الخميس 9 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

أكبر اشتباك بالدبابات بعد الحرب العالمية

«المزرعة الصينية».. معركة دخلت التاريخ العسكرى

هى واحدة من المعارك التى انخدع فيها الإسرائيليون، لاعتقادهم أنها ستكون مهمة سهلة، وأن مقاومة القوات المصرية ستكون ضعيفة على البر الشرقى للقناة؛ لكن خاب اعتقادهم وساء تقديرهم إلى درجة دفعت قادة الجيش الإسرائيلى فى مساء 16 أكتوبر، للتفكير جديًّا فى إلغاء العملية بأسرها، وإصدار الأوامر إلى قوات المظلات، والمُدرّعات التى عبرت بالعودة مرّة ثانية إلى الشاطئ الشرقى. 



 

 

 

لكن، كانت بسالة الجندى المصرى، وبراعته فى القتال، والاشتباك، هى العنصر الأساسى فى حسم معارك حرب السادس من أكتوبر، وربما كانت «المزرعة الصينية»، من أكثر المعارك شراسة خلال الحرب، حيث وقعت على الضفة الشرقية لقناة السويس يوم 15 أكتوبر 1973.

وأطلقت إسرائيل «المزرعة الصينية» على محطة زراعية مصرية تجريبية تقع على الضفة الشرقية لقناة السويس بقرية الجلاء بتقاطع طريقىّ «أبوطرطور -المرشدين»، وعندما احتلتها القوات الإسرائيلية خلال حرب 1967، لاحظوا كلمات وأحرف غريبة مدوّنة على المضخات، والآلات الخاصة بالمحطة المستوردة من اليابان، وظنوا أنها أحرف صينية، فسُميت بـ«المزرعة الصينية» على الخرائط العسكرية.

وكانت المزرعة تغطى نحو 15 ميلًا مربعًا، وأسستها الحكومة المصريّة فى فترة الخمسينيات لدراسة إمكانية الرى وزراعة المحاصيل فى التربة الصحراوية فى شبه جزيرة سيناء، بحفر خنادق عميقة واسعة النطاق للرى عبر المحطة.

أهمية استراتيچية

نجحت القوات المسلحة المصريّة خلال حرب السادس من أكتوبر، فى استعادة المحطة من العدو الإسرائيلى، بعد عبور قواتنا من البر الغربى إلى الضفة الشرقية لقناة السويس، والسيطرة على النقاط الحصينة بخط بارليف، وكانت القيادة المصريّة تُدرك مدى أهمية وخطورة موقع «المزرعة الصينية» من الناحيتين العسكريّة، والاستراتيچيّة، لوقوعها على الطريق المؤدى إلى أبوطرطور. 

 

 

وخلال مجريات حرب أكتوبر، كانت طائرة استطلاع أمريكية اكتشفت وجود فجوة بين الجيشين الثانى والثالث المصريين، فاستغلّت إسرائيل ذلك فى وضع خطة يوم 11 أكتوبر، بهدف العبور للبر الغربى للقناة لإحراز أى تقدُّم عسكرى قبل صدور قرار متوقع من الأمم المتحدة بوقف إطلاق النار، خصوصًا مع قرار القيادة السياسية المصريّة بتطوير الهجوم يوم 14 أكتوبر، لتخفيف الضغط على الجبهة السوريّة.

وأسندت قوات الاحتلال المهمة إلى فرقة الجنرال «أرئيل شارون»، رئيس الوزراء فيما بعد، وضمت 3 ألوية مدرّعة، بقيادة كل من «آمنون ريشيف، وتوفيا رافيف، وحاييم آريز»، فضلًا عن لواء مظلات ألحق بها لتنفيذ العملية بقيادة العقيد «دانى مات». 

كانت المهمة الأولى لـ«شارون» تطهير المحورين الرئيسيين اللذين ستتحرك عليهما القوات والمعدات المخصصة للعبور، وهما محور «أكافيش» أو طريق «الطاسة- تل سلام»، ومحور «طرطور»، وهو طريق قام الإسرائيليون بشقه وتمهيده قبل الحرب لتحرُّك الكبارى الضخمة والمَعديات إلى نقطة العبور فى الدفرسوار.

لكن، كانت العقبة الكُبرى التى تواجه الخطة الإسرائيلية، تتمثّل فى موقع قطاع اللواء 16 مشاة التابع للجيش المصرى «اللواء الأيمن للفرقة 16 مشاة»، الذى كان يشرف على أجزاء عديدة من محورىّ أكافيش وطرطور، حيث تقع فى الجزء الأخير من محور طرطور الدفاعات الأمامية لهذا اللواء، لذلك، كان أحد الأهداف الرئيسية لخطة تأمين معبر الدفرسوار وتطهير محورىّ التقدُّم، هو تدمير اللواء 16 مشاة، واحتلال مواقعه الدفاعية، لإخلاء المنطقة حتى شمال قرية الجلاء «المزرعة الصينية»، من القوات المصريّة. 

 

 

اعتقد القادة الإسرائيليون أنهم فى مهمة سهلة، وأن مقاومة القوات المصريّة ستكون ضعيفة على البر الشرقى للقناة، لكنهم أخطأوا التقدير إلى الحد الذى جعل قادة الجيش الإسرائيلى فى مساء يوم 16 أكتوبر، يفكرون جديًّا فى إلغاء العملية بأسرها، وإصدار الأوامر إلى قوات المظلات، والمُدرّعات التى عبرت بالعودة مرّة ثانية إلى الشاطئ الشرقى، حيث اضطرت قوات شارون المُدرّعة لخوض أعنف الاشتباكات الدموية التى شهدتها هذه المرحلة من الحرب مع القوات المصريّة المتمركزة بقطاع هذا اللواء، ومع قوات من الفرقة 21 المُدرّعة عند قرية الجلاء «المزرعة الصينية».

تشكّلت القوات المصرية فى الجهة الجنوبية للجيش الثانى الميدانى، وكانت هذه الوحدات تابعة للكتيبة 21 المدرعة بقيادة اللواء إبراهيم العُرابى، والكتيبة 16 مشاة بقيادة اللواء عبدرب النبى حافظ، التى تضم الكتيبة 21 مشاة، وكانت وحدة العُرابى تضم اللواء الأول مُدرّع، بقيادة العقيد سيد صالح، اللواء 14 المُدرّع بقيادة اللواء عثمان كامل، اللواء 18 الميكانيكى بقيادة اللواء طلعت مُسلّم. 

وكانت الكتيبة 16 مشاة وتضمُّ اللواء 16 مشاة بقيادة العقيد عبدالرب عبدالسميع، والمُقدّم محمد حسين طنطاوى، بالإضافة للكتيبتين 116 مشاة، و3 الميكانيكية. 

وفى 15 أكتوبر تواجدت 136 دبابة فى رأس الجسر المصرى، كانت مُقسّمة بين ألوية عُرابى، فضمّ اللواء الأول مُدرّعات 66 دبابة، واللواء 14 مُدرّعات 39 دبابة، واللواء 18 ميكانيكى 31 دبابة. 

بدأت قوات شارون الهجوم فى اليوم نفسه 15 أكتوبر، وقصدت بعض قواته محور أبوطرطور لتطهيره من القوات المصريّة، حسب الخطة الإسرائيلية، لفتحه أمام القوات الإسرائيلية، بغرض نقل الكوبرى الدوّار، والمعدات إلى نقطة العبور بالدفرسوار، فاتجه لواء من قوات شارون بقيادة آمون رشيف شمالًا، ودخل فى نطاق الجيش الثانى المصرى، وفوجئت 7 كتائب من قوات «رشيف» بأنها فى قلب دفاعات الفرقتين 16 مشاة، و21 المُدرّعة عند «المزرعة الصينية».

 

 

وشلّت الصدمة تفكير «رشيف»، وظنّ أنه هالك لا محالة، فدفعت له إسرائيل بلواءين مُدرّعين، بقيادة الكولونيل «ناتكى برعام»، و«جافريل عامير»، وحينما وصلت القوّات الإضافية إلى المنطقة، أدرك القادة العسكريون الإسرائيليون أن قوّاتهم فى خطر فى حالة تقدُّمهم أكثر، رُغْمَ الدعم الإضافى، فطالبوا قيادتهم بإمدادهم بقوّات أخرى، فأُرسل لهم لواء مشاة محمول جوّا بقيادة الكولونيل «عوزى يائيرى».

نيران المدفعية

فى تلك اللحظات، تلّقت القوّات الإسرائيلية وابلًا من نيران المدفعية المصريّة الثقيلة، واشتبكت قواتنا مع جنود قوات المشاة الإسرائيلية، فى قتال عنيف، فيما قام العدو بهجوم مُركّز بالطيران طوال النهار على جميع الخنادق، ومواقع القوّات المصريّة فى محاولة لإنقاذ قواتهم من الهلاك، واتبعت القوّات المصريّة خطط تمويه مبهرة، اعتمدت على نقل الجنود من مكان إلى آخر، مع كل طلعة استطلاع إسرائيلية. 

تصاعدت حدة الاشتباك مع حلول الظلام، فوصل إلى أسماع القوّات المصريّة أصوات جنازير الدبابات بأعداد كبيرة قادمة من اتجاه طريق الطاسة، وبعدها طوّرت القوات الإسرائيلية هجومها، دافعة كل قوّتها، وجهدها فى محاولة الاستيلاء على المزرعة، فشنّت هجومًا عنيفًا بـ 3‏ لواءات مُدرّعة يشمل ‏280‏ دبابة، ولواء من المظلات ميكانيكى، وفرقتين بقوة 500 دبابة، ولواء مشاة ميكانيكى، وعزز لواء رشيف بـ3 كتائب إضافية، لكن مع كل هذا، اشتبكت معه القوات المصريّة بشجاعة لا نظير لها فى الحروب الحديثة، فكبّد جنودُ مصر البواسلُ القوّاتِ الإسرائيليةَ خسائرَ فادحة غير متوقعة.

استمرّ القتال فى الساعات الأولى من صباح ليلة 16 أكتوبر، وقُدّرت حصيلة الخسائر الإسرائيلية حينها بأكثر من 300 قتيل، وعدد كبير من الدبابات، والمُدرّعات، وشهدت تلك الساعات أكبر معركة دبابات بعد الحرب العالمية الثانية، وكان الاشتباك بينها لا يفصلها أكثر من كيلو متر واحد، كما تصاعدت حدة الاشتباك المباشر فى ظلام الليل بين جنودنا البواسل، والقوة الغاصبة، وحاصرت جنودنا، قوّات المظلات الإسرائيلية.

وحينها تصدّت قوات المشير حسين طنطاوى لهجوم إسرائيلى، ونجحت فى إلحاق خسائر فادحة فى صفوف القوّات الإسرائيلية فى الأرواح والمُعدّات، فتهاوت دبابات العدو أمام صلابة الجيش المصرى. 

ومع أول ضوء فى نهار يوم 16 أكتوبر، تراجعت قوّات العدو لتفوّق القوّات المصريّة، وبعث القائد العسكرى الإسرائيلى شارون ببعض قواته لإجلاء جنود المظلات التابعين للجيش الإسرائيلى من منطقة المزرعة، الذين انسحبوا للنقاط الحصينة بطريق أبوطرطور، وإخلاء قتلاهم، وجرحاهم. 

وبذلك نجح أسود الجيش المصرى فى صد 3 عمليات هجوم إسرائيلى استهدفت احتلال المزرعة الصينية، رُغْمَ التعزيزات الإسرائيلية المُستمرة، لتذيّل إسرائيل بهزيمة نكراء فى معركة خلّدتها كتب التاريخ العسكرى، ومثّلت نقطة فارقة وحاسمة فى معركة التحرير.