الإثنين 13 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

قبل العبور بـ12 ساعة

حكاية مواسير النابالم

كان إفساد أنابيب ضخ المواد الملتهبة «النابالم» التى أقامها العدو على شاطئ القناة، واحدًا من الاختبارات  التى واجهت العقل المصرى خلال التخطيط للحرب.



 

 

 

كانت قوات العدو صمَّمت مواسير «النابلم» لتضخ على سطح المياه بامتداد القناة، مزيجًا من «النابالم» و«الزيوت سريعة الاشتعال» مع كمية بنزين، لتكون حاجزًا رهيبًا من النيران يستحيل اختراقه.

لكن، وقَبل العبور بيوم واحد، نجحت الضفادع البشرية المصرية فى سد فتحات مواسير النابالم سرًّا يوم 5 أكتوبر 1973، لتأمين القوات خلال عبورها ومنع إسرائيل من تحويل مياه القناة إلى جحيم يغلى، وهى مهمة كبيرة لها تفاصيل وأسرار كثيرة.

 

تفاصيل العملية

 

فمادة «النابالم» هى سائل هلامى (gel) يلتصق بالجِلد، وقابل للاشتعال ويُستخدم فى الحروب، هذه المادة طورها مجموعة كيميائيين أمريكيين من «جامعة هارفارد» خلال الحرب العالمية الثانية، على رأسهم العالم «لويس فيزر»، حيث استخدم الأمريكيون «النابالم» بشكل كبير خلال حرب فيتنام.

وبعد 5 يونيو 1967، قامت قوات العدو الإسرائيلى بمد مواسير النابالم على طول قناة السويس عند إنشائها خط  بارليف، لردع أى قوات تحاول عبور القناة، فإذا اشتعلت، ارتفعت ألسنة اللهب على سطح الماء إلى نحو متر، وبدرجة حرارة تصل لـ 700 درجة، فتحرق القوارب والدبابات البرمائية، إضافة إلى الأضرار الأخرى التى تدمر الثروة السمكية فى قاع قناة السويس، وتلفح الأشخاص الذين يبعدون عنها مسافة200 متر. 

وتمت دراسة الأمر، وكان من بين الأفكار تدمير الأنابيب والمواسير من المستودعات نفسها، لكنها كانت مدفونة فى الرمال بشكل جيد، فاستقر الأمر فى النهاية على التعامل مع الفتحات التى تُخرج السائل إلى سطح القناة والبالغ عددها 360 فتحة قَبل محاولة تشغيلها. كانت الصهاريج الضخمة المعبأة بالمواد سريعة الاشتعال لها صمامات تتحكم فيها طلمبات ضخ «ماصة كابسة»، يخرج منها خط أنابيب بقُطر 6بوصات، وتنتهى بفتحات تحت سطح الماء على مسافات متقاربة فى جميع النقاط الصالحة للعبور.

وسعت الأجهزة المصرية لمعرفة تركيب هذه المادة عن طريق «رفعت الجمّال»، الذى أبلغ الجهاز عن هذه الصهاريج منذ بداية التفكير فى إنشائها،وتكتم الجانب المصرى على المعلومة حتى تأكدت صحتها، ثم كُلفت وحدات الاستطلاع بالمُضى قُدمًا فى التحقق من التفاصيل كاملة.

وطلب من «الجمّال» مخطط دقيق للإنشاءات وما تحتويه من سوائل ملتهبة، كما وصلت إلى القاهرة عبر عملية دقيقة عينة من السائل المستخدم فى الصهاريج. 

وواصلت الأجهزة المصرية دورها فى استغلال وتسخير كل معلومة أو خبر لخدمة الهدف الأكبر، وبدأت مصر إذاعة تفاصيل متتابعة عن فتحات «النابالم» التى تحول مياه القناة إلى جحيم مستعر، فأيقنت المخابرات الإسرائيلية أن تنفيذ الفكرة رُغْمَ التكاليف الباهظة قد وَلّدَ فى نفوس المصريين إحساسًا باستحالة عبور القناة.

 

 

 

وكان البطل المصرى (أحمد مأمون) برتبة رائد مهندس، قد توصّل إلى مادة تتجمد فى ماء القناة يمكن من خلالها سد فتحات النابالم وأعطاها سرّا إلى قائد القوات البحرية المصرية الذى أعطاها بدوره إلى «الرئيس السادات»، فأقرها وتم التكتم عليها.

قبل بداية الهجوم بـ 12 ساعة وفى جُنح الظلام، عبرت مجموعتان مدربتان من القوات المصرية القناة، فقامت الأولى بقطع خراطيم الطلمبات، ونجحت الثانية فى سد فتحات الأنابيب بلدائن خاصة سريعة الجفاف.

وكان الهدف تأمين العملية بشكل مطلق، حيث كان من المتوقع فى حالة اكتشاف العدو تخريب الطلمبات أن يحاول إصلاحها من دون أن يخطر بباله أن منافذ الإطلاق سُدت نهائيًا. نجحت الخطة المصرية نجاحًا باهرًا..وأذيع فيما بعد أن «موشيه ديان»، وزير الدفاع الإسرائيلى وبّخَ الجنرال «شموائيل جونين»،الذى كان قائدًا لجبهة سيناء توبيخًا شديدًا، بسبب فشله فى تشغيل أجهزة النابالم قائلا له: «إنك تستحق رصاصة فى رأسك». ولم يكن «ديان» يعرف أنه حتى لو قام الجنرال بإصلاح أجهزته، فجميع الفتحات المؤدية إلى القناة كانت مغلقة. 

تعد عملية سد مواسير «النابلم» واحدة من أكثر العمليات تعقيدًا فى خطة الحرب، وسُجل العديد من الشهادات والروايات حولها من «جيل أكتوبر»، التى تشيد بتلك العملية وتتحدث عنها بمنتهى الفخر، وتكشف أبعادًا أخرى يمكن من خلال الكشف عن بطولات جديدة. 4 حلول

قال المقاتل الفذ على أبوالحسن أحد أبطال «المجموعة 39 قتال»، الذى شارك فى44 عملية خلف خطوط العدو فى حرب الاستنزاف وحرب أكتوبر: يوم 5 أكتوبر 1973 جاءت لنا أوامر بالنزول إلى مياه القناة وسد فتحات أنابيب النابالم التى وضعها العدو تحت مياه القناة لإشعال سطح القناة فى حال محاولة المصريين العبور، وكان الاستطلاع قد أحضر خرائط توزيع فتحات المواسير، ونزلنا بالفعل إلى القناة وقمنا بسد فتحات الأنابيب بخلطة أسمنت سريعة التجمد فى الماء، وذلك فى المنطقة التى كنا نعمل فيها، وقامت وحدات أخرى من الجيش بسد باقى الفتحات فى مناطق أخرى، وكانت الأوامر فى هذا اليوم صارمة بعدم الاشتباك مع العدو حتى لو كان أمامنا ألف جندى إسرائيلى بإمكاننا قتلهم.

أما العقيد إدجار أوبلانس، وهو ضابط بريطانى وصحفى وباحث ومحاضر أكاديمى متخصص فى العلاقات الدولية والقضايا الدفاعية، فقال فى شهادته حول حرب أكتوبر المجيدة: إن الحلول غير التقليدية للتغلب على مشاكل العبور هى مفتاح النصر، وبالتحديد أربعة حلول لأربع مشاكل رئيسية، أولها حل مشكلة أنابيب النابالم، وحل مشكلة فتح الساتر الترابى التى فعلها المصريون بالمياه، ومشكلة تسلق الساتر الترابى الملغم بألغام وشراك خداعية التى تم حلها باستخدام سلالم الحبال، ومشكلة تحديد يوم الحرب وساعتها كانت مفاجأة للجميع.