متحرِّرًا من كل شىء

مراد ناجح عزيز
لا يوجد أثر تاريخى يذكّرنى بلون بشْرته، متجوّلًا بين الأزقّة والشوارع، يتخطّف النظرات تجاه المارة هُنا وهُناك على مدار الدقيقة الواحدة، دون أن يبدى أى اهتماما بأحد، أو يحاول الحديث معه، وكأن لسان حاله يقول: لا بأس، الناس جميعاً سواء، نتّفق قليلاً أو نختلف، لا بأس، مرور الوقت كتوقّفه، صوت نقيق الضفادع كصوت الأغانى لا يثير فى نفسِه اشتياقا لحلم بعيد أو قريب، يمتلك جسدًا فارعًا فى الطول وبنيانا قويا فى ظاهره، يجلس منطويًا أغلب الوقت فى ركن بعيد، يستظل بتنْدة أحد المحال التجارية نهارًا، متحررًا من براثن عقل، لو أنه ظل يحمله دون أن تهاجمه طعنات حزن ربّما أو ربّما طعنات فقد أو ربّما...، احتمالات كثيرة، كان يمكن أن تقتاده خطواته يومًا لجريمة قتل أو قصّة حُب، كان يمكن أن يصبح زوجًا، وأبًا لأبناء، يجلس وقد أصابه وهن السنين، منفردًا يقرأ طالع الأيام فى جريدة، يبهره صوت أغنية، فيجاهر بترديدها على مرأى ومسمع من المارة دون خجل، نعم، هو الآن لا يحمل هموم يوم أرهقته، ولا هو يشعر بضيق من العالم حوله.
حركاته السريعة تجعله يمر كالطيف بين البشر، يتجوّل كعادته فى شوارع المدينة، وقد أطبق يديه يمناه ويسراه على جلبابه وقد انشق نصفين، محاولاً بعض الشىء ستر عورته، دون أن يتمكن كليّا من ذلك، نعم، هو الآن متحرر من أغطية مزيّفه قد تحمل بين طيّاتها ذئاب ووحوش مجرّدة من كل شىء، نظرات عطف قليلة، نظرات سخرية أقل، نظرات ضيق هى الأكثر، بينما كانت تتلقّى صدمة الرؤية بعض الفتيات، فيتوارين خلف بعضهن لبعض، أو جريًا من هول المفاجأة، يتمتمن بكلمات هى الأعنف والأكثر قسوة (سايبينه إزاى كده، هو ما لهوش ناس، مفيش حد يدّيله جلابية نضيفه..).
هزيلاً تركته صفعات الزمن، مثخن بجراح، يتوارى خلف غطاء من التجاهل واللامبالاة، الجميع منشغل بترطيب جَسده، إمّا باللجوء إلى محلّات العصائر أو مهرولًا يستجدى الوقت فى الوصل إلى منزله، يمنّى النفس باستكانة مُحارب خلف جهاز التكييف، بينما ظلّ صاحبنا يتصبّب عرقًا، لا يغادر موقعه، مدجّجًا بأسلحة أكثر فتكًا وإبادة، يختار كصيّاد فرائسه من بين ضعافها بعناية، نعم، يبدو انه وجد ضالته هُنا، دون أن يفكر لحظة واحدة، كيف وصل به الحال إلى هنا ؟ ولماذا ؟، ارتكز على ركبتيه، حدد هدفه بدقّة، اختار أفضل الزوايا، مصوّباً كاميرا هاتفه المحمول، فقط، كل ما يشغله إدارة موقعه الالكترونى، وعدد المشاهدات، متلذذًا بقتل ضحيّته كل يوم، يحمل بين فكّيه لسانا يقطر بكل معسول فقط، أو كما يقول المثل (حلو اللّسان قليل الإحْسان) .
عاد تدفّق المياه بعد انقطاع، فكثيرًا ما كانت لا تصل إلى الطابق الثالث، عاد شريط الذكريات، يركض كطفل إلى حيث أتى، إلى حيث رقد (بحبح) كما كنّا نناديه، متكوّما فى جلبابه الممزّق، بين أحجار ورمل، داخل أحد العمائر تحت الإنشاء، بينما أقف متأمّلًا لرجل عارٍ تمامًا من كل ملابسه، دون أن يحاول ستر عورته، ودون أن تترك الشمس على وجهه آثارا لتاريخ، مرّ بأقدامه، يحفر فى اللحم طرقًا لجيوش بؤس، تُحاصر أودية نهر، تشققت جفافًا من قسوة الأيّام .