السبت 10 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

مقولات الرحيل

ريشة: سماح الشامى
ريشة: سماح الشامى

كنت أتأمل الوجوه الإفرنجية الشاحبة فى تجوالى بين الطرقات المتجمدة.. كان الطرف الآخر من الأرض نقيضا فى كل شيء تقريبا.. قالت تحت الأشعة الدافئة:



- سنكون يوما زوجين، ونتذكر تلك الأيام ونضحك عليها كثيرا.

ثم أردفت تحكى أحلامنا معا.. كنت أدرك تماما مشاعرى ناحيتها، فنحن نعيد قصص الحب التاريخية والخيالية، وربما دون كاتب ليتداولها الناس والعشاق، فالكلمات التى أنظمها فى حبها لا تقل عما قاله قيس فى ليلى وجميل فى بثينة وأبو نواس فى جنان وغيرهم من شعراء العرب الأفذاذ.. لكن ما قالته والدتها ليس شعرا فقد سألتني:

- والشقة؟!

وأشياء أخرى لا قبل بطالب فى الجامعة بها.. هززت رأسى حتى انتهى اللقاء.. بعد أن انقضت سنوات الجامعة، وأدركت عجز الأحاسيس عن تحقيق الأحلام الرومانسية.. ترددت على جهات العمل المختلفة، ولكننى لم أحقق شيئا.. سألت نفسى والآخرين:

كيف يحقق الأغنياء ثرواتهم؟ إذا كان العمل الجاد، فأنا أعمل ليل نهار.. إذا كان الذكاء، فالجميع يشهد أننى لست غبيا.. إذن، لا بد أن فى الأمر سرا!

بعد فشلى فى كشف السر.. قررت الرحيل، ولكن كان علّى أن أكمل أوراقي.. قال الموظف المختص: - ينقص أوراقك.. الختم.. الدمغة.. الرسوم، ثم هناك أوراق أخرى ناقصة.

أعددت حقيبتى وودعت عائلتي.. قال والدى: أريدك رجلا.. قالت والدتي: يكفينى أنت.. قلت: لا بد أن أرحل.. وكان الرحيل.

        ****

لم تعد فى قلبى إلا بقايا تخبرنى فى كل لحظة أننى كنت ساذجا.. فى شوق أنظر إلى صورتها التى لم أستطع أن أمزقها يوما، فاعلم أننى لم أنضج بعد.. أتمتم بعد أن أتذكر قصتنا معا: كل شىء قد انتهى فقد اختارت صديقك.. يمتلئ الكون بالفتيات وعليك أن تختار واحدة وأن تنسى وأن تعلم أنك غريب عنها وعن الوطن.

أرسلت إلىّ أمى خطابا وكتبت فيه: أن قلبها يتمزق لغيابى وغربتى عنها.. تعتقد والدتى أننى ما زلت طفلا صغيرا، هكذا قالت لى فى خطابها.. ابتسم لقولها، ولكن سرعان ما تدمع عيناى، فكم أتشوق إليها وإلى حضنها الكبير!

لم أعد أثق بالأصدقاء أو تجذبنى امرأة.. جعلت من قلبى سدا منيعا لا يخضع لمحاولات الاختراق المستمرة.. كانت مشاعرى غائبة فى الوطن.

*****

كانت حقيبتى ما زالت مغلقة، لكن عينى أدركت منذ الوهلة الأولى أننى قادم من دفء أزلى لقلوب متجمدة، فقلبها الجنوبى ما زال عالقا بكياني.. عندما اقتربت منها وجدت فى عينيها عتابا وغضبا وحبا ورقة جعلتنى أهيم فى خواطرى وأنا أسمع المذياع يشدو بأنغام «العندليب» بينما مع تلك الفتاة الغريبة، أجدنى عاجزا أن أخترق حدود المباح التى وضعته الجميلة.. أتذكر صورة الحبيبة.. أصنع منها تمثالا لقديسة ثم أعود فأحطمه.. تتناثر البقايا فى أرجاء القلب وتبقي.. أخطو نحو حقيبتي.. أغلقها ثانية ثم أتجه صوب الجنوب حيث أمى وبقاياها.