الأحد 12 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

أزحف داخل حِذائى

ريشة: منة الصياد
ريشة: منة الصياد

عادة..



ما أظل مستيقظًا طوال الليل، إلا من هفوات نوم خاطفة، تلك التى تحاصر جفنيّا حتى تستسلم لبعض الوقت.. هكذا كانت ساعات انتظارى دائمًا يسبقها ترقب ويقظة، نعم أصبحت أكره الانتظار، ودَدتُ لو أن أقفز أمام عقارب الساعة أحرّكها فتنقضى الدقائق والساعات رقيقة دون مَلل.

لا فائدة من الانتظار، أزحت أثقال غطائى الشتوى (لحاف وكوفرتة) هكذا كانت تخشى على جسدى النحيل من صعقات الهواء، فلا تترك لها بابًا مفتوحًا أو تواربه، إلا أن تحاصر مراكز القوَى فيه من كل الجهات، أشعر بحمولة جسدى ثقيلًا، لم ينَل كفايته من الراحة بعد، بيدين مرتعشتين أفتح شبّاك غرفتى، أحاول اكتشاف منابع شروق الشمس؛ لعلها تمشى متكاسلة فى شوارع شتوية كفاتنة تخشى على قدميها من بِرَك المياه المتجمعة نتيجة هطول الأمطار أو هى تحاول عبثًا الخروج من دائرة السُّحُب الكثيفة لكنها تتعثر، ثم تحاول مرة أخرى، يا لها من لحظات أشعر خلالها بتوقف الحياة، أزحف داخل حذائى الإسفنجى الخفيف، ألتحف الكثير من أغطيتى.

كوبًا من الشاى قد يسرق بعض الوقت (دقّات الساعة، خيوط أشعة الشمس، نداءات صوت أمّى) جميعها أصبحت للتو فريق عمل واحد، يبدو أن عليَّ من الأعمال ما أنجزه سريعًا، الأفرول مُطبّق بعناية شديدة حتى لا تصيبه الكسور، الكاب أيضًا مُعَلّق فى وداعة، بينما يحتاج حذائى الكثير من الوقت، لما به من رباطات تلتف حوله بعناية، حقيبتى هى الأخرى لا بُدّ من ترتيب وضع أوراقى بها إضافة إلى بعض ما جادت به أمّى من طعام، متعجلًا أخرج بصحبة والدى الذى أصَرّ على ذلك، وكأننى طفل لم أنسَ أبدًا صحبتى له أول أيام دراستى منذ أكثر من خمسة عشر عامًا.

 الشتاء فى مدينتى يدافع عن سُلطان قسوته كلما اقتربنا من نهاية الليل، فلا أحد يحاول عبثًا التفكير فى المرور من هُنا، نعم هو طريق المستشفى، يتصدّرها من الناحية اليسرى مشرحة الموتى، ما زالت تكشّر عن أنيابها حكايات عن القتلى وجثث الغرقى، وكيف أنها تستطيع الخروج من أماكنها ليلاً وتتربص للمارة فى أى وقت، تركتُ والدى قبل نهاية الطريق خوفًا عليه من هواء الشتاء القارس، هو الآخر أفلسته السّنين نضارة وجهه واستأسدت على ما تبقى له من قوة وحيويّة، واقف أبى نزولاً على رغبتى وتحت إلحاحى الشديد، كما أننى لا أريد لحظات الوداع تداعب مشاعرى فتنهمر من عينى الدموع.

أخذتُ طريقًا آخر غير الذى يمر بالمستشفى، وقبل نهايته تذكرت فجأة الحديث عن قتيلة هنا فى آخر الشارع، نعم هى قتيلة الحب، فلا شىء فى مدينتى تعاقب عليه فتاة بالقتل غير أنها عشقت، أو أنها حملت سِفاحًا وأهدرت دماء كرامة الأسرة فى الوحل، نظرت يمينًا ويسارًا لا أحد، فقط هى خطواتى تحفر فى الأرض كأنها تمشطها، أشعر بأنفاس تلاحقنى، لا أستطيع النظر للخلف، قدماى تتخبطان قليلًا، أين جسارتى؟ يا ليت أبى لم يتركنى وحيدًا؟ تقترب الأنفاس منّى أكثر وأكثر، يبدو أنها تتعمدنى أنا، لا مفر إذن من المواجهة، أصابع خشنة حطّت على كتفى، أبى لم يرتح قلبه، فعاد سريعًا وهو يقول: (أنا لازم أوصّلك بنفسى للقَطر، زى ما وصلتك أول مرة للمدرسة).