الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
ميلان كونديرا وفنون الحياة

ميلان كونديرا وفنون الحياة

إنه ميلان كونديرا «1929 - 2023» الذى رُشِّحت رواياته دائمًا لنيل جائزة نوبل فى الآداب، لكنه لم يحصل عليها، لكن ترجمت رواياته للعديد من اللغات، وتعد روايته «كائن لا تُحتمل خفته» هى الأشهر إذ تحولت إلى فيلم سينمائى عالمى، وكذلك تحولت روايته «المزحة» إلى فيلم سينمائى أيضًا.



رقصة الوداع

ومن الأعمال الروائية التى حملت سمات أدبه روايته «رقصة الوداع» التى ترجمها محمد التهامى العمارى والتی صدرت عن المركز الثقافى العربى بالدار البيضاء بالمغرب، وهى رواية مهمة، لأنها تجلو لنا بعمق قضايا وجودية تشغل الإنسان حول الحب والأمومة، والوطن والغربة، وتثير قضايا عديدة جديرة بأن تكشف الأفكار العميقة لهذا الكاتب المبدع الذى عانى كثيرًا من الصعوبات فى حياته، فلقد تمرد على الشيوعية فى بلاده تشيكوسلوفاكيا، وفُصِل من الحزب الشيوعى، وواجه صعوبات فى إيجاد عمل له فهاجر إلى فرنسا عام 1975، وكتب بالفرنسية وحقق نجاحًا كبيرًا وخاصة بعد روايته «كائن لا تُحتمل خفته»، لكنه كان مضطرًا للمشاركة فى ندوات ولقاءات اضطرته لمهاجمة الشيوعية، توافقًا مع إقامته فى أوروبا، وما كان يريد أن يتحدث فى السياسة، لكنه كان قد هاجر ليشعر بالأمن والسلام الداخلى، نبغ فى الكتابة بالفرنسية، وفى روايته الخامسة «رقصة الوداع»، نرى أبطاله وهم يبحثون عن ذواتهم، عن الحب والانتماء والوطن، رغم كل ما يشعرون به من اغتراب، يرتحلون، يحاولون نسيان مهبط أفئدتهم، لكنهم لا يستطيعون، يعيشون وهم يحلمون بالإجابة عن أسئلة مُلغزة ومُحيرة.

 

 

 

حكاية روزينا

فنرى بطلة روايته «روزينا» تفقد حياتها لأنها تتطلع لمغادرة مدينة المياه المعدنية والاستشفاء ولا أمل لها لتحقيق ذلك إلا بالزواج من أوروبى يحمل جواز سفر للمغادرة، أما هى فلا تستطيع ذلك على أى نحو فحياتها تدور حول رعاية النساء فى المسبح وهن يسبحن فى عيون المياه المعدنية للاستشفاء أو الحلم بتحقيق الرغبة فى الإنجاب.

ورغم أنها أصبحت حبلى من عاشقها «فرانتشيك» فإنها تود أن تختار أبًا لابنها، حيث إن الأمومة مهمة مقدسة، وكذلك الأبوة فاختارت عازف البوق الموسيقى «كليما» الذی زار مدينتها مشاركًا فى حفل موسيقى، وتجمع بينهما نزوة طارئة، تستثمرها «روزينا» لكى تخرج من مدينتها القاسية التى لا تشعر فيها بإنسانيتها.

 

 

 

عاصفة الرحيل

ومن خلال الأحداث المتشابكة يكشف «كونديرا» عن معاناة أبطاله «جاكوب» الذى يريد أن يهاجر لأنه أيضًا لا يرى فى موطنه ما يستدعى أن يبقى، ونلمس هذه الحيرة التى تنتاب الإنسان فى علاقته بموطنه فتركز الرواية على مناقشة فكرة الانتماء، وتصف هذه العاصفة التى تجعل من حياة جاكوب ريشة لا يمكن التحكم بمصيرها، فها هو يصف يوم ارتحاله فيقول: «لما فكر فى أنه يجتاز هذا المكان للمرة الأخيرة بدت له المناظر الطبيعية عزيزة على قلبه، وغير عادية وخُيل إليه أنه لا يعرفها وأنها مختلفة عما كان يتخيل وأسف على ألا يكون بوسعه البقاء فيها لمدة أطول، لكنه سرعان ما قال فى نفسه إن تأجيل المغادرة ليوم أو لأيام لن يغيِّر شيئًا مما يشعر به من عذاب الآن، ولن يسمح له بمعرفة هذه الطبيعة أفضل مما يعرفها الآن وتقبل فكرة أنه سيغادرها من دون أن يعرفها، ومن دون أن يستنفد مظاهر جمالها وأنه سيغادرها دائنًا ومدينًا فى الآن نفسه».

لكن ما عاناه «جاكوب» فى موطنه قد عمق فى داخله معانى الاغتراب والقسوة، فلقد وشى به صاحبه للسلطات قائلا إنه عدو الثورة، وكان يريد أن يثبت أن مُثل الثورة عنده تعلو على الصداقة فأرسله صديقه إلى المقصلة، لكن بعد ستة أشهر نجا «جاكوب» ووجد الواشى نفسه فى حبل المشنقة، ومع ذلك فقد تبنى «جاكوب» ابنة الواشى «أولجا» التى كانت طفلة لأنه أشفق عليها كما رفض أن يعاقب الأطفال بسبب أخطاء آبائهم، وشخصية «جاكوب» هى أكثر الشخصيات إحساسًا بالتناقض والازدواج، فلقد أورثه الاضطهاد والقمع كراهية الآخرين، وقد تنوعت صياغات «كونديرا» السردية فى معالجة ورسم هذه الشخصية بالذات فقد ظهر كاتبنا مبدعًا تارة، وناقدًا تارة أخرى، ومقارنًا شخصية «جاكوب» بشخصية أخرى من تراث الأدب العالمى هى شخصية «راسكولينكوف» بطل رواية «الجريمة والعقاب» للكاتب الروسى دوستويفسكى «صدرت الرواية عام 1866»، ليقيم كونديرا حوارًا مع قارئه حول سلوك بطله وجريمته مقارنًا بسلوك بطل دوستويفسكى، مما أعطى للرواية أبعادًا مهمة فى الأدب المقارن فتخلل تحليل كونديرا ثنايا الرواية قاطعًا شريط الأحداث متصلا بشخصيات مؤثرة  فى الأدب العالمى، فلقد  تهاون «جاكوب» فى إنقاذ حياة «روزينا» الممرضة، تقاعس عندما كان لا بُد أن يتحرك، على الرغم من أنه كان السبب فى دفعها نحو النهاية، فقد كان يحتفظ بقرص دوائى بلون أزرق باهت لكنه عبارة عن سم، أعطاه له دكتور «سكريتا» حتى يمارس «جاكوب» حياته مطمئنًا إلى أنه يمكنه أن ينهيها فى أى لحظة، وتركت «روزينا» علبة دوائها وأقراصها زرقاء اللون الباهتة أيضا، حيث كان يجلس «جاكوب» الذى لاحظ الشبه بين قرصه وأقراصها، لكنها عندما جذبت علبة الدواء كان القرص القاتل فيها، مما يهدد حياتها بالخطر.. بل قضى عليها بالفعل، وهنا يناقش «كونديرا» دوافع «جاكوب» ويقارنه ببطل الجريمة والعقاب لدوستويفسكى «فراسكو لينكوف» الذی هيأ لجريمته ونسج خيوطها بعناية فى حين تصرف «جاكوب» بنزوة تلقائية فورية، لكنه يعلم أنه استعد لا شعوريًا طوال حياته لهذه الجريمة، وأن اللحظة التى ناول فيها السم لروزينا كانت بمثابة الهوة التى غارت فيها حياته السابقة، وكرهه لبنی البشر».

لم يقو بطل «الجريمة والعقاب» على مواجهة عاصفة الندم التى اجتاحته، بينما لم يشعر «جاكوب» ببذرة ندم رغم إيمانه الراسخ بأن ليس من حق الإنسان التضحية بروح غيره، لكن ولد العذاب من داخله عندما شعر بضآلة جريمته فتساءل عما إذا لم تكن هذه الضآلة أشد فظاعة من مشاعر البطل الروسى الرهيبة.

عشاق الحياة

وقفت «روزينا» لتدافع عن حياة طفلها رغم إجبار «كليما» عازف البوق لها للمثول أمام لجنة تقنين الإجهاض، لكنها كانت تشعر فى قرارة نفسها بأن حملها يشكل حدثًا عظيمًا أو بالأحرى صدفة من الصعب أن تتكرر، كانت كلاعب الشطرنج الذى نجح فى إيصال بيدق فى آخر صفوف الرقعة فصار ملكًا، كانت تتلذذ بفكرة سلطتها المباغتة والتى لا عهد لها بها».

تلك الفرصة التى جعلت الموسيقى الشهير يسعى إليها، فى محاولة لاستنقاذ زواجه من «كاميلا» التى لم تنجب والتی تعانى ميولا انتحارية لا يتناسب معها تطليقها من العازف ليتزوج «كليما» من «روزينا» بسبب طفلها القادم الذى زعمت أبوته له.

ويقف «كونديرا» فى روايته إلى جانب «الحق فى الحياة» فتتصاعد من مدينة المياه المعدنية الأصوات تحث على الحياة، وتحض النساء على عدم الإجهاض بشعارات مكتوبة مثل «ماما.. لماذا لا تريديننى؟.. ماما»، أو قصائد شعرية يتضرع فيها جنين لأمه لكى تتركه يعيش واعدًا إياها بآلاف الأفراح والمسرات: «فى أى حضن ستموتين يا أمى إذا لم تتركينى أعيش».

يمضى الروائى فى تجسيد عشق الحياة فى نفوس أبطاله فهاهو ر«د. سكريتا» ينصح عازف البوق بالإبقاء على طفل «روزينا» وينصحه بقبول الحياة بما هو لا متوقع فيها: «فأنت لا تعلم كيف سيكون الطفل فى المستقبل، وأى شىء سيمنحه لك؟ ولهذا السبب تحديدًا ينبغى أن ترحب بمقدمه وإلا فأنت تعيش نصف عيش، تعيش كمن لا يعرف العوم، ويتخبط فى الماء بقرب الشاطئ بالرغم من أن المحيط لا يكون محيطا إلا حيث يتهددنا الغرق».

 

 

 

مجال الجمال

لكن العازف لا يريد أن ينهار زواجه، ويحاول «برتليف» الثرى الأمريكى إقناعه بأن حبه المفرط لزوجته ليس معناه أن سائر النساء بلا قيمة، بل إن «برتليف» نفسه ينقذ «روزينا» من كل من تعرض لها بالأذى من الرجال فاحتفل بروزينا أمام الجميع قائلا: «أريد ونحن نشرب الأنخاب أن أعقد قران الماضى بالحاضر وأزوج شمس سنة 1922 بشمس هذه اللحظة، هذه الشمس هى «روزينا» الشابة البسيطة الملكة التى لا تعلم أنها ملكة، هى بالنسبة لهذه المدينة كجوهرة علی أسمال شحاذ، هى أشبه بهلال منسى فى سماء نهار شاحب، هى أشبه بفراشة ترفرف على سطح يكسوه الثلج».

ويرجع «برتليف» قسوة من أهانها إلى القبح الذى يسكنه فيقول: «إنها وسيلتك الوحيدة لتشعر لحظة بالمصالحة مع العالم، لأن العالم الذى هو مجال الجمال يخيفك ويؤذيك، يطردك خارج مركزه باستمرار، ما أقسى أن تجالس امرأة حسناء وأظافرك قذرة، لذلك أنت تشرع بتدنيس تلك المرأة قبل الاستمتاع بها، ألست محقًا يا سيدى؟ لقد سرنى أن تخفى يديك تحت المائدة».

وموقف «برتليف» من «روزينا» يؤكد تقدير «كونديرا» فی أدبه للمرأة وهو ما يتعارض مع ما كتبته «يوحنا سميث» فى كتابها: «كراهية النساء» إذ كتبت أن العداء للنساء هو الأبرز فى كل كتابات «كونديرا»، ودللت على ذلك بفقرات من كتابه: «كتاب الضحك والنسيان» كما ذكر نصر عبدالرحمن فى مقاله: «ميلان كونديرا الذى أخرج صرخة المنسيين إلى العلن» - مجلة الثقافة الجديدة / أغسطس 2023. أحبك

لقد كان الحب هو الطريق إلى شعور «روزينا» بإنسانيتها، فعندما قال لها «برتليف»: أحبك، اكتشفت كيف حلت الكلمة مثل معجزة مستعصية علی التفسير لأنها بدت حقيقية مثل «الأشياء البسيطة فى هذه الحياة تثيرنا من دون أن تكون فى حاجة إلى تفسير أو تبرير فهى تستمد مبرر وجودها من وجودها ذاته»، كما يقول «كونديرا».

استقبلت «روزينا» حب «برتليف» وكان جسدها كله يتبع بكامله حركة عينيه كما تتبع زهرة عباد الشمس، الشمس».

لقد استطاع «كونديرا» فى روايته «رقصة الوداع» أن يهدى أبطاله للحب واحترام حق الحياة، وحيث تأوى أفئدتهم إلى موطنها الأول يشعرون بالانتماء مهما عانوا من الاغتراب، وقسوة الرحيل عن الأوطان. إن هذه الرواية التى تدور أحداثها فى خمسة أيام ستبقى طويلا فى ذاكرة محبى «ميلان كونديرا» الذى خبر فن الرواية، كما عشق فن الحياة.