الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
مصر.. بين «عبورين»

مصر.. بين «عبورين»

الذكرى الخمسون لحرب أكتوبر المجيدة، ليست ككل ذكرى، هى فرصة نادرة للتأمل والتدبر ليس فقط فى أعظم انتصارات العسكرية المصرية الحديثة، أو باعتباره الانتصار العربى الوحيد فى مواجهة إسرائيل، ولكن لأن مرور 50 عامًا على هذا الحدث الكبير يمنحنا فرصة نادرة لمراجعة تأثيرات ذلك الحدث الفارق على أحوال الإقليم وما شهده على مدى نصف القرن الماضى، خاصة فى ظل تعقيدات كبيرة تجتاح المنطقة، تجعل من استعادة الحديث عن «روح أكتوبر» أمرًا شديد الارتباط بالواقع، وليس مجرد استدعاء للحظة مضيئة فى التاريخ.



 

من الظلم أن نختصر أكتوبر 1973 فى مجرد اعتباره نصرًا عسكريًا حاسمًا، لكنه كان بمثابة نقطة تحول حقيقية لمنطقة الشرق الأوسط، وإعادة رسم ملامح الإقليم، إذ لا تزال تأثيراته ممتدة، والمعادلات السياسية والاستراتيجية التى أرستها حرب «العاشر من رمضان» باقية وقادرة على المساهمة فى تحديد مستقبل المنطقة لخمسين عامًا مقبلة أو يزيد.

ربما كانت نكسة 1967 أكبر تحد استراتيجى واجهته الدولة المصرية خلال النصف الثانى من القرن العشرين، وربما خلال القرن كله، فهى المرة الأولى التى تجد فيها مصر نفسها مهددة من قبل عدوها الأول إلى هذه الدرجة الخطرة بعدما صار العدو جاثمًا على الضفة الشرقية للقناة، محتلا لجزء عزيز من الأرض المصرية.

الأخطر فى تلك المرحلة لم يكن خسارة الأرض، بل خطر فقدان الروح، فبقدر ما أججت ثورة 1952 الروح الوطنية والقومية، بقدر ما كانت الهزيمة موجعة، والألم أقسى من أن يُحتمل. لذلك لم تكن حرب أكتوبر فى جوهرها مجرد انتصار عسكرى، رغم عبقرية كل أبعاد إدارة تلك المعركة استراتيجيا وتكتيكيا، بل كان الأبعد مدى هو استعادة الروح المصرية الصلبة التى لا تقبل استسلاما فى وجه التحديات، ولا ترضخ لضغوط، فضلا عن استعادة القاهرة زمام المبادرة وصناعة مستقبل المنطقة بصور شتى.

أسقط الانتصار المصرى المدوى نظرية الأمن الإسرائيلى التى طالما استثمرت فيها الولايات المتحدة والمعسكر الغربى، وأعادت مصر تشكيل معادلة الصراع من جديد، سواء باستعادة الأرض، أو عبر اللجوء إلى التفاوض وإبرام اتفاق للسلام، وفى الحالتين رسخت مصر مكانتها كقائدة للإقليم، بصورة لا يمكن للقوى الدولية أن تتجاوزها فى أية معادلة، حربًا أو سلامًا.

أعادت حرب أكتوبر كذلك توجيه الانتباه للقيمة الاستراتيجية التى تمثلها سيناء ليس فقط كبوابة شرقية لمصر ومدخلًا له أهميته فى حماية أمنها القومى، ولكن أيضًا كمنطقة تمثل مطمعًا لدول فى الإقليم، ويمكن أن تكون جزءًا من ترتيبات تتوهم قوى دولية أنها قادرة على فرضها لقضايا تتعلق بشعوب مجاورة، على حساب الأراضى المصرية.

ورغم ذلك الإدراك الراسخ لأهمية سيناء الاستراتيجية، فإن تحرك الدولة المصرية لعقود بعد معركة التحرير، ولظروف بعضها مبرر، لم يواكب ذلك الإدراك العميق لأهمية سيناء، فتعطلت خطط التنمية، وتراجعت الوعود بإعمار سيناء وجعلها وجهة جاذبة لملايين المصريين فى سنوات معدودة، وبقيت «أرض الفيروز» خائفة تترقب تداعيات تلك الحالة التى تؤدى إلى فراغ ما، وسط مساعى عديدة من جانب قوى فى الداخل والخارج لاستغلال ذلك الفراغ.

 

الهجمة الأخطر للإرهاب 

 

فى أعقاب «زلزال» 2011، كان من بين الارتدادات العنيفة ظهور ذلك الاستهداف غير المسبوق لسيناء، وهذه المرة لم يأتِ الخطر من جيش احتلال، ولكن من عصابات الإرهاب، فى هجمة هى الأخطر فى التاريخ المعاصر، ولا وجه للمقارنة هنا بما واجهته الدولة فى سبعينيات أو تسعينيات القرن الماضى، فهجمة 2011 وما بعدها، جاءت فى لحظة اهتزاز للدولة، ووسط وجود قوى الظلام الإخوانية الداعمة والمحتضنة لعصابات الإرهاب، وقد استطاعت «الجماعة الإرهابية» أن تستغل ارتباك المشهد السياسى والأمنى فى البلاد لتصل فى غفلة من الزمن إلى السلطة!

والأخطر أن تنظيم «الإخوان» الإرهابى أقر استراتيجية تعتمد على عصابات الإرهاب باعتبارها السلاح الذى سيستخدمه التنظيم فى مواجهة مؤسسات الدولة، وأن تكون تلك العصابات الإجرامية تمثل «جيشها الخاص» فى مواجهة الجيش المصرى، فلم يكن خافيًا أن «الإخوان» يتحضرون منذ اللحظة الأولى للصدام مع الدولة المصرية، وفى القلب منها المؤسسة العسكرية.

وبدلا من أن تستغل الجماعة الإرهابية تحولات ما بعد 2011، لتقديم وجه جديد ودور مغاير لما اعتادت عليه طيلة عقودها الثمانية، سعت إلى أن تُحول الدولة المصرية إلى «تنظيم», الأمر الذى كان مستحيلا أن يتحقق، وهو ما دفع الجماعة إلى محاولة بناء أدواتها الخاصة استعدادًا للحظة المواجهة، فأعادت الكثير من القيادات الإرهابية التى ظلت لسنوات هاربة خارج البلاد، وبخاصة فى دول مثل أفغانستان، حيث اكتسبت الجماعات الإرهابية خبرات كبيرة فى ظل فشل الدولة هناك، واتساع هيمنة الجماعات المتطرفة.

كما استخدم المعزول الجاسوس «محمد مرسى» سلاح العفو عن قادة تلك التنظيمات الإرهابية وإخراجهم من السجون، وسيلة لإعادة بناء خريطة جديدة لتلك التنظيمات، تدين بالولاء للجماعة الأم «الإخوان»، وترتبط تمويليًا ومصلحيًا بمسارات الجماعة، باعتبار تلك الجماعات الإرهابية ورقة ضغط يمكن استخدامها بفاعلية ضد خصوم «حكم المرشد».

ويكفى أن نراجع الخطاب السياسى الموتور لـ«الإخوان» وقياداتها والتهديد الواضح والفاضح باستخدام الإرهاب للضغط على المصريين من أجل التراجع عن ثورتهم ضد حكم المعزول، وكيف ارتكبت تلك التنظيمات الإرهابية عشرات الهجمات المنسقة فى أيام معدودة عقب 30 يونيو و3 يوليو 2013، وكأنها رسالة واضحة عن المستقبل الذى تريده تلك الجماعات للبلاد، فى حالة استمرار حالة الرفض الشعبى لاستمرار حكم الجماعة.

 

استعادة روح أكتوبر

 

وكما كان قرار الدولة المصرية فى أكتوبر 1973 هو مواجهة التحدى والانتفاض فى مواجهة التحدى مهما كانت النتائج، اتخذت الدولة المصرية القرار ذاته، وإن كان القرار هنا أكثر صعوبة، فالعدو فى الحالة الأولى واضح ومعروف والمواجهة معه تخضع لقوانين عسكرية معروفة ومفهومة، بينما فى الحالة الثانية العدو غير واضح المعالم، يجيد التخفى والمراوغة، بل ويعيش وسط التجمعات المدنية، وهو ما يصعب من طبيعة المهمة.

اختلاف آخر بين القرارين يكمن فى طبيعة الجبهة الداخلية، ففى حرب أكتوبر لم تكن مؤسسات الدولة وأجهزتها بحاجة إلى بذل جهد لشحن الجبهة الداخلية وتوحيدها وراء قرار المواجهة مهما كانت النتائج، بل فى بعض الأحيان كانت مؤسسات الدولة هى التى تسعى إلى تهدئة الجماهير واحتواء انفعال الرأى العام.

بينما كانت الجبهة الداخلية المصرية فى أعقاب 2013 تعانى من اختراقات الجماعة الإرهابية، ومساعيها لإشعال الانقسامات فى صفوف المصريين، فضلا عن استخدام كل الأدوات والوسائل المتاحة من أجل إحداث حالة من البلبلة والتفتت فى الجبهة الداخلية، بل وشخصنة الأمور فى كثير من الأحيان، وكأن تلك الأعمال الإرهابية مجرد رد على قرار، وليس ابتزازًا لإرادة شعب.

فى ظل هذه الأجواء، كان على الدولة المصرية أن تتحرك على مختلف الأصعدة، داخليًا بأن تعيد لملمة ما تسببت فيه حملات التفكيك والاستقطاب، وأمنيًا وعسكريًا بأن تبدأ معركة لا هوادة فيها على مستوى المواجهة المعلوماتية والحرب المباشرة، واتباع تكتيكات مختلفة عن تلك المعتادة فى الجيوش النظامية.

وكما أعدت الدولة المصرية استراتيجية محكمة استعدادًا لمعركة العبور قبل 50 عامًا، استلهمت الدولة المصرية وفى القلب منها المؤسسة العسكرية تلك «الروح الأكتوبرية» الخالدة، فى وضع استراتيجية شاملة لمكافحة الإرهاب والتصدى للعمليات التى استهدفت مؤسسات الدولة وقياداتها منذ عام 2014.

عملت الدولة على تقوية الأجهزة الأمنية التى تعرضت لضغوط هائلة منذ عام 2011 وإعادت صياغة استراتيجيات المواجهة لتتناسب مع حجم التطور الإرهابى القائم، كما نفذت خططًا محكمة وضربات استباقية مكثفة على مواقع تلك التنظيمات.

وأدت تلك الجهود إلى تراجع تدريجى فى عدد العمليات الإرهابية، إذ انخفضت فى عام 2016 إلى 199 عملية، بينما لم تتجاوز 50 عملية إرهابية فى 2017، وفى هذا العام سعت الجماعات الإرهابية فى سيناء إلى محاولة تصدرها المشهد مرة أخرى على غرار الأعوام السابقة، وقامت بتنفيذ هجوم دموى على مسجد الروضة ببئر العبد، وأسفر عن استشهاد 305 من المواطنين الأبرياء وكان من بينهم أطفال، وإصابة 128 آخرين.

وانطلقت العملية الشاملة سيناء 2018، التى نجحت فى القضاء على المرتكزات الجغرافية الإرهابية، وكذلك ضبط قيادات تلك الجماعات، وتقليص موارد تمويلهم، حتى وصلنا بحمد الله وبفضل تضحيات خيرة رجال هذا الوطن، إلى انعدام ارتكاب أية عمليات إرهابية وتحقيق حالة غير مسبوقة من الاستقرار الأمنى فى السنوات الأخيرة.

 

التنمية سلاح

 

لم تترد الدولة المصرية فى اتخاذ ما يلزم من إجراءات لدعم قدرتها على حصد رؤوس الإرهاب التى حاولت الاستيطان فى «أرض الفيروز»، وانتشرت القوات المصرية فى كل ربوع سيناء، حتى تلك القطاعات التى كانت تقلص اتفاقية السلام مع إسرائيل من أعداد الجنود والعتاد فيها، وتم الأمر بمنتهى الاحترافية العسكرية والدبلوماسية فى الوقت ذاته، وباحترام مصرى كامل لاتفاقياتها الدولية، فكان الأمر بمثابة انتصار إضافى وتعزيز استثنائى لقدرات الدولة المصرية.

ونجحت أجهزة الأمن المصرية فى هدم أكثر من 4000 نفق كانت تستخدم فى نقل السلاح والدعم اللوجيستى والعناصر المدربة لتلك التنظيمات من الخارج، كما نجح فى تدمير آلاف المخازن للأسلحة والذخائر، ما أدى إلى نقص كبير فى الموارد لدى تلك الجماعات، مع تشديد الرقابة على الحدود.

وكما عبر الرئيس عبد الفتاح السيسى خلال إحدى الندوات التثقيفية للقوات المسلحة، عندما أكد أن الحرب على الإرهاب كانت حربًا شاملة وعلى مختلف المستويات، وكان من الممكن أن يكون قرار الدولة هو التوقف عن التنمية فى أى مجال والتفرغ فقط لمجابهة هذا الخطر، إلا أن الدولة المصرية اختارت القتال على أكثر من جبهة.

وفى حقيقة الأمر، فقد اتخذت الدولة المصرية من التنمية سلاحًا لمواجهة الإرهاب، بل واستطاعت رغم كل التهديدات والتحديات أن تعمل تحت ضغط غير مسبوق، سواء نتيجة الوضع الإقليمى والدولى، أو محدودية الموارد، علاوة على خطر الإرهاب واستهدافه كل ما يستطيع أن تطاله أيدى عناصره من أجل إشاعة التخريب والتدمير.

وحققت الدولة المصرية بالفعل معدلات نمو وتنمية غير مسبوقة رغم حصار كل تلك التحديات، ورغم نزيف الخسائر جراء الإرهاب التى تجاوزت وفق ما أعلنه الدكتور مصطفى مدبولى رئيس مجلس الوزراء، 477 مليار دولار، فضلا عن خسارة الاحتياطى 20.3 مليار دولار، وخسائر قطاع السياحة 32 %، وزيادة معدل البطالة إلى 13 %.

 

إعادة هندسة الإقليم

 

إن الربط بين حرب أكتوبر 1973، والحرب على الإرهاب التى انطلقت فى أعقاب ثورة 30 يونيو 2013، والتى جاءت بعد تفويض شعبى فى 26 يوليو من ذلك العام، فيما عُرف بـ«جمعة التفويض»، ليس من قبيل التنظير، بل هى الحقيقة، فقرار الدولة واحد فى الحالتين رغم اختلاف الظروف، وهو الإصرار على المواجهة، واختيار الحل الصحيح حتى ولو كان الأصعب، بعيدًا عن المساومات والمناورات التى لا تجدى نفعًا عندما يتعلق الأمر بمصير الوطن.

والمؤسسة العسكرية التى تصدت لمحاربة الإرهاب وتطهير سيناء، هى نفسها المؤسسة التى قادت معركة العبور قبل خمسين عامًا لتحرير الأرض من براثن الاحتلال الإسرائيلى، وفى المعركتين (التحرير والتطهير)، كان الخيار واحدًا: الوطن أولا وأخيرًا.

وكما قادت حرب أكتوبر قبل نصف قرن إلى تغيير معادلة السياسة فى المنطقة، عبر دفع القوى الكبرى إلى إعادة حساباتها بشأن مستقبل الشرق الأوسط، وعدم اعتباره مجرد ورقة فى الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتى، وفتحت طريقًا جديدًا بين القاهرة وواشنطن، كان انتصار مصر فى الحرب ضد الإرهاب عاملا رئيسيًا فى إعادة هندسة الإقليم مرة أخرى، بعدما فشل مخطط إعادة رسم الحدود بين الدول على أساس طائفى ومذهبى، وتفكيك الدولة الوطنية لصالح الميلشيات والفواعل دون الدول.

لذلك لا نبالغ إذا قلنا إن حرب مصر على الإرهاب هى العبور الثانى للدولة المصرية، بكل ما تحمله تلك الكلمة من أبعاد، فهى عبور عسكرى للهزيمة والتحديات القاسية، وهى عبور نحو التنمية فى مختلف ربوع الوطن وبخاصة سيناء، وهى عبور أكبر لروح الإحباط والانهزامية، وكذلك عبور لمخططات القوى الكبرى للمنطقة، وإعادة ترسيخ لمكانة مصر كقائد للإقليم.

بل يمكن أن نزيد أن العبور الثانى للدولة المصرية بعد 30 يونيو كان عبورًا أبعد مدى فيما يتعلق بإعادة بناء الدولة الوطنية العربية على أسس حديثة، بعدما أراد البعض لها أن تنهزم وتتفكك تحت ضغط أحداث 2011، وكان صمود الدولة الوطنية المصرية بداية مختلفة وإعادة شحن لهذا المشروع، واستطاعت الدولة المصرية بعدما استعادت توازنها واستقرارها أن تعيد الاعتبار لمشروع الدولة الوطنية فى المنطقة، عبر مساندة ودعم دول المنطقة على تجاوز تداعيات «عشرية الاضطراب»، والانتقال تدريجيًا إلى مرحلة الاستقرار، وقطع الطريق أمام عمليات التدخل الخارجى.

ولم يقتصر النجاح المصرى فى هذا الملف على الداخل الوطنى، بل سعت القاهرة إلى توسيع دائرة تحصين المنطقة والعالم من آفة الإرهاب، فقاد الرئيس عبد الفتاح السيسى جهدًا دبلوماسيًا بارزًا، سواء من خلال الدبلوماسية الرئاسية النشطة التى يقوم بها شخصيًا، أو من خلال تكثيف المؤسسات المصرية لحضورها فى مسارات إقليمية ودولية متعددة تحشد الجهود نحو مكافحة الإرهاب وتجفيف منابعه داخليًا وخارجيًا.

وكانت موافقة جامعة الدول العربية، فى مارس 2015 على فكرة الرئيس السيسى، بإنشاء «قوة عربية مشتركة»، نجاحًا إضافيًا للتحرك المصرى من أجل حفظ وصيانة الأمن القومى العربى ومجابهة الإرهاب، وأكد الرئيس السيسى آنذاك أن «الجيش المصرى ليست له رغبة فى غزو أو مهاجمة الدول الأخرى، ولكنه سيدافع عن مصر والمنطقة إذا اقتضت الضرورة وبالتنسيق مع أشقائنا العرب»، وكانت هذه الرسالة القوية إعلانا لا لبس فيه على استعادة الدور المصرى القوى والواثق فى المنطقة، تمامًا كما دافعت مصر قبل 50 عامًا عن شرف الأمة العربية، وأحرزت الانتصار العربى الوحيد على إسرائيل.

ومع دعوة الرئيس السيسى، لتشكيل «قوة عربية موحدة لمحاربة الإرهاب»، عاد الحديث مجددًا عن تفعيل اتفاقية «الدفاع العربى المشترك»، الموجودة منذ قرابة 70 عامًا، كما شاركت مصر فى سبتمبر 2014 بـ «التحالف الدولى ضد داعش»، الذى أعلنت الولايات المتحدة تشكيله وضم عشرات الدول، لكنها لم ترسل أى قوات للخارج.

وانضمت أيضًا إلى «التحالف الإسلامى العسكرى لمحاربة الإرهاب»، والذى أعلنت عنه السعودية فى ديسمبر 2015، ويضم الآن 41 دولة تعمل معًا لتنسيق وتكثيف جهودها فى الحرب الدولية على التطرف والإرهاب والانضمام إلى الجهود الدولية الأخرى الرامية إلى حفظ الأمن والسلم الدوليين.

وفى فبراير 2020، اقترح الرئيس السيسى، خلال مشاركته بالقمة الأفريقية، استضافة مصر لقمة أفريقية تخصص لبحث إنشاء قوة أفريقية لمكافحة الإرهاب، انطلاقًا من مسؤوليات مصر تجاه القارة وإيمانا منها بأهمية ذلك المقترح لتحقيق السلم والأمن بها.

ودعا الرئيس عبدالفتاح السيسى، فى فبراير 2021، خلال مشاركته فى أعمال الجلسة الافتتاحية للمنتدى العربى الاستخبارى، بمناسبة افتتاح مقر المنتدى بالقاهرة، إلى ضرورة وحدة الدول العربية فى مواجهة التنظيمات الإرهابية المدعومة من الخارج، وشدد على أهمية العمل الجماعى فى إطار الأخوة العربية لاستعادة الاستقرار فى دول المنطقة كافة، وأوضح أن المنطقة تشهد حالة من السيولة وتعصف بها الأزمات، وتسعى التنظيمات الإرهابية للاستقرار والتمدد فيها، مدعومة بقوى خارجية إقليمية ودولية تستهدف صناعة الفوضى من أجل السيطرة على مقدرات أوطاننا العزيزة.

واستضافت مصر لاحقًا مقر مركز دول الساحل والصحراء لمكافحة الإرهاب، والذى يلعب دورًا بارزًا فى تنسيق جهود تلك الدول فى هذه المنطقة الحيوية للتصدى للجماعات الإرهابية، فضلا عن التنسيق المعلوماتى، وتقديم كل أوجه الدعم الممكنة مثل التدريب وتبادل الخبرات بين الدول المشاركة، وهو ما يشير إلى أن التجربة المصرية فى مكافحة الإرهاب باتت نموذجًا معتبرا إقليميًا ودوليًا.

 

انتصار بعيد المدى

 

ولم يقتصر النجاح المصرى فى مكافحة الإرهاب على الشق العسكرى والأمنى، أو حتى الجوانب الاقتصادى عبر تفكيك قنوات تمويل ونقل الأموال والأسلحة للجماعات الإرهابية فحسب، بل تخطاه إلى السعى الجاد والدؤوب لتجفيف المنابع الفكرية لتلك الجماعات عبر التأكيد على أهمية تصويب الخطاب الدينى «كأحد أهم المطالب التى تحتاجها المنطقة والعالم الإسلامى على الإطلاق»، وفق ما أكده الرئيس السيسى فى أكثر من مناسبة، ومن بينها افتتاح النسخة الأولى «منتدى شباب العالم» بشرم الشيخ فى نوفمبر 2018، فقد كان الإدراك المصرى – ولا يزال – لظاهرة الإرهاب أعمق من مجرد اعتبارها تنظيمات إجرامية مسلحة، بل سعت مصر إلى اجتثاث أية جذور يمكن أن تتغذى عليها شجرة الإرهاب الخبيثة.

وكما كانت حرب أكتوبر نقطة التفاف عربية حول مصر، واستعادة القاهرة لدورها الريادى فى قيادة المنطقة، كان نجاح «العبور الثانى» بانتصار مصر على الإرهاب، وإطلاق معركة التنمية نقطة مفصلية كذلك فى استعادة مصر لقيادتها المشروع العربى فى مواجهة مشاريع التدخل الخارجية، واستعادة الالتفاف العربى حول مصر، بل وإجبار قوى إقليمية أخرى، طالما راهنت على سقوط الدولة المصرية لتجد موضع قدم لها فى ظل حالة الفراغ التى قد يوفرها التراجع المصري، على أن تعيد حساباتها وتعود لتخطب ود القاهرة، وتتراجع عن سياساتها المزعزعة لأمن المنطقة.

كانت حرب أكتوبر وستظل مصدر إلهام حقيقيًا للدولة والشعب المصرى، فبعد 50 عامًا لا تزال تلك المعركة المجيدة قادرة على تقديم العبر والدروس، وتوجيه بوصلة الشخصية الوطنية نحو خيارات صحيحة تحمى وتصور قدرة الدولة الشاملة، وتعيد الاعتبار لوحدة النسيج الوطنى، والتكاتف النادر بين الشعب وبين قواته المسلحة، والذى كان أحد أهم عوامل النصر فى العبور الأول عام 1973، كما ظل محتفظًا برسوخه وثباته، ليمثل أيضًا جسرًا للعبور الثانى بانتصار الدولة المصرية فى حربها على الإرهاب، والذى سيبقى نصرًا خالدًا يزداد فهمنا لأبعاده وثماره بمضى السنوات، مثلما لا يزال انتصار أكتوبر حاضرًا فى القلب والذاكرة المصرية، ولانزال نستذكر دروسه ونتلمس عبقه ولو بعد نصف قرن.