسخ البعض ليست جاهزة للنشر بعد وتتطلب الكثير أو حتى القليل من التنقيح والمراجعة.. وهى ليست مسألة وقت فحسب، بل مسألة وعى وتجديد نية وقرار ومجهود، وإخفاقات وصحوات، وتحديات.. فليس هناك دروس مجانية فى الحياة، والأوجاع ليست عقاباً، بل ضريبة تعلُّم، بل دفع مستحق للوصول إلى النضج والارتقاء والجودة الإنسانية، ولكن كل هذا مقرون برغبتنا الحقيقية فى إيجاد النوربداخلنا، ولكن من أين الطريق؟ وما  الدليل إليه؟ ومن الرفيق فى هذه الرحلة؟



 

النسخة الأفضل

لكى نعثر على النسخة الأفضل بداخلنا، فإنه يتطلب أن نكون على وعى ومعرفة مناسبة للنسخة التى نحن عليها الآن -وأقول معرفة مناسبة – لأنه من الصعب والخيالى أن نكون على معرفة تامة بأنفسنا لأننا متغيرون طوال الوقت حتى بدون أن نشعر بذلك.

هذه المعرفة أو ذلك الوعى يعنى أن تكون لدينا القدرة على توليد معلومات ذات جودة عالية عن أنفسنا بين كل حين وآخر وذلك وفق تعريف الدكتور أحمد الأعور إخصائى علم النفس السلوكى والمعرفى وما يقصده بكلمة « توليد معلومات» يعنى أن معلوماتنا عن أنفسنا ليست ثابتة وتحتاج إلى تحديث بين وقت آخر وبين خبرة وأخرى نمر بها، فالظرف الاجتماعى والنفسى الذى يمر به الشخص متغير ومدى قدرة وتعامل الإنسان مع تلك المتغيرات متغيرة هى الأخرى وفق مدى صلابته النفسية ومدى معرفته ووعيه بنفسه ووفق نمط شخصيته ووفق مجهوده وأدائه فى تطوير شخصيته. 

كلما نكبر فى العمر ندرك كم نحن – «البنى آدمين»– كائنات شديدة التعقيد من الداخل وفهم تفاصيلها من الداخل أمر ليس باليسير، وكم محظوظ ذلك الإنسان الذى يدرك هذه الحقيقة ويتعامل مع إنسانيته برفق ووعى وحكمة رغبة فى الفهم ومحاولة الارتقاء والتطور.

قرأت جملة معبرة عن ذلك للطبيب النفسى وأحد الآباء الروحيين للطب النفسى وهو إبراهام مازلو الذى قال: « لو عرف الإنسان ماذا يريد فى الحياة، فإنه بذلك يكون قد حقق إنجازاً سيكولوجياً نادر الوجود».

رغم بساطة الجملة فإنها تفتح أبواب لانهائية من الحيرة والارتباك، وهى « هو احناعايزين إيه فى حياتنا أو من حياتنا؟!».

 

 

 

يتجاهل بعضنا التوقف عند هذا السؤال أو يتسرع بنوع من الهروب من مأزق الاصطدام بصعوبة هذا السؤال فيقول البعض: « أنا مش عايز حاجة أبداً من الدنيا.. أنا راضى». وهذه من المفاهيم المغلوطة التى شكلت أفكارنا وهى أن فهمنا لما نريده من الحياة يتناقض مع قيمة الرضا!

الحقيقة أن العكس تماماً هو الأقرب إلى الصواب فالشخص الذى يدعى أنه لا يريد شيئاً من الحياة ولا يعرف غايته فى الحياة هو أقرب بالحى الميت، فهو غائب عن نفسه وغير متصل بها وعقليته تهرب من ذلك السؤال ربما لأنه غير قادر على فهم الآلة المعقدة داخله ولا يعرف كيف يديرها ويقودها.. فالأفضل لديه أن يصدر صورة « المستغنى الزاهد»، وقد يفعل البعض ذلك الهروب بدون وعى تماماً. لهذا فإن المحظوظ بنعمة الحياة هو من تشغله تلك الأسئلة ويحاول أن يجد لها إجابات ويواصل رحلة الكشف عن نسخته الحالية والتطلع إلى تحسينها بين كل حين وآخر.

تطهير المشاعر

أثناء رحلة الحياة والوعى بها وبأنفسنا لابد من تطهير مشاعرنا وتحريرها لكى نتمكن بالفعل من تحسين نسختنا. وماذا نفعل لنحرر مشاعرنا التى تسبب لنا ثقلاً نفسياً معطلاً عن أى إنجاز، ذلك الحمل النفسى المهلك للأفكار والذى يسحب من رصيد أى طاقة أو مرونة فكرية ويؤذى من مناعتنا النفسية، فكيف لنا أن نتطور وننمو ونحن مصابون بفيروسات تنهش فى أجهزة مناعتنا النفسية؟

يعنى إيه تحرير مشاعر؟

لكى نتمكن من تحرير مشاعرنا علينا أن نتعلم كيف نتقبل مشاعرنا أياً كانت هذه المشاعر، لا يمكن أن نتحرر من مشاعر إلا إذا تقبلنا فكرة لم نتدرب عليها كثيراً وهى أن نصاحب مشاعرنا، نصاحبها فى رحلة وعينا، علينا أن نصادق مشاعرنا ونصدقها، ولا نهرب منها ونعاديها أو نتعامل معها بقسوة الرفض والإنكار والتجاهل، من يريد أن يتحرر من مشاعره السلبية المحملة بها قلوبنا مثل الخوف والغضب والحزن والوجع والغيرة والحقة والغل وما أكثرها وأطولها قائمة المشاعر السلبية التى تجتاحنا. هل تصدقون أن المشاعر التى نتعامل معها كأنها وباء أو جرم نخجل من إظهاره أو التعبير عنه هو نفسه الشعور الذى قد يتحول إلى طاقة نور تسمح لنا ولحياتنا أن تنتقل نقلة نوعية وتتطور والتى بها يمكن أن نعيد اكتشاف مناطق خفية فى شخصياتنا لم تسمح لنا خبرات حياتنا السابقة أن تظهر وتنمو وترتقى.

نحن ومشاعرنا أصحاب

مصادقة المشاعر – كل المشاعر السلبية والموجعة منها قبل الإيجابى منها هو أهم تدريب.. وأهم خطوة هى احترام أوجاعنا المصاحبة للشعور. فالاحترام يسمح بالقبول والقبول يسمح بالفهم والاستماع، بل الإنصات إلى صوت القلب والمنطق معاً، لكن المواجهة والرفض تسبب عنفًا وتزيد العبء والحِمل النفسى أكثر ونصبح فى مواجهة شعور ثقيل ومرفوض فتختنق المشاعر أكثر وأكثر بدلاً من تحريرها. تذكروا فالمشاعر التى لا يتم احترامها والوجع الذى لا يتم التعبير عنه لا يضمر ولا يموت ولا يفنى، بل يدفن ويسجن فى منطقة ما داخلنا، لكنه الدفن الحى الذى يأكل من القلب وينهش فى الروح ويزيد الجرح جروحاً ونزيفاً.

الخطوة الثانية لتحرير جروحنا ومشاعرنا المؤذية هى أن نبحث بوعى عن مصدر هذا الجرح، ما الذى سببه، من الذى تسبب لى فى هذا الجرح؟ 

 

 

 

إن كل هذه الأسئلة ليست سهلة على شخص مجروح ،لذلك فمن الأفضل أن تكون هذه المرحلة برفقة شخص محب وحكيم وأمين يجيد الاستماع بفهم وتعاطف وبدون إصدار أحكام. قد يكون هذا الشخص صديقًا أو قريبًا أو متخصصًا بشرط أن تتوافر فيه هذه الخصائص وأهمها ارتياحنا وثقتنا بذلك الشخص. التعافى لا يكتمل فى العزلة

فى هذه المرحلة يفضل أن نُخرج كل ما فى قلوبنا وأن نعبر عن مشاعرنا كما هى حتى وإن كانت موجعة بدون أى تزيين أو فلترة وفى ذات الوقت بدون مبالغات تضعنا فى إطار الضحية التى تبحث عن داعمين لموقفها، فذلك لن يساعد فى تطهير المشاعر، بل يزيدها تعقيداً ويسجنها أكثر. 

تأتى بعد ذلك مرحلة « المنطق» أو بمعنى أدق مرحلة تفكيك الأفكار والتعامل مع الأسئلة مثل: ولماذا وما الذى فعلته لكى أسمح أن يتملكنى كل هذا الوجع الذى تحول إلى جرح؟ ما الذى كان ينبغى علىّ فعله لكى أحمى نفسى من هذا الجرح؟ ما  مسئوليتى تجاه ذلك الجرح الذى أصابني؟ هل أريد أن أكمل بهذا الجرح؟ هل أحتاج مزيد من الوقت لأعيش هذه المشاعر أكثر؟ ما هى الانتصارات أو الإيجابيات – حتى وإن كانت ضئيلة – التى خرجت منها من تلك الخبرة التى سببت لى هذا الجرح.

إن هذه الأسئلة لا يمكن الإجابة عنها بشكل تلقائى وسلس ولكنها تحتاج إلى وقت، وهذا التدريب لا يمكن الإجابة عن أسئلته بدون استخدام الورقة والقلم والإجابة بشكل تلقائى ثم تفكيك وتحليل ما كتبناه وقراءة ما بين السطور وفهم ما وراء الأوصاف أو السرد الذى استخدمناه.

إن مرحلة التعافى هذه لا يمكن أن تكتمل بدون أن نكون وسط محيط آمن وصحى وداعم وإيجابى قدر المستطاع، فالتعافى لا يتم فى العزلة أبداً، الفرق كبير بين «التشويش» على مرحلة التعافى بقتل الوقت كالتواجد وسط ناس فقط بغرض الإلهاء أو الخروج إلى أماكن كثيرة حيث التواجد والظهور الجسدى فحسب، وبين أن أصنع محيطاً صحياً يسمح لى بتوسيع مدخلات جديدة وإيجابية فى حياتى كوسيلة للتعافى، حتى لا تترك مساحات كبيرة للتفكير بمسببات الألم والجروح والاستسلام لمشاعر الوجع.. بالفعل يمكننا أن نمارس أنشطة وخبرات جديدة فى الحياة ونحن نضع جبيرة حول ذراع مكسور أو قدم مصاب.. فمثلاً هل يمكننا أن نتعلم لغة جديدة ونحن نشعر بوجع ناتج عن علاقة عاطفية فشلت؟ نعم يمكننا فعل ذلك. 

هل يمكننا أن نمارس اليوجا أو الرياضة ونحن وسط شعور مؤلم بالفقد. 

نعم يمكننا فعل ذلك.

توسيع مكان فى القلب

وقد فعلتها إحدى صديقاتى التى قررت أن تتعلم اللغة الإسبانية وهى فى مرحلة التعافى بعد تجربة مؤلمة من انتهاء زواجها الذى دام أكثر من 18 عاماً. وقد ساعدتها تجربة تعلم شيء جديد وسط مجتمع من الدارسين المتنوع بين الشباب والكبار على إزاحة مشاعر الوجع الساكن بداخلها. وتدريجياً أصبحت دروس اللغة الإسبانية متنفساً جديداً فى حياتها.

هل يمكننا تعلم هواية مثل العزف على آلة موسيقية جديدة لا خبرة لنا بها من قبل ونحن نتعافى من علاقة مؤذية فى حياتنا؟ بالطبع هذه من أعظم حلول التعافى، وهو استخدام الفن كوسيلة أو كأداة من الأدوات المساعدة فى عملية التعافى من أية مشاعر سلبية أو جروح نفسية. 

وهذا ما حدث بالفعل لواحدة من الرسامات الموجودات حالياً والتى لم تكن تعرف كيف تمسك فرشاة ألوان، ولكنها بعد تجربة موت زوجها وفقد جزء كبير من شعورها بالأمان والاستقرار زيادة المسئوليات عليها لتربية أولادها، كان طوق النجاة النفسى لها من الاكتئاب هو الرسم الذى تعلمته على كبر ومن ثم اكتشفت طاقتها وموهبتها وأصبحت خطوطها وألوانها هى المعبر الحقيقى عن مشاعرها التى خرجت بتدفق فأصبح الرسم والفن عالمها الجديد الذى كشف النور بداخلها وتقيم هذه الرسامة معارض فنية متميزة. 

لذلك فالتعافى لا يمكن أن يتم بشكل حقيقى وسط العزلة أو بمنع التوسيع بمرور العطايا الجديدة فى الحياة والتى لها دور حقيقى إحداث نقلة نوعية فى اتجاه - ليس التعافى فحسب- بل إعادة اكتشاف النسخة المستحقة لنا بعد الألم والجرح. 

إنها نسخة ما بعد التطهير، إنها نسخة ما بعد تحرير المشاعر السلبية. نسخة اكتشاف النور بداخلنا عند لحظة الخروج من النفق.