الجمعة 9 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

أضواء

ريشة: سماح الشامى
ريشة: سماح الشامى

بالرغم من مرور ساعات طوال على مغادرته عيادة الطبيبة، إلا أن كلماتها المقتضبة لا تزال تصك أذنيه وكأنها أحجار ثقيلة تضغط فى عنف وبلا شفقة على صدره، فلا يقر لنظره ملجأ. 



ترمقه زوجته من بعيد فى كمد وحسرة، تخشى الدنو منه أو مجرد التفكير فى سؤاله عما أخبرته به الطبيبة، هى تعى أنه فى دوامة عنيفة وحزنها شرس جراء تلك الزيارة. 

تحتضن ابنتها الصغيرة فى صمت عميق، تندفع على حين غرة منها دموعها ملتهبة. 

ما زال بعض من أضواء الشارع يحاول أن يتسلل خفية ليسكن فوق الوجوه التى سكنها الهم، حتى اعتادت عليه وصار رفيق أيامهم، وسامر لياليهم. 

الصرير المنبعث من الباب الخشبى المتهالك، يحاكى فى رتابته دقات بندول ساعة، وهو بين الحين والآخر يعلن عن تآكل هذا الذى طعن فى العمر وقد ألقيت أحشاؤه وحواشيه أمام النوافذ العارية، وصدأ مفاصله وانكسارها لم يعد من الإمكان إخفاؤه. 

يحاول الفرار ولو مؤقتًا من تلك الكلمات، يشله الفشل، الإخفاق طالما كان رفيقه المخلص. 

: تحتاج أولًا لسكن غير الذى أنتم فيه الآن... 

ألقتها ببساطة وكأنما تطلب منه شراء ملابس جديدة للصغيرة. 

خرج من العيادة ويكاد لا يرى موطئ لخطواته المرتعشة، أنى له بتحقيق ما طُلب منه؟

التقت عيناه بعينى الصغيرة، وهى تكاد تبدأ غفوتها القليلة، فطالع فيهما ابتسامة بلا مغزى ولكنها كانت خنجرًا تمزقه به. 

دنت منه زوجته وربتت على كتفه فى شفقة وأمامه وضعت بعض الطعام البسيط قائلة: 

لأجلها كل هذا، فأنت منذ الصباح لم تذق شيئًا وأوشكت أن تذهب للعمل.

فى حركة آلية امتدت يده للطعام والقمه؟؟؟؟؟ فيه، الذى احتاج كثيرًا من الصبر والإقناع حتى وافق على مرور القليل منه. 

: سوف أنام، أحتاج لبعض الراحة، عقب آذان العصر أيقظينى.

أحلام الوجع لا تترك الضعيف برهة واحدة، تطارده أينما ذهب وأينما حل، وربما فى منامه أكثر من يقظته. باب الورشة التى يعمل بها أصبح كأنه جلمود من الصخر، يحاول رفعه فيخفق يفصد العرق من جبهته وبعض قطرات القهر من أحداقه.

يدنو منه صاحب العمل وبسهولة يرفعه. 

ثم يحضر له مقعدًا، يجلس عليه وما زال نهر الفكر يعصف به وتلك الكلمات التى وكأنها سوط من التقريع، لا تنفك تجلده، وتطلق ضحكاتها الهازئة، وتكشف عجزه على الملأ.

حل الغروب وهو ما زال رهين مقعده وتفكيره.

كيف يغير مسكنه؟

إن تلك الشقة الدميمة القميئة، التى لا ترى نور النهار إلا من بين شقوقها وكأنها مسام ورق الشجر هى الوحيدة التى انتشلته من النوم فى خيمة مهترئة على نواصى الدروب، لم تمض شهور قليلة منذ قطنها، إيجارها زهيد وهو يكاد يتحصل على القليل من عمله، بل قد تمر أيام بدون عمل. 

هل هو الحظ العثر، أم ربما غضب الأيام عليه، بلا جريرة اقترفها أو إثم معلق بجيده، يشعر بأن كل الدروب لم تعد تسمح له بالمرور عليها، وأن كل الأبواب توشك على الإغلاق قبالته، إن لم تكن فعلًا قد أغلقت.

لا يهم، تكفيه شمسه الصغيرة التى كانت منبع الحزن الدفين الذى لا ينجلى من سمائه، إلا أنها هى الريحانة الوحيدة فى حياته وهى الخيط الذى يربطه بتلك الدنيا، ويخشى ما يخشاه أن ينقطع يومًا هذا الخيط ولا يعد لديه من زهرته عبق.

: يبدو عليك الإجهاد، اذهب أنت، واعتبره يوم عمل. 

أى راحة تلك ولا تزال غيوم القهر تطل عليه بوجهها العابث.

أفضى لزوجته ما خشي أن تسأله عنه، لزمت الوجوم ولم تتفوه بحرف واحد، وإن نطقت نظراتها التائهة بالكثير الذى خشيت البوح به، أو ما تخشاه.

فى أيام قلائل ترك هذا البدروم العفن، الذى كانوا يطلقون عليه جزافًا اسم شقة ومن القاع سكنوا فى القمة، قمة تلك العمارة الشاهقة، غرفة ضيقة وبجانبها مرحاض، قلما تصله أصلاً المياه، المهم أنها تطالع الشمس منذ شروقها إلى الغروب والهواء على هذا الارتفاع يكون على جانب كبير من النقاء، بعيدًا عن القاع الرطب الذى أصبح مرتعًا خصبًا لشتى الأمراض المستوطنة، أو حتى التى تجيء  تلقى التحية على الكادحين من أهل القاع ثم تولى أدبارها.

صبيحة كل يوم تحملها الأم برفق شديد وترقدها فوق بطانية ممزق أحد جوانبها وتجلس بجانبها تراقبها فى وله وفى حزن ثم ترفع رأسها للسماء وترسل رسالة.

: ها قد فعلنا ما طلبت أيتها الطبيبة.

نظرت إليه ثم قالت: 

العلاج مكلف والدواء باهظ الثمن.

شعر بتلك الكلمات وكأنها تنتزعه من حيث يقطن وتلقى به بين أحضان أسفلت الشارع:

أنا أكاد أملك قوت يومى، أحايين لا أملكه:

عليك إذن وعلى العلاج على نفقة الدولة، الصغيرة تحتاج لكثير من الوقت وكثير من العلاج والدواء، وكثير من الدعاء.

يحملها كما اعتاد دائمًا بحرص زائد جدًا، يخشى أن يقترب منها أحد أو شيء مهما يكن، هى درته الثمينة وبقدر قيمتها التى لا تقدر يجب الحفاظ عليها حتى من تساقط ورقة شجرة فوق هذا الوجه الوردى .

هاله ما رآه حين وضع قدمه فى هذا المكان الذى تعلوه لافتة باهتة بحروف تكاد تقرأ (الكومسيون الطبى العام)، كثير مثله وربما هناك من يحمل على عاتقه أضعاف ما يحمله هو من كمد ووجع وحزن، وخوف من الأيام المقبلة، والتى يخشى أن يندحر أسفلها.

أسفل ظلال شجرة جفت أغصانها منذ مدة ليست بعيدة وقد عقم جذعها ونضب عطاؤها استلقى ومعه الكثير من الهاربين على شاكلته من قيظ الشمس الحارق.

: ابنتك تم الكشف عليها وفحصها جديًا، وانتظر القرار.