السبت 10 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

لحظة سقوط

ريشة: سماح الشامى
ريشة: سماح الشامى

أتسلق الدرج إلى أعلى.. أحس بالتعب الشديد.. لا أدرى كم استغرقت للوصول إلى هنا.. أدلف إلى السطح.. ألقى نظرة.. لم يكن أحد هناك.. مجرد قطع من الأثاث القديم يتناثر فى الزوايا..أتجه إلى الحافة.. أرقب الصورة بالأسفل حيث السيارات كانت تعدو مسرعة على الطريق الأسفلتى والمارة يبدون كقطع الشطرنج يتحركون بخطة غير واضحة المعالم بالنسبة لى..أحس بالدوار والخوف، فأنا مصاب برهاب الأماكن العالية.. أستند على السور أحسه يتهاوى..لم أستطع أن أتماسك.. أسقط مترنحًا إلى أسفل.. أصرخ، ولكن صوتى يأبى أن يخرج، وقبل أن أصطدم بأرضية الشارع، أفتح عينىّ ناهضًا، ونبضات قلبى تتسارع.. أدرك أننى عشت كابوسًا آخر.. أحمد الله أننى ما زلت قابعًا على سريرى فى غرفتى الصغيرة الفوضوية.. أشعر ببعض الدوار وكأن هناك رابطًا خفيًا يجمع بين الأحلام والواقع.



منذ أن عدت إلى الوطن من بلاد الغرب بعد أن أكملت دراستى للدكتوراه فى إدارة الأعمال، والتى حصلت عليها بمنحة تفوق، وأنا أبحث عن عمل يليق بشهادتى الجديدة.. كانت لى آمال عريضة، ولكنها تبخرت بعد مرور شهور، وفشلى فى الحصول على ذلك العمل.. كنت على وشك العمل كمندوب مبيعات بسيط براتب وعمولة حتى أوفر لقمة العيش حين تلقيت مكالمة من إحدى الشركات تخبرنى بميعاد مقابلة عمل.. لم أكن متفائلاً، فقد خضت فى الفترة الأخيرة الكثير من المقابلات، والتى انتهت جميعها بالفشل، ومع ذلك كان علىَّ أن أذهب، فربما تكون تلك الفرصة الأخيرة للحصول على وظيفة مناسبة، رغم أن تلك الشركة كانت تبدو غامضة بعض الشىء بالنسبة لى، فلا أجد معلومات كافية عنها على صفحات الإنترنت.. فقط اسمها ويدعى «أس أر» وبأسفله شعار غامض يقول: «نحن معك لتكتشف المجهول» وقد عثرت على إعلان لها صدفة على أحد مواقع التواصل الاجتماعى.. تعلن فيه عن وظيفة شاغرة لشخص يحمل مؤهلاً متقدمًا فى إدارة الأعمال، ولكن ليس هناك فى الإعلان ما يدل على نشاط الشركة أو ما تقوم به.

كان علىَّ الاستعداد للمقابلة، وقد قمت بذلك على أكمل وجه.. ارتديت البدلة الوحيدة التى أمتلكها، وعدلت من رباط العنق، وتأكدت من لمعة الحذاء.. حملت كل ما أمتلكه من شهادات حصلت عليها، وتجنبت ركوب الباص، حيث استقللت سيارة أجرة حتى لا أفسد أناقتى، ثم توجهت مباشرة إلى الشركة.

قادنى موظف الأمن إلى الطابق الثانى، حيث أدخلنى غرفة كتب عليها من الخارج بخط واضح «المدير التنفيذى».. استقبلتنى سيدة شقراء تبدو فى الأربعين من عمرها، وتحمل قسمات رقيقة مع عينين زرقاوين..استطاعت بملامحها الجميلة وأناقتها الواضحة أن تأسرنى تمامًا، فأحسست بأنى نسيت كل ما أعددته من إجابات للأسئلة المحتملة فى مثل تلك المقابلات.. أدركت بأننى سوف أفقد الوظيفة، فجلست منتظرًا أن ينتهى كل ذلك بسرعة.. لاحظت السيدة ارتباكى الواضح فبادرتنى بالحديث:

• أرى أنك تحمل مؤهلات كافية لشغل الوظيفة، وأعتبر أن تلك المقابلة للتعارف.

بث كلامها الأمل فى نفسى، فزالت الرهبة التى كانت قد امتلكتنى فى البداية، ومع ذلك لم أستطع الرد إلا بابتسامة صغيرة، فواصلت هى الحديث:

• أعرفك بنفسى.. أنا «سلوى رمزى» صاحبة الشركة، أما هذا المكتب فسوف يكون لك إذا حصلت على الوظيفة.

بدا الأمر واضحًا الآن فاسم الشركة هو اختصار للحروف الأولى لصاحبتها، ولكن لماذا تدير هى المقابلة بنفسها؟.. نظرت إلىَّ نظرة فاحصة، وكأنها تقرأ أفكارى، ورغم رقة ملامحها كانت نظرتها حادة تخترق العقل والقلب معًا.. قاومت تأثيرها القوى علىَّ وبدأت أبادلها الحوار:

• كنت أود يا سيدتى لو سمحت لى أن أسأل عن طبيعة عملى ونشاط الشركة أيضًا.

• انظر!..نحن متفردون بل نحن الشركة الوحيدة هنا التى تقوم بإدارة هذا العمل وهو اكتشاف الفضاء.

تعجبت كثيرًا، فأنا لم أسمع يومًا أحدًا يتحدث عن اكتشاف الفضاء فى بلادنا.. لاحظت هى اندهاشى الشديد، ولكنها تابعت الحديث قائلة:

• نعم.. اكتشاف الفضاء، فلدينا مناظير حديثة وضخمة جدًا تم استيرادها من الغرب، ويمكنها تصوير الفضاء بدقة عالية، والوصول إلى صور لم يقرأ أحد حتى عنها فى الكتب، ولكن الأهم هى أنه لدينا غرف مزودة بأجهزة خاصة للواقع الافتراضى يتم توصيلها بجسم الإنسان، فكأنه حرفيًا انتقل للفضاء.. إنها تكنولوجيا حديثة جدًا ومكلفة، ولذلك تلك الرحلات الافتراضية باهظة الثمن أيضًا.

• ومن هم المستهدفون من هذا المشروع؟

• عملاؤنا ينقسمون إلى نوعين: الأول هم الباحثون، والثانى هم الأغنياء الذين يبحثون عن المتعة، وقضاء بعض الوقت خارج حدود الأرض.

دارت المقابلة لمدة ساعة كاملة بيننا كنت قد تخلصت خلالها من حالة الارتباك، وبدأت أعرض عليها رؤيتى لتسويق وتطوير هذا المشروع الفريد من نوعه، وانتهى اللقاء بيننا بمصافحة قوية من طرفها تخبرنى بعدها بأننى حصلت على الوظيفة المعنية، وهكذا أصبحت مديرًا تنفيذيًا لشركة تنقل البشر من عالمهم إلى عالم آخر لم أكن أدرى حقًا ما هى حدوده؟ وإلى أين يمكنه أن يقودنى!

كان العمل مزدهرًا على عكس ما توقعت، مما جعلنى منصرفًا طوال الوقت بإجراء الحجوزات ووضع الجداول ومتابعة التنفيذ، والذى يستمر يوميًا من الصباح وحتى الخامسة مساء، فتعودت فى نهاية اليوم على أخذ قسط من الاسترخاء فى غرفة الكون الافتراضى ..كان عقلى يبدو مزدحمًا بكثير من الأرقام والبيانات التى تتداخل وتتراكم عبر الساعات، فتبدو مثل قطار سريع يتجول داخل الدماغ محدثًا صداعًا لا ينتهى.. أصبحت تلك الغرفة هى الملجأ الوحيد للخروج من تلك الحالة حتى صرت مدمنًا عليها، ولكن الغريب أننى أحسست بمرور الوقت بأن الحاجز بين ما أراه والواقع بدأ يتلاشى، فأشعر بانعدام الوزن وأنا أسير فى الطريق حتى أكاد أن أفقد السيطرة على أعضاء جسدى، فيتطاير ذراعى فى الهواء أحيانًا، وترتفع قدمى عن الأرض فأسقط فى أحيانًا أخرى، لكن هذا لم يثننى عن الذهاب إلى تلك الغرفة يوميًا بعد انقضاء العمل.

مرت ثلاثة أشهر لم أحصل فيهما على إجازة ولو ليوم واحد.. كان المرتب مجزيًا جدًا، ولكن لم يكن هناك إجازة أسبوعية حتى بت مستهلكًا تمامًا، لذلك قررت اليوم أن يكون غدا إجازة لى.. كتبت الطلب، ومضيت إلى السيدة الجميلة صاحبة العمل.. نظرت إلىَّ نظرتها الحادة عندما قرأت ما فى الورقة، فرأت فى وجهى تصميمًا شديدًا.. لم تجد هناك بدًا من الموافقة.. أمسكت بالطلب فرحًا مثل طفل صغير.. خرجت من مكتبها نزقًا متهللاً فبدوت كأحمق أمام الموظفين.. تجاهلت الجميع، وانتظرت حتى انتهى اليوم وعرجت على غرفة الكون الافتراضى لأتجرع حصتى من الخيال والمغامرة، ثم غادرت مبنى الشركة لأستمتع بإجازتى منذ الآن.

أعددت وجبة شهية، والتهمتها، ثم أحضرت طبقا من المكسرات غالية الثمن..وضعته أمامى وأنا أستلقى على الأريكة أمام التلفاز.. ظللت أقلب فى القنوات، فقد قررت أن أقضى ليلتى كسولاً ومسترخيًا..وجدت فيلمًا هزليًا.. ظللت أضحك على كل كلمة تقال، وكأننى عطش للمرح.. قاومت النعاس الذى بدأ يتسلل إلى أجفانى، ولكنى فى النهاية تركت نفسى أغط فى النوم على الأريكة.. وجدتنى وقد انتقلت بكامل جسدى إلى الفضاء.. أتنقل بين النجوم والكواكب حتى لاحظت كوكبًا برتقاليًا لامعًا بالأعلى.. كان مبهرًا فاتجهت إليه.. مددت يدى لألمسه وأغوص فيه.. قبضت يدى على الهواء وارتج جسدى.. فتحت عيناى لأجد نفسى على سور السطح أعلى منزلنا، وأسفل منى يوجد الطريق الأسفلتى المزدحم.. ظل جسدى يترنح، ولكنه فى النهاية سقط متهاويًا إلى أسفل.. اصطدم بالطريق.. انتظرت أن أنهض لأجد نفسى على السرير، ولكننى نظرت فوجدتها أمامى تنظر إلى بعينين زرقاوين.. مددت يدى لأنزع أجهزة الواقع الافتراضى فرأيتها تخاطبنى قائلة: نحن نراقب كل شىء.