الأحد 28 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

يوميات رسام كاريكاتير فى المهجر .. الفنان المجهول "2"

لم أكن يومًا أديبًا ولا كاتبًا.. ولا حتى حكواتيًا.. عرفنى القراء رسامًا صحفيًا ومخرجًا فنيًا.. فعمرى كله أمضيته أرسم الكاريكاتير بين جنبات صاحبة الجلالة.. لكن مع رحلاتى المتعددة.. وهجرتى إلى الولايات المتحدة الأمريكية.. وجدتنى أكتب وأدون كل ما رأت عينى وأتذكر.. الأحداث التى تملأ رأسى المزدحم بالأفكار.. فإليكم بعضًا مما كتبت من الذكريات والأحداث.. لعل ما دونت فى يومياتى يكون زاد المسافر ودليله فى السفر. 



 

فى عام 2003 كنت قد استضفت الباحث والمؤرخ د. مارك براينت سكرتير نادى لندن للصحافة وبدوره قدم لنا دراسة كاملة عن أحد الرواد الأوائل فى فن الكاريكاتير الذين كان لهم بصمة مهمة فى عالم الكاريكاتير السياسي. وذلك من خلال ندوتين جماهيريتين واحدة بالإسكندرية والأخرى بالقاهرة. والندوتان كانتا على هامش المعرض الدولى «صباح الخير فن الكاريكاتير» الذى نظمته فى هذا الوقت. وكان جون بلانتو رسام الكاريكاتير السياسى الفرنسى الأشهر على الإطلاق هو ضيف شرف هذا المعرض. 

 

 

 

أما عن الندوتين فكانتا حول الفنان كيمون إيفان مارينجو (1904- 1988) والذى اشتهر باسم كيم. وهو من مواليد مدينة الإسكندرية. وهو ابن تاجر يونانى ركز تجارته بـ مصر الكوزموبوليتانية واستقر بها. وكانت بدايته عبر صحيفة «معليش» السياسية الأسبوعية فى الفترة ما بين 1923 و 1931. ووصل لأعلى الإصدارات على مستوى العالم ومنها جريدة le Canard Enchainé الفرنسية الساخرة، وجريدة The Daily Telegraph الإنجليزية الشهيرة، وجريدة The New York times الأمريكية - الأوسع انتشارًا على مستوى العالم. وصنف كأحد أهم رسامى الحرب العالمية الثانية. وبالرغم من ذلك فهو أحد الوجوه المنسية فى عالم الكاريكاتير وذلك بحكم عمله بصحف تصدر بلغات أجنبية حتى داخل مصر. وكذلك هجرته واستقراره بإنجلترا حتى وفاته.

لكنى اليوم أقف حائرًا أمام حالة وتجربة ثرية لأحد مثقفى مصر الذين أثروا الحياة الثقافية بعدة مؤلفات فى عدة مجالات. فأن تكتب فى مجالات مختلفة فهذا دليل قاطع على تنوع ثقافتك. وأن توثق هذه المؤلفات فى كتب فهذا أكثر تأثيرًا وفاعلية. لكن حيرتى تركزت حول إبداع هذا الشخص. فهو يرسم البورتريه بإجادة وتميز. كما أنه قدم مجموعة وفيرة من هذه النوعية من الكاريكاتير. له أسلوب وريشة متميزة. متوافق تمامًا مع شكل الكاريكاتير فى هذه المرحلة الزمنية. بل إنه أكثر تطورًا وسبق عصره من حيث التحليل والتلخيص فى الرسم. لكن لماذا لم يسمع به أحد؟ وأين ذهبت أعماله؟ أين ذهب كل هذا الزخم من المؤلفات والكتب؟ ولماذا لم تظهر إلى العلن طيلة هذه السنوات؟ أسئلة تحتاج إلى إجابات.. وتلك الإجابات تحتاج إلى بحث جاد وتقصى بإخلاص.

 

 

 

أيها السادة نحن أمام حالة متفردة تجمع ما بين الثقافة والفن والإبداع. والتعمق فى هذه الحالة للبحث أشبه بمن عصر على كنز داخل سرداب عميق. كلما تعمقت فى البحث كلما عثرت على كنوز نفيسة. فاسمحوا لى أن أستعرض معكم بعضًا من هذا الكنز. بعضًا من الأعمال القيمة للفنان مصطفى محرم بك مختار. هذا الرجل ذو الاسم الثنائى الذى يعد أحد رواد فن الكاريكاتير المنسيين. والمسكوت عنهم وعن تاريخهم والملقب بـ الفنان المجهول.

بالبحث والتقصى فى أوراق مصطفى محرم بك مختار نجد أنه من مواليد مصوَّع بإريتريا – التى كانت تخضع للسيادة والإدارة المصرية فى هذا الوقت – فى 15 ديسمبر 1883. تلقى تعليمه الأولى بالقاهرة حيث كانت العائلة تسكن بمنطقة السيدة زينب. ثم سافر إلى فرنسا حيث درس الحقوق وحصل على ليسانس العلوم الإنسانية والقانون - أو ما يعرف بليسانس الحقوق - من جامعة السوربون عام 1914.  وبعدها استهل عمله بتولى المراسم الملكية الخاصة بالملك فؤاد. ثم عمل مستشارًا فى المحاكم المختلطة. وكل ما سبق ذكره من وظائف تؤكد أن مصطفى محرم كان بعيدًا كل البعد عن الفن والإبداع من حيث المسيرة المهنية.

لكننا نجد أن مصطفى محرم صاحب مسيرة ثقافية حافلة. حيث ألف العديد من الكتب. ونقف أمام كتابين من بين كل هذه الكتب التى ألفها. فمصطفى محرم كان يهوى الفن بشكل عام. حيث إنه مارس النحت، والحفر على الخشب، والتصوير الزيتي، ورسم الكاريكاتير. ووجه طاقته الفنية وابداعه نحو البورتريه الكاريكاتوري. بالرغم من تعدد هواياته واهتماماته. ومنها رحلات الصيد، وتربية الحمام، والعزف على آلة الكمان، وكتابة الشعر.

والجدير بالاهتمام هو توثيق هذا الرجل لأعماله الفنية وطباعتها فى كتابين يحملان نفس الاسم Mes Caricatures وترجمته رسومى الكاركاريكاتورية أو كاريكاتيراتي. الاختلاف بين الكتابين هو تاريخ إصدارهما. فالأول وثق الفترة ما بين 1916 و 1926. والثانى وثق الفترة ما بين 1927 و 1936. والكتاب مطبوع طباعة الحجر (الليثوجراف). أما عن غلاف الكتاب، فهو مصمم بخط اليد بعيدًا عن كل وسائل وتقنيات التصميم والطباعة الحديثة. والكتابان بهما مقدمة شيقة يصف فيهما مصطفى محرم أعماله. 

وقد تشرفت بأن أتطلع على الكتابين. ووجدت أن أهم ما قدمه مصطفى مختار عبر إبداعه فى الرسم، هو تمكنه المتفرد فى معالجة وتقديم مجموعة كبيرة من البورتريه المتخصص الذى راعى فى بعضها المدرسة التكعيبية فى التحليل بمنتهى الأمانة وكأنه راهب فى محراب التكعيبية. ولا عجب فى ذلك فهو كان متطلعًا على هذه المدرسة عن كثب من زيارته السنوية إلى باريس معقل هذه المدرسة. والمدرسة التكعيبية هى اتجاه فنى ظهر فى فرنسا فى بدايات القرن العشرين الذى يتخذ من الأشكال الهندسية أساسًا لبناء العمل الفني. إذ قامت هذه المدرسة على الاعتقاد بنظرية التبلور التعدينية التى تعدّ الهندسة أصولاً للأجسام. انتشرت بين 1907 و1914، ولدت فى فرنسا على يد بابلو بيكاسو، جورج براك وخوان جريس.

 

 

 

وعلى النقيض فإن ما قدمه مصطفى محرم من تصوير زيتى كان بعيدًا كل البعد عن التكعيبية. بل كان أشبه بمن يقف أمام مشهد ما ليسجله على الطبيعة من مناظر طبيعية. وبالرغم من التجارب المختلفة من الأساليب الفنية، فإنه لم يكن له أسلوب فنان تلقائي. لكنه يبدو كفنان دارس ومتمرس.  

وليس بالغريب أن تكون اللغة المستخدمة فى الكتاب هى الفرنسية. فالفرنسية فى هذه الحقبة الزمنية كانت لغة الثقافة الأوسع انتشارًا. كما أنها تمثل لغة الطبقة الأرستقراطية داخل المجتمع المصري.

ولم يكن غريبًا أن يوجه مصطفى محرم فنه وإبداعه نحو رسم الشخصيات السياسية والوزراء والقضاة.

 

فمجال عمله جعله أكثر تأثرًا بمن حوله. الملاحظ أن هذه الرسوم لم تتعد كونها رسومًا كاريكاتورية بها بعض المبالغات فى التفاصيل. لكنها فى نفس الوقت تجدها رسومًا بعيدة كل البعد عن كونها رسومًا لاذعة بها بعض النقد وخربشة وشقاوة رسام الكاريكاتير فى تقديم ومعالجة أفكاره. لذلك لم يمكننا مقارنة ما قدمه كيم وما قدمه مصطفى محرم. وهذا ليس تقليلًا بقيمة ما قدمه الأخير. فى حين أن يمكننا مقارنة ما قدمه كيم ودومييه مثلًا. وذلك لوجود موضوع وحدث يشغل بال كل منهما. فالأول لمع كرسام وذاع صيته إبان الحرب العالمية الثانية والثانى سخّر ريشته للدفاع عن الحرية بعد ثورة يوليو 1830 فى فرنسا. وهاجم ظاهرة الاعتقال السياسي.

والمقارنة التى قدمتها للتو لا تقلل من شأن أو أهمية ما قدمه مصطفى محرم من أعمال كاريكاتورية على الإطلاق. إنما القصد منها هو المقارنة بين من تفرغ وانكب على عمله بالكاريكاتير وتعامل معه بمبدأ الاحتراف وحقق منه كل ما يبتغيه من شهرة وذاع صيته، ومن تعامل مع الكاريكاتير على سبيل الهواية إلى جانب عمله الأساسى فلم يحقق منه أى شهرة ولم تتعد مكاسبه سوى إرضاء النفس المتعطشة للإبداع.

ويمكننا الجزم بأن عمل مصطفى محرم كمستشار فى المحاكم المختلطة جعله يرسم على استحياء. أو ربما يرسم البورتريه الكاريكاتورى بعيدًا عن الكاريكاتير السياسي. وذلك بالرغم من مشاركته بشكل رسمى فى المعارض الفنية. ومساهماته كفنان تشكيلى يقدم لوحات تصور الطبيعة المصرية. 

حيث شارك فى معرض جمعية محبى الفنون الجميلة إلى جانب الفنانون محمود سعيد، محمد حسن، ويوسف كامل، وراغب عياد، وأحمد صبرى أعضاء بعثة الحكومة المصرية الذين درسوا الفن بأوربا فى هذا الوقت. وبالأخص ما بين إيطاليا وفرنسا. وقد قام بافتتاح هذا المعرض الملك فؤاد. 

وكان الأمير يوسف كمال - مؤسس مدرسة الفنون الجميلة - هو رئيس مجلس إدارة جمعية محبى الفنون الجميلة إلى جانب يوسف قطاوى باشا أمينًا للصندوق، ومحمد محمود خليل بك سكرتيرًا. 

إن الوصف الأمثل لتجربة مصطفى محرم أنه يمثل الفنان الموهوب الذى لم يتمكن من تقديم أعماله الكاريكاتورية عبر بوابة صاحبة الجلالة. لكنه فى نفس الوقت لم يرض بأن تخمد موهبته وتصير كما الرماد. وحافظ على توهج إبداعه ووثقه فى كتابين تبادلهما وأهداهما إلى المقربين منه. 

لكن يشاء القدر أن تتبدد مكتبة هذا الرجل عن بكرة أبيها. فبعد وفاته تم تأميم ممتلكاته. ولم تجد عائلته إلا أن تضع مكتبته ومؤلفاته وأوراقه فى عهدة أحد الناشرين على سبيل الأمانة. لكن مع وفاة الناشر هو الآخر، هاجر أبناؤه إلى الخارج وهاجرت معهم كل هذه التركة الثرية الخاصة بمصطفى محرم بك مختار. ونحن فى حقيقة الأمر قد حالفنا الحظ بأن نجد نسخة من هذين الكتابين وبهما هذا الزخم من الإبداع بعد قرابة قرن من الزمان. ورحيل مصطفى محرم عن عالمنا فى 26 أبريل عام 1954.

وفى النهاية وبعد سرد كل المعلومات المتوفرة حتى الآن عن مصطفى محرم بك مختار أؤكد أنه ما زال تاريخه يحمل الكثير من الخبايا والأسرار. وأؤكد لكم أننا أمام فنان كبير ومعلوم.. وليس مجهولًا كما كنا نظن!.