الخميس 9 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

عندما امتنعوا عن نشر تحقيقات أجرانات.. وهددوا رئيس اللجنة

أسرار تقرير جرَّد قادة إسرائيل من ملابسهم

 

فى الذكرى الخمسين لحرب 1973، أفرجت إسرائيل عن مزيد من تفاصيل تقرير لجنة أجرانات الذى كان قد سبق أن منعوا نشره سنوات، حيث شكلت اللجنة لبحث أسباب الهزيمة المروعة التى حطمت أسطورة «الجيش الذى لا يقهر». 



 

وتشكلت لجنة أجرانات للتحقيق فى هزيمة إسرائيل فى أكتوبر 73 حيث تهاوى الجيش الإسرائيلى فى ساعات، حيث فوجئت إسرائيل بعبور الجيش المصرى قناة السويس، وأقام رؤوس كبارى.. وتمركزت القوات بكامل أسلحتها فى الضفة الشرقية، وحطمت خط بارليف.  واختصت «لجنة أجرانات» بالتحقيق فى القصور الذى تصرف به الجيش الإسرائيلى خلال حرب أكتوبر، وترأسها رئيس قضاة المحكمة العليا شمعون أجرانات. 

عقدت اللجنة أكثر من 140 جلسة، لتستمع لما يقرب من 58 شاهدًا، ولتقرأ نحو 188 شهادة خطية.

وفى 30 يناير 1975 أصدرت اللجنة تقريرًا من 1500 صفحة تم اعتبار 1458 صفحة منه سرية، وتم نشر 42 صفحة عبارة عن المقدمة فقط، وظلت باقى صفحات التقرير محظورة، وسط جدل كبير فى إسرائيل بين العسكريين، وبين الرأى العام إلى أن تم الإفراج عن وثائقها.. مؤخرًا. 

 وانتقد تقرير أجرانات الجيش الإسرائيلى بشدة وأوصى بعزل عدد من القادة، وآثار جدلا وصخبا وسخطا استمر سنوات داخل إسرائيل.. واستمر ذلك الصدى حتى اليوم. 

وخلصت اللجنة فى تقارير وسيطة قبل إصدار تقريرها النهائى إلى أن أسباب الفشل الإسرائيلى فى توقع الهجوم المصرى، كان الاعتقاد الوهمى لدى العسكريين والحكومة فى إسرائيل عام 73 بأن مصر لن تهاجم دون أن تكون متفوقة من ناحية القوات الجوية.. كما ساد اعتقاد آخر بافتقار الجبهة السورية للحافز للقتال مع المصريين, وكذا الاعتقاد بأن مناورات الجيش المصرى وقتها على الضفة الغربية للقناة قبل العبور، بأنها لا تعتبر استعدادًا للحرب، وهو ما يبين كيف أدت خطة الخداع الاستراتيجيى المصرى، الذى عمدت إليه القيادة المصرية، إلى تغييب إسرائيل عن ميعاد الهجوم.. وإمكانيته. 

وأوصت أجرانات بإقالة إلياهو زعيرا مدير المخابرات العسكرية «أمان»، وكذلك رئيس الأركان ديفيد بن إليعازر، وقائد الجبهة الجنوبية شلومو جونين، وعدد كبير من ضباط الاستخبارات «الموساد». 

 

 

وحمل تقرير أجرانات إدانات هائلة للفشل الاستخبارى الإسرائيلى الذى أدى إلى عبور الجيش المصرى وتحطيم الساتر الترابى وبعده خط بارليف، رغم ما أحيك حول هذا السد من قدرات فائقة، تجعله الخط الأقوى من خط ماجينو خلال الحرب العالمية الثانية. 

وناقشت لجنة أجرانات فى الأساس أسباب القصور الذى جعل إسرائيل لا تتوقع تنفيذ الجيش المصرى هجوما ضدها، وأرجعت اللجنة فى الأساس إلى أن السبب كان الاعتقاد الإسرائيلى غير الحقيقى بأنه فى أعقاب هزيمة مصر قبل ست سنوات فى حرب 67، فإن القاهرة لن تهاجم إلا إذا اكتسبت أولا القدرة على شل سلاح الجو الإسرائيلى، وهو ما لن يستطيع المصريون تحقيقه كما اعتقد قادة إسرائيل. 

وحسب الوثائق المفرج عنها وقبل يوم واحد من بدء الحرب، قال رئيس المخابرات العسكرية إيلى زعيرا لرئيسة الوزراء الإسرائيلية جولدا مائير إن التقييم السائد هو أن «جاهزية إسرائيل تنبع بشكل أساسى من خوف المصريين منا.. لذلك أعتقد أنهم ليسوا على وشك الهجوم». وفى تقييم آخر بعد ساعات، كرر زعيرا ورئيس أركان الجيش الإسرائيلى دافيد إليعازر موقفهما القائل بأن سوريا ومصر تخططان على الأرجح لمجرد نشر قوات دفاعية لكنهم لن يستطيعوا الهجوم. 

وفى صباح يوم الحرب فى الساعة 7:30 صباحا – قبل 5 أو 6 ساعات من بدء الهجوم المصرى، أوضح تقرير لجنة أجرانات أن المناقشة داخل الحكومة الإسرائيلية تركزت على ما إذا كان ينبغى شن ضربة استباقية.. كما فعلت إسرائيل فى حرب عام 1967 قبل أن تتمكن الجيوش العربية من تنفيذ أى خطة للهجوم، رغم احتمالها الضعيف، لكن وزير الدفاع موشيه ديان قال: «لا يمكننا أن نسمح لأنفسنا بتوجيه ضربة استباقية هذه المرة.. من منظور دبلوماسى فى الوضع الحالى».

 

 

ويقول التقرير إن مائير وافقت ديان الرأى.. وقالت إن «ضربة استباقية هى أمر مغرٍ للغاية.. ولكن نحن لسنا فى عام 1968.. وهذه المرة.. العالم يكشف عن وجهه القبيح. لن يصدقونا».

 

 

 

صباح يوم الحرب كما تقول الوثائق المفرج عنها، طلبت جولدا مائير من السفير الأمريكى فى تل أبيب خلال لقائهما نقل رسالة إلى مصر مفادها «أن الإسرائيليين ليس لديهم أدنى شك فى أنهم سوف ينتصرون إذا هاجمهم المصريون». 

وبعد يوم من وقوع الهجوم اعترف ديان لمائير وألون بأن تقييماته كانت خاطئة. وقال: «كان لدينا تقييم يستند إلى الحرب السابقة فى 67.. وكان غير صحيح.. لقد كان لدينا ولآخرين تقييمات خاطئة حول ما سيحدث أثناء محاولة عبور المصريين لقناة السويس». 

بعد أيام فقط من بدء الحرب، وعبور القوات المصرية للضفة الشرقية للقناة، قامت الولايات المتحدة بتوفير الأسلحة لإسرائيل.. وقالت مائير رئيسة الحكومة فى أحد الاجتماعات: «هناك قرار من حيث المبدأ لـلرئيس الأمريكى نيكسون بشأن الطائرات الحربية الفانتوم. الآن هناك فقط مسألة تنفيذ الأمر.. ويبحث كيسنجر عن طريقة لنقلها جوا إلينا».

والوثائق المفرج عنها فى إسرائيل توثق الأحداث وتداعيات الحرب فى الداخل الإسرائيلى فى جميع المجالات: السياسية والعسكرية والدولية والعامة والمدنية، وشملت هذه المواد «مداولات الحكومة، والمشاورات العسكرية السياسية، وجلسات لجان الكنيست، ومراسلات وزارة الخارجية.. وتقييمات الوضع فيما يتعلق بسير الحرب والدفاع المدنى وتنظيم الجبهة الداخلية خلالها». 

 

 

وشملت الوثائق المفرج عنها لمحات مختلفة من تقرير اجرانات، واتهاماته للقادة الإسرائيليين بالفشل، إضافة إلى جانب من مناقشات اللجنة لعملية صنع القرار من قبل القادة فى ظل القتال على مختلف الجبهات بعد عبور الجيش المصرى القناة، إضافة إلى الاتصالات السياسية التى جرت بوساطة الولايات المتحدة فى نهاية الحرب وبعدها مع مصر وسوريا.

 

حكاية البداية 

 

بعد حرب أكتوبر 1973 قامت إسرائيل بتشكيل لجنة أجرانات لتقصى الحقائق عن كيفية الفشل الإسرائيلى فى صد هجوم الجيش المصرى، وعبور القوات المصرية قناة السويس، إضافة إلى التحقيق فى كيفية وقوع إسرائيل فى فخ الخداع الاستراتيجى الذى نصبته لها القيادة المصرية، وتحديد المسئوليات فى إسرائيل عن هذه الهزيمة. 

 

 

 

وتشكلت اللجنة برئاسة رئيس العدل الإسرائيلى شيمون أجرانات، وقد أصدرت وقتها تقريرها فى 1500 صفحة، لم ينشر منها سوى عدد من الصحفات، فيما منعت الحكومة نشر الباقى، واعترض قادة عسكريون فى إسرائيل على نتائج اللجنة، كما اعترض بعض الوزراء فى الحكومة، وقال شيمون أجرانات نفسه إنه تلقى تهديدات شخصية من بعضهم. 

وفى يناير عام 2005 وافق الكنيست (البرلمان الإسرائيلى) على قانون يمنع نشر ذلك التقرير رغم مرور 30 عامًا على صدوره كما نشرت جيروزاليم بوست وقتها. 

 وظل نشر تقرير أجرانات مطلبًا أساسيًا لدى بعض التيارات داخل إسرائيل.. إلى أن أفرجت عنه السلطات مؤخرا، ونشره موقع الأرشيف الرسمى لإسرائيل. 

وكانت مكانة شيمون أجرانات فى الأوساط القانونية الإسرائيلية تعادل مكانة ديفيد بن جورين للسياسة الإسرائيلية، والذى حدث أن تشكيل اللجنة للتحقيق فى أسباب الانهيار خلال حرب يوم كيبور، قذف بإسرائيل كلها داخل أخطر أزمات، لذلك أصبح أجرانات نفسه.. هدفا لأقسى أنواع النقد والهجوم خصوصا من قادة الجيش الإسرائيلى. 

أصبح تقرير أجرانات موضوعا رئيسيا فى كل مكان، على الصفحات الأمامية للجرائد، فى الإذاعة والتليفزيون وعلى لسان كل سائق تاكسى وصاحب متجر فى كل أنحاء إسرائيل، كما أصبح لكل إسرائيلى رأى واضح فى نتائج التقارير.

 

 

لكن بعد بيان أسباب العجز والهزيمة، ولوم القادة العسكريين والتوصيات بعزلهم، تحول شيمون أجرانات فجأة من رجل ذي مركز وظيفى مرموق ومنعزل نسبيا كرئيس للعدل إلى متهم بالعمالة والمشاركة فى حل الحكومة والتحيز والموالاة للبعض من القادة ضد البعض الآخر. 

وبعد ما أحدثه تقرير أجرانات من أزمات داخل إسرائيل، أصبح أجرانات نفسه حزينا إلى أن مات.. كما قالت الصحف العبرية. 

وحسب تقرير اللجنة، فإنه مع حلول الساعة الثانية ظهرا، انطلقت صافرات الإنذار كأكثر حدث زلزل إسرائيل فى تاريخها منذ حرب 48، وفوجئ الجميع بهجوم مفاجئ لكل من مصر وسوريا مخطط ومنفذ بشكل جيد. 

 

 

وواجهت إسرائيل أول هزيمة، تلاشى معها – كما قالت اللجنة - الشعور بأنها دولة لا تقهر وأنها القوة الإقليمية بالمنطقة، وذهبت نشوة نصر حرب 1967 مجددة مخاوف هولوكوست آخر.

وحسب بعض المفرج عنه من وثائق، فإنه بعد يومين من يوم كيبور، ضللت الحكومة الإسرائيلية نفسها وشعبها بتوقع أن معجزة حرب 1967 ستعيد نفسها، وأن العرب سيدفعون ثمن وقاحتهم.. لكن فى ليلة الثامن من أكتوبر كان هناك بعض الحقيقة التى تكشفت بحرص.. وهو أن الجيش الإسرائيلى يعانى خسائر ضخمة وغير مسبوقة وغير متوقعة.. على كلتا الجبهتين مصر وسوريا». 

 

 

قال تقرير أجرانات: «بعد حرب الأيام الستة (67) بدت الصهيونية كاملة، الدولة اليهودية دمجت النصر بالقوة. ما يشاع عن مطالب ورغباتهم بالكاد ما تهم. إسرائيل ستحتفظ بالأراضى التى غزتها حتى يتقبل العرب الشروط الإسرائيلية للسلام. موشى ديان وزير الدفاع الإسرائيلى ذو الشخصية الكاريزمية والواسع الإعجاب كان قد صاغ عبارة (مدينة شرم الشيخ بدون سلام أفضل من سلام بدون شرم الشيخ). الصهيونية تحولت إلى عقيدة من الفخر والقوة والغطرسة». 

لكن فيما استمرت الحرب يكمل تقرير أجرانات: «يتضح أكثر فأكثر أن هناك حسابات فنية وعسكرية خاطئة وفظيعة.. وبينما بدأ وقف إطلاق النار، فإن الرأى العام فى إسرائيل كان يتشيط غضبا. وكلما عرف الشعب حقيقة ما يجرى على الجبهة كلما زاد الغضب والسخط. تزايد الغضب لتحديد المسئولية. من المسئول عن فشل إسرائيل فى توقع الهجوم وما هو الثمن المفروض أن يدفع بعد تلك الهزيمة»؟ 

 

 

وتقول الوثائق المفرج عنها: «حكومة جولدا مائير مازالت قابعة.. مائير رئيسة الوزراء الإسرائيلية كانت معروفة ببطلة الوضع الراهن. وفى مشهد محرج رفض كل من ديان ومائير تحمل مسئولية عدم استعداد إسرائيل. مهما كانت الأسباب فإن مجلس الوزراء كان واضحًا أنه لن يحمل نفسه المسئولية.. فقط وزير العدل يعقوب اس. شابير وقدم استقالته بعد فشله فى إقناع ديان بتحمل المسئولية والاستقالة. هذه الأحداث عجلت بتشكيل لجنة التحقيق.. القانون الإسرائيلى يتيح لمجلس الوزراء تعيين لجنة تملك القوة القانونية لتنفيذ التحقيقات.. وقتها قررت جولدا مائير، بعد كثير من التردد أن تسير فى ذلك الطريق».

 

 

 

وتقول الوثائق: «فى 18 نوفمبر 1973 أنهى النائب العام الاستشارات الخاصة بتشكيل اللجنة. بالمصادفة، هو نفس اليوم الذى أصيب فيه ديفيد بن جورين بنزيف حاد بالدماغ. هكذا كانت حرب يوم كيبور سببا فى نهاية عصر وخاتمة لفصل فى التاريخ الصهيونى».

 

اختيار الأعضاء

كان على أجرانات اختيار أعضاء لجنة تقصى الحقائق طبقا لقرار مجلس الوزراء، لم يتهرب أجرانات من المسئولية كما فعل مجلس الوزراء، فقد كان يستطيع تعيين أى رئيس للجنة غيره، وأن يتجنب المشاكل، ولخطورة الموقف قرر أجرانات تحمل المسئولية وأن يكون هو رئيس اللجنة.

وشكل أجرانات اللجنة من أعضاء منهم موشى لاندو ليكون بديلا له فى حال مرضه، وهو زميله منذ عملهما معًا بمحكمة حيفا، بالإضافة إلى لاندو تم اختيار إسحاق نبنزهل المراقب العام بالدولة. 

 

 

لم يكن أى من الثلاثة له خبرة عسكرية فعلية ولذا تمت إضافة اثنين من الجنرالات هما إيجال يادين وحاييم لاسكوف.. وبمرور الوقت ووصول اللجنة إلى نتائج تم اتهام الجنرالين بأنهما عملا لصالح موشى ديان وضد ديفيد إليعازار. 

وعندما أعلن أجرانات عن تفاصيل أعضاء اللجنة، أفاضت عليه وسائل الإعلام والسياسيون بالمديح. صحيفة ها آرتس الإسرائيلية مثلا، عبرت عن رأيها بأن اللجنة تعطى إسرائيل فرصة تحويل الألم الذى تحملته بعد الهزيمة إلى تصرف فعال.. ورأت الصحيفة أنه من غير المحتمل أن تصدر اللجنة توصيات قبل انتخابات الكنيست القادمة فى 31 ديسمبر 1973.

ربما لذلك تم تأجيل الانتخابات إلى شهر ديسمبر بدلا من أكتوبر 1973، وانتهت الانتخابات وفاز حزب العمل الذى يرأس قائمة مرشحيه جولدا مائير وأعضاء من مجلس الوزراء وقت الحرب بمن فيهم موشى ديان، وظل حزب الليكود برئاسة مناحم بيجن بالمعارضة. 

لذلك لم يهدأ غضب الرأى العام الإسرائيلى.. وكان الناس فى شوارع إسرائيل يقابلون ديان بصيحات «القاتل».. كما تلقت جولدا مائير نصيبها من عبارات الإهانة.. واندلعت المظاهرات تطالب ديان بالخروج من منصبه.. وأصر المتظاهرون على أن يتحمل المسئولية مع جولدا مائير. 

 

ثلاثة تقارير

 

فى ذلك الوقت كان أجرانات مستمرا فى عمله، وأصدرت لجنته تقريرها.. فى جزأين أحدهما طويل ومفصل وعلى أعلى درجات السرية والآخر قصير ومتاح للجميع. 

وقدمت اللجنة أولى توصياتها فى 1 أبريل 1974، وهى التى فجرت ضجيجًا هائلًا صدم قادة إسرائيل.. وعرى الحكومة وعرض أجرانات ولجنته للنقد القاسى من الجانبين.. جانب الرأى العام.. وجانب القادة العسكريين. 

 

 

 

تحول أجرانات واللجنة التى تحمل اسمه من منزلة رفيعة كمنقذين للأمة إلى مجموعة من المنحرفين كما وصفهم بعض القادة العسكريين فى إسرائيل. 

قالت اللجنة إنها أخذت فى الاعتبار نوعين من المسئولية عن الهزيمة.. مسئولية الحكومة ومسئولية القيادة العسكرية. 

وبالنظر للحكومة فقد حددت اللجنة سؤال المسئولية وهو: هل جولدا مائير وموشى ديان يتحملان المسئولية البرلمانية بسبب فشلهما فى توقع هجوم الجيش المصرى والجيش السورى؟

لكن اللجنة أجابت وقالت إن الاتهام السياسى خارج سلطاتها القضائية وأن الإجابة عن المسئولية السياسية يدخل فى اختصاصات المؤسسات السياسية (الكنيست، الأحزاب السياسية ومجلس الوزراء).. ولذلك علقت اللجنة إقرار المسئولية على قيادات إسرائيل السياسية.. وقالت إنها تركتها للشعب وممثليه ليكونوا القضاة.

على عكس ذلك فإن القيادة العسكرية الإسرائيلية فى أكتوبر لم تكن بهذا الحظ بالنسبة لتقرير لجنة أجرانات.. إذ قالت اللجنة أن الضباط العسكريين للجيش الإسرائيلى وقت الحرب.. هم بالأساس موظفون بالحكومة. 

وبخلاف مائير وديان المنتخبين، فاللجنة لم تجد مشكلة فى الحكم على تصرفاتهما. وكان الحكم واضحا وقاطعا، إذ أوصت أجرانات بفصل رئيس الأركان وجنرالات للفرق.. وعدد كبير من الضباط بتهم الإهمال والتقصير.. والتسبب فى الهزيمة. 

قالت اللجنة إن فشل الجنرالات فى قراءة الأمور والتحليل العسكرى.. وفقا للرأى السائد وقتها بين قادة إسرائيل بأن مصر لن تدخل الحرب طالما أن القوة الجوية المصرية أقل من القوة الجوية الإسرائيلية كان الخطأ العسكرى الأكبر. وأن الاعتقاد الوهمى بأن البلاد العربية لن تدخل الحرب بدون مصر، وأن توسيع الحدود الإسرائيلية سيعطى الفرصة للجيش الإسرائيلى لصد أى هجوم بكفاءة لحين وصول قوات الاحتياط.. كان كل هذا فشلا كبيرا ومسئولية عسكرية كبرى.

 

 

 

وأضافت اللجنة أيضا أن القادة الإسرائيليين يجب أن يتحملوا الجزاء لأنهم سمحوا لأنفسهم كى يكونوا أسرى المفهوم السائد فى إسرائيل.. بأن مصر لن تهاجم. 

لذا رأت اللجنة أنه كان على هؤلاء الجنرالات الرحيل.

بمقارنة الحكم على العسكريين فإن الحكم على الحكومة كان متساهلا فى نظر الشارع الإسرائيلى، لذلك كان لدى الرأى العام الإسرائيلى مشكلة فى فهم كيف أفلت مجلس الوزراء من هذه الكارثة الرهيبة، وترك اللوم على القيادة العسكرية فقط؟ 

لذلك اشتعل غضب الرأى العام فى الداخل الإسرائيلى للشعور بأن النتيجة غير عادلة والإحساس بالمعايير المزدوجة فى تفسير أسباب وكيفية وقوع هزيمة الجيش الذى لا يقهر.  جدل سياسى وقانونى

قبل انتهاء لجنة أجرانات من تقريرها، كان هناك نقد عام وغضب أدى إلى جدل سياسى وقانونى قوى فى إسرائيل. 

ملأ الغضب الدنيا كلها، وحول إسرائيل إلى كرة لهب. 

 

 

 

وكانت التساؤلات غير قادرة على استيعاب كيف ولماذا وعلى أى أساس كون القادة فى إسرائيل وجهة نظرهم بأن الجيش المصرى لن يهاجم بعد حرب 1967؟ 

قال الرأى العام فى شوارع تل أبيب إن النصر فى 67 هو الذى ولد الغرور والغطرسة لدى قادة إسرائيل، كما أنه طور لدى العسكريين الإسرائيليين صورة ذاتية للقوة كانت غير حقيقية وغير مبررة.

ولما بدأت أجرانات فى محاكمة القادة واجهت سؤالا مهما كان لا بد أن تجيب عليه وهو: ما هو المعيار الملائم لمراجعة أو لمحاسبة هؤلاء القادة عن الهزيمة؟

ووقفت اللجنة أمام معضلة بخصوص محاكمة موشى ديان نفسه.. إذ طرأ سؤال: هل كان يجب أن تضع اللجنة فى اعتبارها حقيقة أن ديان خبير عسكرى كبير ورمز حربى بالنسبة للإسرائيليين منذ نشأة الدولة؟ أم كان يجب عليها تجاهل المواصفات الخاصة التى كانت تطلق على ديان.. وتطبيق معيار «وزير الدفاع العادى» عليه؟ 

فى النهاية استقر أعضاء اللجنة على أن موشيه ديان وزير دفاع عادى، وهو ما دعا كثيرا من القادة العسكريين يشنون هجوما على اللجنة، باعتبار هذا الجدل بين «القائد العادى والقائد ذى القدرات الفائقة «تلاعبا بالألفاظ.. ولطمة قانونية وتحويرًا وتلاعبًا بالكلمات لتبرئة ديان عن واحد من المسئولين عن الهزيمة العسكرية».

وتساءل الرأى العام كيف تجاهلت اللجنة الخبرة العسكرية لديان التى جعلته وزيرا للدفاع بعد حرب 1967، وسمحت بأن يكون «مجرد سياسى لا علاقة له بالحرب»؟ 

وما زاد اشتعال الرأى العام ضد موشيه ديان، هو نشر تفاصيل ما قام به من إجراءات فى صيف عام 1973، حيث أمر بتغييرات هيكلية مهمة على الجبهة الإسرائيلية مع مصر، وقرر استبدال الجنرال الخبير إيرل شارون بآخر غير خبير وهو شمويل جونين لرئاسة الجبهة الجنوبية. 

 

 

 

وكان المعنى والوحيد تفسيرًا لقرار ديان من وجهة نظر الرأى العام الإسرائيلى أنه كان متأكدا من أن الحرب لن تقوم، وأن المصريين لن يشنوا هجوما.. إذ لو كان يتوقع هذا فلماذا سلم أخطر الحدود لضابط غير خبير؟

كلام الرأى العام عن ديان، والجدل الذى أحدثته لجنة أجرانات، كشف عن شعور عميق بالخيانة فى الصفوف الأعلى بالقيادة العسكرية للجيش الإسرائيلى، خصوصا بعد صدور أول تقرير لأجرانات.

فقد صعق الضباط الإسرائيليون المعزولون الذين تطلعوا لوقوف ديان بجانبهم - بعد صدور تقرير اللجنة - عندما علموا أن ديان يطور دفاعا قانونيا منفصلا لتصويره كمدنى برىء تم تضليله بواسطة فريقه من الخبراء العسكريين.

وصعقوا أكثر عندما كان ديان الماكر يوظف مستشارين لامعين لتحوير الأدلة والهروب من المسئولية. 

لقد آمنوا بأن ديان يحاول التأثير على اللجنة كما نجح من قبل فى التأثير على الجيش خلال السنين الماضية. 

 

 

 

أسباب الفشل

 

أمام لجنة «أجرانات» أدلى مسئولون كبار فى الجيش الإسرائيلى بشهادات أوضحت عدم أخذ الاستعدادات العسكرية المصرية على محمل الجد. 

من ضمن هؤلاء المسئولين كان الكولونيل يوحنا بيندمان رئيس مكتب الاستخبارات العسكرية حول مصر وقتها، والجنرال يؤيل بن بورات رئيس وحدة تلقى الإشارات الاستخباراتية فى الجيش الإسرائيلى، والكولونيل يوسف زيرا رئيس وحدة التجسس. 

واستمعت اللجنة أيضا لشهادات الجنرال إبراهام لوتنس رئيس الاستخبارات البحرية، والجنرال شلومو إنبار مدير مكتب الاتصالات الإلكترونية، بالإضافة إلى الجنرال شموئيل جونين رئيس القيادة الجنوبية. 

وفى سياق مهمتها بالتحقيق فى أسباب الفشل بالحرب، انصب تركيزها بوجه عام على تحديد المسئول عن تفوق القوات المصرية والسورية على إسرائيل.. التى كان الأمر بمثابة مفاجأة. 

وقال الكولونيل بيندمان إن أحد أسباب الفشل كان عدم أخذ زيادة عدد القوات المصرية على الحدود بجدية، نظرًا لحدوث زيادة مماثلة فى شهر مايو 1973، أى قبل أشهر قليلة من الحرب. 

وأضاف بيندمان إن أجهزة الاستخبارات الإسرائيلية توقعت أن هذه التحركات مجرد تدريب، وهو ما كان يعتقد معظم المحللين صحته حتى يوم الخامس من أكتوبر.

أما الجنرال بن بورات فقد أقر بميل وحدته للنظر إلى الحروب السابقة، ما جعلها غير جاهزة لتحديات عسكرية أكثر تطورًا مثل حرب 1973.

لذلك كان أول من حملته لجنة «أجرانات» مسئولية افتقاد الجيش الإسرائيلى للاستعداد هو الجنرال ديفيد إليعازر، رئيس جهاز المخابرات الحربية الإسرائيلى وقتها، وأوصت بإبعاده من منصبه، فيما تهاوى باقى القادة واحدًا بعد الآخر فيما بعد، إلى أن أدت نتائج تحقيقات اللجنة التى كانت صادمة أنها تسببت فى استقالة رئيسة الوزراء السابقة جولدا مائير نفسها.

 

فشل عسكرى 

 

«فشل مهنى شديد».. بهذه الكلمات الثلاث، لخصت لجنة أجرانات فى فصل رئيسى فى تقريرها عن فشل الاستخبارات الإسرائيلية «الموساد» فى التنبؤ بالحرب. 

وذكرت صحيفة ها آرتس نقلا عن عضو المركز البحثى العبرى، أورى بار جوزيف، أن استنتاجات تقرير لجنة أجرانات «لا لبس فيها.. وتكشف فشل الموساد بشكل واضح». 

وتعد شهادات قادة إسرائيل حول حرب أكتوبر، بمنزلة توثيق تاريخى لمدى عبقرية وعظمة المقاتل المصرى بشجاعته وبسالته بعد أن لقن الإسرائيليين درسا لن ينسوه فى فنون القتال والتخطيط والخداع الاستراتيجى. 

وفى مذكراته حول حرب أكتوبر.. قال «حاييم هيرتزوج» رئيس دولة إسرائيل الأسبق: «لقد تحدثنا أكثر من اللازم قبل السادس من أكتوبر، وكان ذلك يمثل إحدى مشكلاتنا، فقد تعلم المصريون كيف يقاتلون، بينما تعلمنا نحن كيف نتكلم، لقد كانوا صبورين كما كانت بياناتهم أكثر واقعية منا، كانوا يقولون ويعلنون الحقائق تماما حتى بدأ العالم الخارجى يتجه إلى الثقة بأقوالهم وبياناتهم».

ولفت رئيس الوكالة اليهودية الأسبق ناحوم جولدمان فى كتاب له بعنوان «إلى أين تمضى إسرائيل» إلى أن من أهم نتائج حرب أكتوبر 1973 أنها وضعت حدا لأسطورة إسرائيل فى مواجهة العرب.. كما كلفت إسرائيل ثمنا باهظا نحو خمسة مليارات دولار، وأحدثت تغييرا جذريا فى الوضع الاقتصادى فى الدولة الإسرائيلية التى انتقلت من حالة الازدهار التى كانت تعيشها قبل سنة (رغم أن هذه الحالة لم تكن ترتكز على أسس صلبة كما ظهر) إلى أزمة بالغة العمق كانت أكثر حدة وخطورة من كل الأزمات السابقة. 

وأضاف جولدمان إن النتائج الأكثر خطورة كانت تلك التى حدثت على الصعيد النفسى، حيث انتهت ثقة الإسرائيليين فى تفوقهم الدائم، كما اعترى جبهتهم المعنوية الداخلية ضعف هائل، وهذا أخطر شىء يمكن أن تواجهه الشعوب وبصفة خاصة إسرائيل، وقد تجسد هذا الضعف فى صورتين متناقضتين أدتا إلى استقطاب إسرائيل على نحو بالغ الخطورة.. فمن ناحية كان هناك من بدأوا يشككون فى مستقبل إسرائيل على نحو بالغ الخطورة، من ناحية أخرى لوحظ تعصب وتشدد متزايد يؤدى إلى ما يطلق عليه «عقدة المسادا» (والمسادا هى القلعة التى تحصن فيها اليهود فى أثناء حركة التمرد اليهودية ضد الإمبراطورية الرومانية ولم يستسلموا وماتوا جميعا).

بينما قال الجنرال الإسرائيلى يشيعيا جافيتش إنه وبالنسبة لإسرائيل ففى نهاية الأمر انتهت الحرب دون أن نتمكن من كسر الجيوش العربية ولم نحرز انتصارات ولم نتمكن من كسر الجيش المصرى أو السورى على السواء ولم ننجح فى استعادة قوة الردع للجيش الإسرائيلى وإننا لو قيمنا الإنجازات على ضوء الأهداف لوجدنا أن انتصار العرب كان أكثر حسما.

وأضاف: «لا يسعنى إلا الاعتراف بأن العرب قد أنجزوا قسما كبيرا للغاية من أهدافهم، فقد أثبتوا أنهم قادرون على التغلب على حاجز الخوف والخروج إلى الحرب والقتال بكفاءة وقد أثبتوا أيضا أنهم قادرون على اقتحام مانع قناة السويس.. ولأسفنا الشديد فقد انتزعوا القناة من أيدينا بقوة السلاح». 

 

 

 

أما صاحب كتاب «إسرائيل انتهاء الخرافة» آمنون كابيليوك فقد قال: «تقول الحكمة البريطانية كلما كان الصعود عاليا كان السقوط قاسيا».. وفى السادس من أكتوبر سقطت إسرائيل من أعلى برج السكينة، والاطمئنان الذى كانت قد شيدته لنفسها وكانت الصدمة على مستوى الأوهام التى سبقتها قوية ومثيرة وكأن الإسرائيليين قد أفاقوا من حلم طويل جميل لكى يروا قائمة طويلة من الأمور المسلم بها والمبادئ والأوهام والحقائق غير المتنازع عليها التى آمنوا بها لسنوات عديدة اهتزت بل وتحطمت أمام حقيقة جديدة غير متوقعة وغير مفهومة بالنسبة لغالبية الإسرائيليين».

وقال: «من وجهة نظر الإسرائيلى العادى يمكن أن تحمل حرب أكتوبر أكثر من اسم مثل «حرب الإفاقة من نشوة الخمر» أو انهيار الأساطير» أو «نهاية الأوهام» أو «موت الأبقار المقدسة».

وأضاف: «عقب الحروب السابقة كانت تقام عروض عسكرية فخمة فى يوم الاستقلال تشاهد فيها الجماهير غنائم الحرب التى تم الاستيلاء عليها من العدو، أما فى هذه المرة فعلى العكس أقيم معرض كبير فى القاهرة بعد مرور شهرين على الحرب وفيه شاهدت الجماهير الدبابات والمدافع والعربات العسكرية وكثيرا من الأسلحة الإسرائيلية التى تم الاستيلاء عليها من العدو خلال الحرب». 

وأضاف: «فى المرات السابقة كان الجنود يعودون إلى ديارهم بعد تسريحهم وكانوا يذوبون فى موجة السعادة والفخر، أما هذه المرة فقد عادوا وقد استبد بهم الحزن والفزع واحتاج الكثيرون منهم إلى التردد على قسم العلاج النفسى فى الإدارة الطبية التابعة للجيش نظرا لإصابتهم بصدمة قتال». 

وأضاف كابيليوك: «هذه هى أول حرب للجيش الإسرائيلى التى يعالج فيها الأطباء جنودا كثيرين مصابين بصدمة القتال ويحتاجون إلى علاج نفسى.. هناك من نسوا أسماءهم وهؤلاء كان يجب تحويلهم إلى المستشفيات». 

 

 

وأضاف: «لقد أذهل إسرائيل نجاح العرب فى المفاجأة فى حرب يوم عيد الغفران وفى تحقيق نجاحات عسكرية، لقد أثبتت هذه الحرب أن على إسرائيل أن تعيد تقدير المحارب العربى فقد دفعت إسرائيل هذه المرة ثمنا باهظا جدا».

وأضاف: «لقد هزت حرب أكتوبر إسرائيل من القاعدة إلى القمة.. وبدلًا من الثقة الزائدة جاءت الشكوى وطفت على السطح أسئلة من نوع: «هل نعيش على دمارنا إلى الأبد؟ هل هناك احتمال للصمود فى حروب أخرى؟».

من جانبه قال شمعون شامير الخبير فى شئون الشرق الأوسط: «إننى أحصى للعرب خمسة إنجازات مهمة: أولا: نجحوا فى إحداث تغيير فى الاستراتيجية السياسية للولايات المتحدة الأمريكية بصورة غير مواتية لإسرائيل.

وثانيا: نجحوا فى تجسيد الخيار العسكرى مما يفرض على إسرائيل جهودا تثقل على مواردها واقتصادها.

ثالثا: نجحوا فى إحراز درجة عالية من التعاون العربى سواء على الصعيد العسكرى أو الاقتصادى، خاصة عندما استخدموا سلاح البترول فى أكتوبر.

رابعا: استعادت مصر حرية المناورة بين الدول الكبرى بعد أن كانت قد فقدتها قبل ذلك بعشر سنوات.

خامسا: غير العرب من صورتهم الذاتية فقد تحرروا من صدمة عام 1967 وأصبحوا أقدر على العمل الجاد». 

وقد اعترف وزير الحرب الإسرائيلى موشيه ديان فى ديسمبر 1973 بأن حرب أكتوبر كانت بمنزلة زلزال تعرضت له إسرائيل.. وأن ما حدث فى هذه الحرب قد أزال الغبار عن العيون، وأظهر لهم ما لم يروه من قبل وأدى كل ذلك إلى تغير عقلية القادة الإسرائيليين.

وكتب موشيه فى مذكراته يقول: «إننا لا نملك الآن القوة الكافية لإعادة المصريين للخلف مرة أخرى «مستغربا» الدقة التى استخدم بها المصريون الصواريخ المضادة للدبابات والطائرات».

وأكد ديان أن عليهم الاعتراف بأنهم ليسوا أقوى من المصريين وأن حالة التفوق العسكرى الإسرائيلى قد انتهت إلى الأبد وأن النظرية التى تؤكد هزيمة العرب فى ساعات إذا حاربوا إسرائيل تعتبر نظرية خاطئة.. مؤكدا انتهاء نظرية الأمن الإسرائيلى القائمة على أن الجيش الإسرائيلى لا يقهر. وشدد على ضرورة أن يعوا أنهم ليسوا القوة العسكرية الوحيدة فى الشرق الأوسط وأن هناك حقائق جديدة لا بد أن يتعايشوا معها.

ومن أقواله خلال أيام الحرب.. يوم 9 أكتوبر 1973: «إن طيراننا عاجز عن اختراق شبكة الدفاع الجوى المصرية دون تكبد خسائر فادحة».

وفى يوم 14 أكتوبر 1973 قال: «إن إسرائيل تخوض الآن حربا لم تحارب مثلها من قبل سواء عام 1956 أو فى معارك الأيام الستة عام 1967 وهذه حرب صعبة، ومعارك المدرعات قاسية، ومعارك الجو مريرة.. إنها حرب ثقيلة بأيامها وثقيلة بدمائها».

وقال تعليقا على وجود أسلحة دفاع جوى جديدة لدى مصر: «كان الجيش الإسرائيلى يعلم بوجود هذه الأسلحة لدى مصر ولكن استخدام قوات الدفاع الجوى المصرى لها بكفاءة عالية هو ما لم نكن نعلمه». 

وفى سياق آخر نقلت ها آرتس عن الرائد طيار يعقوب أمنون: «إن الصواريخ المصرية كانت مؤثرة للغاية، وكنا نحاول الابتعاد عن مواقعها خشية أن تصاب طائراتنا، رغم محاولات التخلص منها فإنها كانت فعالة للغاية، ما أدى إلى وقوع خسائر كبيرة فى طائراتنا خاصة طائرات الفانتوم».

وقالت صحيفة جيرو زاليم بوست الإسرائيلية إن الدفاع الجوى المصرى المضاد للطائرات تمتع بقوة لم يسبق لها مثيل فى تاريخ الحروب وتفوق تلك التى واجهها الأمريكيون فى فيتنام. 

مشيرة إلى أنه قد حدثت إساءات تقدير كبيرة من جانب الإسرائيليين بالنسبة لفاعلية الدفاعات المصرية وقدرة المصريين على عبور القناة.

وأضافت الصحيفة فى أعدادها خلال شهر الحرب: «لقد دفعنا ثمنا غاليا لهذا الخطأ فى الأرواح».

وفى الولايات المتحدة الامريكية قالت مجلة تايم فى عددها يوم 24 يناير 1974: «القوات المصرية تمكنت من استخدام أول منظومة دفاع جوى فى التاريخ.. وتمكنت فى وقت قصير نسبيا من إسقاط 78 طائرة إسرائيلية».

 

 

 

ظلت الصحافة الإسرائيلية تنشر على مدى أعوام تفاصيل مختلفة ومقتطفات ومسربات من تقرير لجنة أجرانات، وضمن ما نشرته كانت روايات شهود عيان لكثير من الضباط والجنود الإسرائيليين عن أيام حرب أكتوبر والصدمة التى أصيبوا بها.

من بين شهود العيان كان الملازم أول جادى زيدوفر قائد ثكنة حرمون فى هضبة الجولان، والرقيب دافيد ناهليل جندى من نفس الثكنة، اللذان تمكنا من الفرار من الموقع أثناء الهجوم السورى فى اليوم الأول للحرب عام 73. 

قال ديدوفر: «عندما سمعت صرخات باللغة العربية أصابنا الرعب ولم يكن لدينا أسلحة كافية للاستعداد لهذا الهجوم، لذلك وجدت أنه لا جدوى من القتال وبدأت فى جمع الناس بالصراخ للفرار».

 

 روايات شهود عيان

 

رغم مرور نصف قرن على حرب أكتوبر 73.. لم تندمل جراح جنود الأسرى الإسرائيليين، فإذا كان الاستسلام بين أيادى المصريين على الضفة الشرقية لقناة السويس مُرًا، فالأشد مرارة كان تخلِّى وزير الدفاع فى حينه موشى ديَّان عن مسئولية اتخاذ قرار الاستسلام.. وتركه معلقًا فى رقبة جنود لم تتجاوز أعمارهم 21 عامًا على الأكثر. 

والأنكى من ذلك كان الاستقبال المشين، والمعاملة السيئة، وألوان التنكيل التى لقيها الأسرى من قادة جيش الاحتلال بعد عودتهم من مصر، وفور هبوط طائرتهم فى مطار «اللد» كما وصفتها الصحافة الإسرائيلية وقتها. 

وحسب ما نشرته «إسرائيل هايوم»، فإنه قبل إقلاع الأسرى الإسرائيليين على الطائرة من القاهرة إلى قبرص، واستقلال طائرة إسرائيلية من مطار «لارنكا» الدولى حيث طريق العودة إلى تل أبيب، تقاطعت الأحلام الوردية مع انكسار الجنود الأسرى. 

حينئذ ظن أصحابها تدثرًا بدفء العودة للأهل والأصدقاء ورفاق السلاح؛ لكنهم فوجئوا بعبوس ووحشة الاغتراب، ترجمتها أوامر اعتقال بعد ساعات العودة للمنزل، وتحقيق واستجواب لمدة أسبوعين فى منشأة «زخرون يعقوب» العسكرية؛ كأنهم كانوا يعاقبون على ذنب لم يقترفوه، ويسددون «فاتورة خطايا» قادة المطبخ السياسى قبل العسكرى، وخرس تلقى الأوامر العسكرية فى أوقات عصيبة، واستهانة بخصم عنيد.

وقالت الصحيفة ضمن تقرير نشر مؤخرا إن 50 عامًا وضعت أسرى الماضى غير البعيد على نهاية العقد السابع من العمر، اجتمع من بقى منهم على قيد الحياة لسرد ذكريات الألم والإهمال وبكائيات مصير الهزيمة، ومواجهة الجندى المصرى وجهًا لوجه داخل حصون بارليف الحصينة و«عجة الـ300 بيضة» التى صنعها المصريون ليلة اليوم الثانى من معارك النصر، والرقص والغناء فرحًا على أنقاض وحطام هزيمة إسرائيل.

وقالت الصحيفة إنه بعيدًا عن المستويات الرسمية فى تل أبيب، قررت جمعيتان إسرائيليتان، تطلق إحداهما على نفسها «إيرز»، والثانية «يقظون فى الليل» العودة بالأسرى الإسرائيليين إلى الماضي؛ واعتبرت الخطوة تصحيحًا لما وصفته بـ«تعامل إسرائيل غير اللائق مع أسراها فى 73». 

قبل عدة أشهر حشدت الجمعيتان تبرعات بما قيمته 6,5 مليون شيكل لتغطية تكاليف رحلة تبحر من ميناء حيفا شرق البحر المتوسط بـ350 راكبًا من بينهم 160 أسيرًا فى حرب «يوم الغفران» وزوجاتهم.

وبالتوازى مع جمع التبرعات، نص برنامج الرحلة على الانطلاق يوم 8 أكتوبر 2023 على متن مركب «كاموميلا» الإيطالية إلى مدخل قناة السويس، ومن هناك تمر المركب بسرعة بطيئة فى القناة حتى يتمكن مستقلوها من مشاهدة آثار المعارك والنقاط التى انتشل منها المصريون الجنود الإسرائيليين وأودعوهم أسوار الأسر.

ووفقًا لبرنامج الرحلة، تنطلق السفينة إيطالية الجنسية إلى ميناء إيلات، ومنه تقل طائرة مروحية من طراز «هيركوليس» التابعة لسلاح الجو الإسرائيلى ركاب «كاموميلا» حتى خط التماس بين سوريا وإسرائيل فى هضبة الجولان المحتلة، ومن هناك إلى مطار «اللد»، الذى هبطت فيه طائرة الأسرى الإسرائيليين قبل 50 عامًا، حيث تقام مراسم لأسرى حرب «يوم الغفران»، وربما يحضرها وزير الدفاع أو كبار المسئولين نيابة عنه، حسب برنامج الرحلة.

واستعرضت صحيفة «يسرائيل هايوم» برنامج الرحلة التى يدور الحديث عنها دون أية إشارة من قريب أو بعيد إلى إمكانية خروج الجولة إلى حيز التنفيذ؛ فإسرائيل التى لم تكرِّم أسراها فى الماضى بشهادة الأسرى العائدين فى حينه من القاهرة، لن تتراجع عن موقفها بدليل تخليها حتى عن المشاركة فى تمويل الرحلة بعد مرور 50 عامًا.

لكن الصحيفة ركزت على اعترافات الأسرى وسرد ذكريات الأسر الأليمة فى حرب أكتوبر 73. ويبدأ طرف الحديث أسير الحرب الإسرائيلى أورى أرينفيلد (70 عامًا)، مشيرًا إلى أنه ورفاقه تعرضوا لمعاملة مهينة بعد العودة إلى إسرائيل.

لكن رفيقه الأسير يجال كحلونى (69 عامًا) يتحدث بجدية أكثر من سلفه قائلًا للصحيفة: «نشأت فى تل أبيب؛ وفى الثامنة عشرة من عمرى، انضممت إلى وحدة جولانى (عمليات خاصة)، وأودعتنى القيادة دورة اتصال للمقاتلين» .

يكمل: «فى فبراير 1973، انتقلنا لخوض تدريب كبير فى سيناء. آثرت حينها البقاء بعد التدريبات فى سيناء، وذلك طمعًا فى «الحلوى» التى كانت تقدمها القيادة لجنود الخدمة فى شبه الجزيرة، وهى الحصول على إجازة فى المنزل لمدة أسبوع عن كل أسبوعين فى الوحدة العسكرية». 

ويعود يجال بذاكرته إلى الوراء: «كان موقعى فى سيناء على بعد 800 متر فقط من البحيرة المرة الكبرى فى القطاع الأوسط من شبه الجزيرة. كنت الجندى الوحيد من جنود الخدمة الإلزامية، أما بقية جنود الموقع فكانوا من قوات الاحتياط، وكنا طيلة الوقت نعيش حالة استرخاء واستمتاع بـ«جنة سيناء الخلابة».

ويستطرد الأسير الإسرائيلى العائد: «قبل أسبوع من الحرب، وصل إلى موقعنا العسكرى اثنان من ضباط الاستخبارات العسكرية (أمان)، وقال أحدهما لى نصًا: «لماذا تنزعج من الحشود العسكرية المصرية. نحن ندرك ما يجرى لدى المصريين جيدًا، وأقول لك ورفاقك: لن يحدث شىء. لا شىء نهائيًا». 

فى تمام الساعة الـ8 من صباح «يوم غفران 73»، وقفت سيارة رباعية الدفع بجوار موقع «الجندى الصبى»، ونزل منها ضابط يجر فى قدميه «شبشب»، ويرتدى سروالًا قصيرًا. 

وحسب يجال: «كان فى حالة من الذعر، سألنى الضابط بلهفة عن مكان «الصناديق الصفراء» (يقصد النابالم) التى كان من المفترض أن تطلق لهيبًا من النيران على من يفكر فى عبور القناة.

اصطحبته إلى موقع الصناديق، لكنه اكتشف أنها معطلة تمامًا وممتلئة بالرمال. واكتشف أيضًا إبطال عمل الصندوق الرئيسى الذى كان منوطًا به تشغيل الآلية الأوتوماتيكية؛ كأن أشباحًا انتزعت تمامًا شبكة أسلاكه، ولا أمل فى إصلاحها نهائيًا». 

مازالت القصة مع يجال الذى يقول: «الواحدة بعد ظهر «يوم الغفران»، قررت الخلود إلى الراحة فى أحد مخابئ خط بارليف الحصينة».. لكنه كما قال استيقظ فى الساعة الثانية والربع على أصوات ضجيج. أعتقد حينئذ أن أحد الرفاق يمازحه، لكن الضجيج لم يتوقف، وبدأت الرمال تتدفق من بين أحجار سقف المخبأ.

يضيف: «أخرجت رأسى من إحدى فوَّهات المخبأ المطلة على الخارج، فوجدت كل شىء ينفجر. ارتديت ملابسى العسكرية سريعًا وخرجت. من المستحيل وصف لهيب نيران المصريين. ركضت بين القنابل ووصلت إلى المقر المركزى، وعلمت حينها بالفوضى الرهيبة داخل جميع مواقعنا العسكرية والنقاط الحصينة على طول خط الجبهة».

على مدار ثلاثة أيام كاملة لم يهدأ تنكيل المصريين بالإسرائيليين كما قال الأسرى الإسرائيليون، وفى يوم 8 أكتوبر، تمكنت دبابتان مصريتان من اقتحام موقع يجال ورفاقه، وكانوا هم آخر ما تبقى من الجنود الذين لقوا حتفهم فى المواجهات.

ويعترف الأسير الإسرائيلى: «فقدنا الاتصال بالقيادة تمامًا، ولم يتجاوب أحد مع استغاثاتنا المتكررة. وفى 9 أكتوبر، وقف المصريون على أسوار أكثر من موقع فى خط بارليف. فقدنا حتى الذخيرة للدفاع عن الموقع وأنفسنا، فجرى حشد الجنود فى مخبأ الموقع المركزى. ونظرًا لتقاعس قيادتنا العسكرية عن قصف المواقع المخلاة، لاسيما بعد اقتحامها من جانب المصريين. كنا نشم رائحة العجة التى صنعها الجنود المصريون من 300 بيضة كانت فى الموقع. سمعناهم يغنون ويرقصون ابتهاجًا بهزيمتنا. وحين اقترب أحد الجنود المصريين من الموقع المركزى، أطلقنا عليه النار، فانتبه زملاؤه لوجودنا، لتبدأ حينئذ معركة ضارية عند مداخل المخبأ، وهى معركة أطلق فيها كل طرف النار على الآخر من مسافة لا تزيد عن متر واحد؛ وقام المصريون بإلقاء قنابل الدخان، وكان كل شىء يقطر بالحرارة والنار».

 

استسلام القوة

 

ولا ينسى أسير الحرب تجاهل غرفة عمليات القيادة الإسرائيلية لاستغاثته، ويقول: «أبلغت القيادة وأنا أصرخ: «المصريون يطلقون النيران على موقعنا».. لكن القيادة لا ترد. أستغيث مرة تلو أخرى.. جرَّبت أكثر من جهاز وجميعها يعمل، لكن للأسف لا مجيب.. حتى يومنا هذا وبعد مرور 50 عامًا ما زلنا فى انتظار رد القيادة».

أما شلومو آردنيست فيبلغ من العمر الآن (71 عامًا) فكان ملازمًا شابًا إبان حرب 73، وتم تعيينه نائبًا لقائد قطاع الجنوب قبل 3 أشهر من اندلاع الحرب.. وقاد 3 مواقع على امتداد 14 كيلو مترًا.

يروى شلومو اردنيست قصته مع الأسر قائلا: «وصلت إلى الموقع فى تمام الرابعة صباحًا يوم السادس من أكتوبر. لم يكن لدى معظم الجنود القوة حتى لتقديم التحية، فقمت منفردًا بجولة فى الموقع، وآثرت الجلوس فى مكان معين. وفى تمام الساعة 1:55 قصف المصريون الموقع بقذائف ثقيلة. حينها كنت ضمن مجموعة الدعم الذاتية، فطلبت شخصًا يدافع عن الموقع لأتفرغ لتوزيع مهام القتال. ارتديت كامل ملابسى ومهماتى العسكرية، وصعدت إلى نقطة المراقبة. الموقع كان استراتيجيًا بما يعنى تميزه بالسيطرة على القناة».

ويروى قصة الاستسلام للجيش المصرى: «كنت أعلم أننا عيون المنطقة، وآخر من لم يستسلم، وطالما نحاول منع بعض القوارب المصرية من عبور القناة فى قطاع جنوب سيناء، فبإمكاننا مواصلة القتال. لكن المشكلة التى لم نستطع التصدى لها هى عبور الدبابات المصرية بالفعل قناة السويس، إذ قامت بحصارنا حصارًا محكمًا».

 

خلال الحصار، وفى 11 أكتوبر، حاولت قوة كوماندوز إسرائيلية انتشال الجنود المحاصرين، لكن القوة تراجعت وعادت أدراجها أمام هجوم مصرى عنيف. وعلى خلفية تأزم الموقف حينئذ، يعود آردنيست بذاكرته إلى الوراء: «تلقيت اتصالًا من القيادة على الجهاز المشفَّر.

سأل المتصل عن تقدير الموقف، فقلت: لدينا 5 قتلى، بالإضافة لتعرض بقية القوات لإصابات بالغة، ولم يتبق سوى عدد ضئيل جدًا من الأسلحة؛ وإذا تعرضنا لهجوم كبير فلن نصمد.. قالوا لى: استسلم».

وقال آردنيست: «صدمة أكتوبر 73 تفقدنا حتى اليوم وبعد مرور 50 عامًا أية شهوة للحديث عن شريط الذكريات المؤلم».