الجمعة 3 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
أكتوبر.. ملحمة عالمية سطّرها المصريون

الجيش المصرى يحدد استراتيجية عالمية جديدة بعد حرب 73

أكتوبر.. ملحمة عالمية سطّرها المصريون

الأحداث التى تغير مجرى العالم وسياساته واستراتيجياته ليست بالكثيرة، وإنما تكون محدودة، وذلك راجع إلى عظمة تلك الأحداث والمكان الذى وقع فيه الحدث والبشر الذين رسموا مجريات الأمور والأحداث،  وكانت حرب أكتوبر المجيدة من الأحداث العظيمة التى غيرت الفكر الاستراتيجى العالمى، وذلك نظرًا لعبقرية التخطيط والخداع والتنفيذ والصمود والتحدى فى تلك السنوات الفارقة فى عمر الدولة المصرية. 



 فسوف يظل نصر أكتوبر الذى حققته القوات المسلحة المصرية فى عام 1973 علامة فارقة، ليس فى تاريخ مصر الحديثة وحدها، ولكن فى منطقة الشرق الأوسط، والعالم العربي، بل والعالم أيضًا، نظرًا لما احتواه من دروس استراتيجية غيرت الكثير من المفاهيم العسكرية على مستوى العالم.

 فنصر أكتوبر أعاد رسم خريطة القوى فى العالم، فلم تكن حرب أكتوبر مجرد حرب للعبور وتحرير الأرض لكنها كانت نقطة تحول كبرى فى تاريخ أمة، لقد علا الصوت العربى وأفاق العالم أجمع على قوة المصريين والعرب وأحست أوروبا والولايات المتحدة بالقلق من ذلك السلاح الخطير الذى استخدمه العرب ضدهم، وهو سلاح البترول الذى سار متوازيًا مع انتصار أكتوبر، وأدرك الجميع أن العرب حينما يتحدون يستطيعون مواجهة أية قوة ظالمة.

  وبالرغم من التحديات الاقتصادية والمعاناة التى عاشها المصريون فى تلك الفترة، فإن قواتهم المسلحة كانت تعد، وتستعد لحرب الكرامة واستعادة العزة الوطنية، من خلال استعادة السيادة على الأراضى المصرية التى احتلتها إسرائيل فى عدوان 5 يونيو عام 1967، واستعادة ثقة المصريين بأنفسهم، وأنهم أمة ذات حضارة وتاريخ عريق، ولن يفرطوا أبدًا فى شبر من أرضهم لمغتصب أو معتد، فقد كانت على مر التاريخ « مقبرة للغزاة». 

لقد كان لحرب أكتوبر والنصر العظيم الذى حققه الجيش المصرى عام 1973 دور كبير فى تغيير الفكر العسكرى الاستراتيجى على مستوى العالم بحيث أصبحت حرب أكتوبر تدرس فى المعاهد والأكاديميات العسكرية العالمية على أنها أحدثت تغييرًا جذريًا فى الفكر العسكرى العالمى فى كثير من المجالات خاصة التى تأثرت تأثرًا مباشرًا بالحرب أو نتائجها وأهم هذه الاستراتيجيات المتأثرة هى :

أ- تعديل الفكر الاستراتيجى لإعداد مسارح العمليات وطرق ووسائل الدعم, حيث جاءت فكرة التعاون الاستراتيجى مع الحلفاء بإنشاء مخازن الطوارئ على تلك المسارح المنتظر حدوث عمليات فيها والدرس المستفاد هنا هو تعويض ضعف الإمداد والدعم اللازم من الجانب الأمريكى للخسائر الكبيرة فى الجانب الإسرائيلى وزيادة حجم المطالب عن قدرة الإمداد والدعم الذي تم دفعه من قواعد حلف الناتو فى أوروبا جوًا ولجميع المعدات حتى الثقيلة مثل الدبابات.

ب - تغير الفكر الاستراتيجى الغربى لتحقيق تأمين الإمدادات بالبترول وتخزين احتياطيات استراتيجية تكفى لمدد كبيرة زمنيًا.

جـ - إن معارك الأسلحة المشتركة الحديثة أصبحت هى السائدة, التى تشترك فيها جميع عناصر القوات المسلحة بأفرعها الرئيسية (حرب الخليج الأولى والثانية).

د - الفكر الاستراتيجى المتبع فى خطط الخداع الاستراتيجى وربطه بالمستوى التعبوى. وهذا ما أشار إليه المفكر الكبير الراحل جمال حمدان فى كتابه «حرب أكتوبر والاستراتيجية العالمية» الذى أشار فيه إلى أن توقيت اختيار ساعة الصفر فى شهر أكتوبر باعتباره من أنسب الشهور لتزامنه مع فصل الخريف، وتكمن الخدعة أيضًا فى تحديد توقيت الضربة الأولى التى جاءت بالقرب من وقت حلول الظلام، بحيث إذا فاق العدو يصبح من الصعب عليه القيام بأى أعمال هجومية قبل الصباح، وجميعها خطط خداع تفسر ما كتبه وزير الخارجية الأمريكى الأسبق «كيسنجر» عندما كتب فى مذكراته «سنوات مضطربة»، فصلًا بعنوان «لماذا أخذنا على حين غرة»، وهو اعتراف صريح وواضح بمدى قوة تلك الخطط الاستراتيجية فى خداع إسرائيل وأمريكا نفسها.

لقد أثبتت الحرب للعالم أجمع قدرة المصريين على إنجاز عمل عسكرى جسور، يستند إلى شجاعة القرار، ودقة الإعداد والتخطيط، وبسالة الأداء والتنفيذ، ما أكد للجميع أن التفوق العسكرى ليس حكرًا على طرف دون طرف، كما ضرب الشعب المصرى أروع صور البطولة ووقف إلى جوار قواته المسلحة، ووضع مطلب تحرير الأرض فوق كل المطالب والأولويات. 

وحققت حرب أكتوبر ما لم يكن الكثيرون من العرب يتخيلون أنها ستحققه، بالقضاء على الأسطورة والنظرية القائلة بأن «الجيش الإسرائيلى قوة لا تقهر»، لذلك شكلت حرب أكتوبر التى أتت بعد ست سنوات من نكسة يونيو تحولاً استراتيجيًا مهمًا فى إدارة دفّة الصراع وفى قدرة العرب على التحول إلى موقع المواجهة، وعلى قلب الأدوار من موقع المتلقى الدائم لضربات واعتداءات إسرائيل المتكررة، إلى أصحاب المبادرة فى الضرب وإعلان الحرب على هذا الكيان الصهيونى.

كما أكدت حرب أكتوبر استحالة سياسة فرض الأمر الواقع،  واستحالة إجبار شعوب المنطقة على قبول الاحتلال.. كما أثبتت أيضًا أن الأمن الحقيقى لا يضمنه التوسع الجغرافى على حساب الآخرين, ولذلك تنبه العالم لضرورة إيجاد حل للصراع العربى الإسرائيلى،  وكان من أبرز نتائج تلك الحرب رفع شعار المفاوضات وليس السلاح. 

إن ما يشهده الشرق الأوسط والدول العربية فى الوقت الراهن من تطورات وتغيرات على الصعيد السياسى  والاقتصادى  والاجتماعى, إنما هو نتيجة حتمية لما أفرزته حرب أكتوبر من تحديات أمام القوى الغربية، فحالة الاعتماد المتبادل والتكامل العربى إبان تلك الحرب أظهرت خطورة الاتحاد العربى أمام القوى الاستعمارية الغربية، لذلك كانت المساعى من جانب تلك القوى الغربية بين الحين والآخر لكسر حالة الاعتماد العربى المتبادل وإدخال المنطقة فى حالة من الفوضى الأمنية والسياسية وتفكيك الدول وتدمير الجيوش العربية واحدًا تلو الآخر . 

التضامن العربى الذى ظهر بوضوح فى حرب أكتوبر دليل  قاطع على بداية شعور العرب ولأول مرّة فى تاريخهم المعاصر بالخطر على أمنهم القومى والاستراتيجى, ولذلك توج هذا التضامن بنصر عسكرى كبير فخر به الجميع. وعند الحديث عن التضامن العربى إبان حرب أكتوبر فإن أروع وأحسن من رصده كان رئيس أركان حرب القوات المسلحة الأسبق الفريق سعد الشاذلى فى مذكراته التى رصد فيها حجم الدعم العربى العسكرى لمصر خلال الحرب.

يروى رئيس الأركان الفريق سعد الشاذلى فى مذكراته أنه حينما اندلعت الحرب فى 6 أكتوبر 1973 أرسل الرئيس الجزائرى هوارى بومدين إلى الجبهة المصرية سرب طائرات سوخوى - 7 وسرب ميج - 17 وسرب ميج - 21 وصلت فى أيام 9 و10 و11 أكتوبر بينما وصل إلى مصر لواء جزائرى مدرع فى 17 أكتوبر 1973، وأنه خلال زيارة بومدين إلى موسكو بالاتحاد السوفيتى فى نوفمبر 1973 قدم مبلغ 200 مليون دولار للسوفييت لحساب مصر وسوريا بمعدل 100 مليون لكل بلد ثمنًا لأى قطع ذخيرة أو سلاح يحتاج إليه البلدان.

ووفقًا للشاذلى، فإن بومدين هدد حينها القيادة السوفيتية قائلًا: «إن رفضتم بيعنا السلاح فسأعود إلى بلدى وسأوجه خطابًا للرأى العام العربى أقول فيه إن السوفييت يرفضون الوقوف إلى جانب الحق العربى وإنهم رفضوا بيعنا السلاح فى وقت تخوض فيه الجيوش العربية حربها المصيرية ضد العدوان الإسرائيلى المدعوم من طرف الإمبريالية الأمريكية»،  ولم يغادر بومدين موسكو حتى تأكد من أن الشحنات الأولى من الدبابات قد توجهت فعلاً إلى مصر.

وأكد الشاذلى أن الجزائر تعتبر ثانى دولة من حيث الدعم خلال حرب 1973 وكانت إسهاماتها كالتالى: 96 دبابة، 32 آلية مجنزرة , 12 مدفع ميدان ، 16 مدفعًا مضادًا للطيران الجوى،  سرب من طائرات ميج 21, سربان من طائرات ميج 17،  سرب من طائرات سوخوي، وبلغ مجموع الطائرات حوالى 50 طائرة، أما التعداد البشرى فقد بلغ 2115 جنديًا و812 ضابط صف و192 ضابط عتاد.

ليبيا كذلك كانت فى مقدمة الدول دعمًا لمصر فى حربها المجيدة ، حيث قدمت للجيش دعمًا عسكريًا ضخمًا تمثل فى 300 دبابة، وسربين من الطائرات ضما 70 طائرة ميج و54 طائرة ميراج ، فضلًا عن شحنات ضخمة من الأسلحة المختلفة بين المجنزرات والمدافع والصواريخ والذخيرة.

السودان بدوره أرسل للجبهة المصرية لواء مشاة إضافة إلى عدد من المتطوعين السودانيين الذين عبر عدد منهم القناة مع القوات المصرية، وحاربت القوات السودانية رسمياً إلى جانب القوات المصرية كقوة مشتركة بجانب عدد من المتطوعين الذين قاتلوا فى الجبهة السورية، وتنقلت القوات السودانية بين خطوط الحرب حسب الأوامر التى تصدر من القيادات العليا والتى تدير المعركة، وقد أسهمت القوات السودانية بشكل كبير فى حماية ثغرات مهمة، كما كانت هناك من قبل قوات سودانية تنتشر على خط القناة فى حالة استعداد تام وشاركت فى حرب الاستنزاف والحفاظ على ضفة القناة والروح العالية للجيش العربى.

حين قام الفريق الشاذلى بزيارة المغرب لنفس الغرض الذى زار من أجله الجزائر، سارع الملك المغربى الحسن الثانى بالقول: «الجيش المغربى رهن إشارتكم»، وقدم للجيشين فى مصر وسوريا لواء مدرعًا (وهو اللواء الوحيد المدرع الذى امتلكه المغرب فى ذلك الوقت) على الجبهة السورية ووصل قبل بداية الحرب بأسابيع قليلة.

 كما شاركت بلواء مشاة على الجبهة المصرية ووصل إلى مصر بعد بداية الحرب ، وكان من المقرر إرسال سرب إف 5 قبل بداية الحرب ولكنه وصل إلى مصر بعد وقف إطلاق النار.

وقد لعبت الكتيبة المغربية دورًا بطوليًا على الجبهة السورية حالت دون إحداث الجيش الإسرائيلى ثغرة فى القنيطرة، وسميت إحدى ساحات دمشق باسمها تخليدًا (ساحة التجريدة المغربية).

أما تونس، فقد شارك جيشها فى الحرب بكتيبة مشاة قوامها 1200 جندى على الجبهة المصرية وقد انقسمت هذه الكتيبة إلى قسم استقر فى منطقة الدلتا النيل وبورسعيد للتأمين، وقسم انتقل مباشرة إلى الجبهة إذ إن وصول القوات التونسية كان بعد بدء الحرب بأيام، كما كانت القوات التونسية هى القوة العربية الوحيدة التى قامت بعملية إنزال بحرى بسيناء.

لقد اعتمدت مصر على ذاتها والدعم العربى، ووضعت استراتيجيتها لتنفيذ مقولة (ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة)، فانتهجت حرب الاستنزاف منهجًا وطريقًا لإعادة بناء القوات المسلحة تنظيميًا، وتدريبيًا، ومعنويًا، وبناء الدفاعات غرب القناة، مع استمرار القتال. كما استخدمت الدبلوماسية (المجال السياسى) لإثبات أنها تسعى إلى الانسحاب الإسرائيلى وتحقيق أهداف الشعب الفلسطينى، وإقناع العالم بصفة عامة، والاتحاد السوفيتى بصفة خاصة وقتها، بأننا لا نريد الحرب من أجل الحرب، مع المحافظة على صلابة الجبهة الداخلية، والتضامن العربى، وذلك لتهيئة المسرح السياسى الدولى والإقليمى لاسترداد الحقوق المشروعة.

لقد جرى الإعداد للحرب فى عدة اتجاهات فى وقت واحد، وتحت ضغط أعمال العدو اليومية، فتمت إعادة تنظيم القوات المسلحة، وتجميع القوات المتيسرة فى منطقة القناة، وعلى ضفتها الغربية. كما تم تجهيز مسرح العمليات بما هو متاح من تجهيزات هندسية للمعدات، والأسلحة، والأفراد. وهذان البندان تم تنفيذهما بأسرع ما يمكن وفى الأولوية الأولى لتمكين القوات من العمل ضد - أو الرد على - أعمال العدو العدائية وتمت دراسة كل المشكلات والمصاعب التى ستواجه أى خطة لتحرير الأرض. 

لقد حقق الجيش المصرى معجزة يوم السادس من اكتوبر عام 1973 وسوف يظل الجيش المصرى الرقم الصعب فى المعادلة الإقليمية والدولية، فهو الجيش العربى الوحيد الذى استطاع أن يحافظ على تفوقه وتميزه ومكانته العالمية من بين ترتيب الجيوش على مستوى العالم، فى وقت تداعت وتفككت فيه أغلب جيوش المنطقة العربية كالجيش العراقى والسورى واليمنى والليبى،  لقد كان لإنجاز الجيش المصرى لنصر أكتوبر أثر كبير فى نفوس المصريين، فثقة المصرى فى جيشه ليس لها حدود، وإدراكه ويقينه بأنه المنقذ والمخلص للشعب المصرى عندما تكثر عليه الأزمات وتحيط من حوله التحديات والمخاطر . لذلك ليس غريبًا أن يلتف الشعب المصرى حول جيشه العظيم ويهتف به إبان ثورة 25 يناير 2011 وثورة 30يونيو 2013، وكان الجيش على قدر الحدث والمسئولية، فالتف الجيش حول الشعب لحمايته ودعمه ونصرته وتحقيق مطالبه المشروعة، كذلك لم يخذل الجيش المصرى الشعب عندما نزل المصريون فى 26 يوليو 2013 لتفويض القائد العام للجيش المصرى آنذاك المشير عبدالفتاح السيسى بمحاربة الإرهاب والجماعات المتطرفة، فكان أن لبّى الجيش النداء وقدّم تضحيات كبيرة من أجل أمن واستقرار الوطن ومواطنيه، ولا يزال حتى اليوم يقدم تضحيات من خلال العملية الشاملة سيناء 2018 وحتى الآن . 

وسط كل تلك التقلبات والأحداث التى عصفت بالمنطقة العربية بقى الجيش المصرى العظيم يتابع ويراقب تلك المؤامرات التى تنفذ فى المنطقة لتدميرها، ولكنه وقف متماسكًا فقد حقق العبور فى أكتوبر عام 1973، وحقق النصر للدولة المصرية، وكما هو الحال الآن يعبر الجيش المصرى بالوطن إلى بر الأمان بعد محاولات ومؤامرات داخلية وخارجية، لتدميره وتقسيمه، من جانب قوى الشر الرامية إلى استهداف الدولة المصرية ومؤسساتها العسكرية ولتظل القوات المسلحة المصرية هى الدرع الواقية للوطن وقاطرة التنمية فى مصر .