ذاكرة روح

محمود روبى
يتأهبون الآن لتشييع جنازتى.. وما مسَّت الرصاصة ذاكرتى العنيدة حين اخترقتْ مؤخرة رأسى قرب منتصف الليل.. تسللتْ الرصاصة خلسة إلى جمجمتى، فلطَّخ الدم جدران غرفتى المطلية بلون دخان التبغ.. طوَّق القاتل المأزوم حواف جثتى بعباءته الفضفاضة. ولما عجز عن حملها؛ انتزع عباءته والتقط نظارته السوداء ثم اعتزم السير خلفى فى الصباح.
يتخشَّع الشاب المرتعد فى مشيته متربصًا بجثتى النحيفة حتى يطمئن أنها ستختفى للأبد.. وسرعان ما ينهار ثباته الزائف ويختل توازنه المزعوم عند كل همهمة تحف بأذنيه.. تتذمر ساقاه الممتلئتان كلما داهمته شحنات قلقه الفائر.. توشك أن تومض دقات قلبه كالبرق؛ فيضطر كثيرًا أن يوقف جسده البدين، فيتدحرج إلى حافة الظل ليُسكِت صخبه المكبوت دون أن يلمحه أحد.
تتسابق الأكتاف وتهبط على مقربة منى لتحملنى، والطريق طويلة وعرة.. وقد فارقتُ جسدى فى هذه القرية الملقاة عند أطراف مدينة قاصية، وذلك بعدما ساقت الريح أمى وقذفتْ بها فى هذا المكان لتضع جنينًا لم تنتظره.
ولا تزال ذاكرتى تحفظ ما اكتظت به من أحداث بعدما غافلتْ هى الرصاصة حين رشقتْ فى جمجمتى.. تقذف ما بها فى هذه اللحظة بينما جثتى تسير ببطءٍ إلى مصيرها فى جوف حفرة:
شابة قمحية مثلى تبدو هزيلة وشاحبة.. تتلوى نصف عارية فوق رقعة من حصير مهترئ.. تحاول كتم صرخاتها وسط ثلة من بطون شبه منتفخة، تتقدمهن عجوز تتصببُ عرقا وهى تنزعنى من أحشائها رغما عنى..
ينتظرن بشغف أن أصرخ:
- اقرصيه!
- اقرصيه يا خالة
تنظر إليهن العجوز شذرًا وعيناها مدفونتان بوجه اختفت تضاريسه حين كرمش جلده.. ولما استسلمتُ لرغبتهن فى بكائي؛ تحررتْ أنفاسهن العميقة ثم هرعتْ واحدة تفتش عن دجاجة تختبئ بأرجاء الدار.. ها قد فرغ الوعاء الباهت المُسمى بأمى فى غيبة من تسبب فى ملئهِ عنوة قبل أن يفر.
تعافت أمى لكنها تنازلتْ عن وجهها عشرين سنة درءًا لنظرات الشفقة أو الاحتقار.. وقد أغرورقتْ عيناها وانفجرتْ صرخاتها وهى تمسح وجهها بدمى وتسرد كيف عانت حتى أصبحتُ شابا.. ولم يفلتنى القدر كى أخبرها كم عانيت أيضاً مثلها منذ أن سقطتُّ فى يد العجوز.
تذكرتُ الآن نظرة.. لمَّا أدركتني؛ زلزلتْ جُدرانى وأذابت أمواجى المتجمدة.. لطالما خشيتُ أن أتحطم فوق مرافئ غارقة؛ وقد كنت مثل زورق أطاحت به عاصفة فى ليلة غاب عنها القمر.. وجدتُّ وطنًا لى فى عينيها؛ فرسوت فى أحداقها بسلام حتى هاتفنى مجهول ذات ليلة يتوعدنى بالموت إن لم أفارقها.. لكننى أخفيت رسالته فى ذاكرتى ولم أخبرها بما عرفتُ.
ذاك الأحمق لم يفهم أننى وددتُّ لو أدركتنى رصاصته حين كنت لم أزال فى بطن أمى.. فقد كان على تلك البائسة أن تقتلنى فى جوفها قبل أن تقذفنى فى هذه الدنيا وأشاركها هذا الشقاء الذى بددته تلك الرصاصة الرحيمة.