الخميس 2 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

حكايات قبرصية من «التكية»

التكية من الخلف
التكية من الخلف

(نعبر بك بين المكان والزمان.. وبين المدن والميادين.. نستنطق الأحجار ونطرق الأبواب.. ونقرع الأجراس.. لنخرج لك خبايا وحكايات الأبنية والصروح.. بنايات وحكايات)..



فى لارناكا القبرصية وعلى بُعد عدة خطوات من حارة ليفاديوتيس وبمحازاة البحر.. ترى قبه كبيرة تزين مبنى مضلعًا قديمًا وحولها مجموعة من شواهد القبور المنقوشة بالخط العثمانى.

الشارع نفسه على امتداده اسمه شارع أم حرام (أو كما هو مكتوب بالحروف اليونانية أم الحرام) ومنه شارع الوالى.. المبنى له طابع خاص وعتيق ومميز ويُعرف بـ تكية هالا سلطان.

لعل النسبة الأكبر من البنايات التاريخية فى العالم بنيت على أسُس عقائدية؛ بل ربما أشهرها ينطوى على هذه الفكرة، ومن هنا تتجلى إبداعات المعمارى فى الربط بين الفكرة الدينية أو الحكاية التاريخية وبين الطراز المعمارى مَهما كانت مفرداته وزخارفه.

لكن المعمارى أيضًا لا يستطيع تجاهل القيمة الوظيفية فى البناية، ترى هل يمكن استخلاص هذه الفكرة من العمارة الإسلامية التى بنيت خارج نطاق التجمعات العربية؟

بالفعل؛ فإن هذه البنايات تجسّد هذه الفكرة بجلاء، لذا سوف تخبرنا اليوم تكية هالا سلطان القبرصية عن تلك الخطوط المعمارية المرتبطة بحكاية دينية وقيمة وظيفية.. فتعالوا نستمع إلى قصة تكية هالا سلطان بالعاصمة القبرصية لارناكا.

 

 

 

تُعتبر تكية هالا سلطان من الآثار الإسلامية التى تعبر عن وصول الفن الإسلامى نتيجة للفتوحات إلى كل أراضى المعمورة؛ وبخاصة تلك الأراضى التى كانت تحت الحُكم البيزنطى، وحيث كانت جزيرة قبرص بعد احتلال الرومان الغربيين لها واقتطاعها من حوزة المملكة المصرية البطلمية ثم بعد ذلك استقرارها فى يد البيزنطيين.

هكذا ظلت قبرص تحت الحُكم البيزنطى قرونًا عديدة؛ لكن فى العصور الأولى للإسلام وتحديدًا عام 28 هجرية أى 649 ميلادية حدث عصر تحول كبير فى جزيرة قبرص تمخضت عنه فيما بعد تلك الدرة المعمارية والمسماة تكية هالا سلطان. 

عام 29 هجريًا وبإذن من الخليفة عثمان بن عفان خرج معاوية بن أبى سفيان بجيش كبير لفتح قبرص وهناك حاصر مدينة لارناكا حصارًا استمر مدة طويلة مما جعل حاكم لارنكا يرضى بالاستسلام وقبول الجزية.

وكان من بين المصاحبين للحملة الصحابى الجليل عبادة بن الصامت فى صحبة زوجته الصحابية أم حرام بنت ملحان، وهى عمّة الصحابى أنس بن مالك وكانت فى سن كبيرة.

وأم حرام لها حكاية غريبة مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقيل إنها كانت ترعى رسول الله فروى لها عن أناس من أمّته يخرجون غزوًا فى البحر فقالت لرسول الله ادعو لى يا رسول الله أن أكون منهم، فدعا لها كما طلبت... والحديث مذكور بنصه فى مصادر كثيرة.

وقيل إنها أثناء حصار لارنكا قد سقطت من على دابتها وتوفيت، وقيل إنها دفنت فى نفس الموقع. هذا هو الحدث التاريخى الذى يُعزز بناء تكية هالا سلطان ولكن كيف؟ 

خلال الإدارة العثمانية لقبرص، تم بناء مسجد ومبنى على مراحل حول الضريح.

تم اكتشاف القبر فى القرن الثامن عشر من قِبَل رجل دين اسمه الشيخ حسن، والذى بنى أيضًا أول مبنى فى الموقع.

نجح الشيخ حسن فى إقناع السلطات الإدارية والدينية بالطبيعة المقدسة للموقع واستطاع الحصول على إذن، قام بمقتضاه ببناء الضريح فى عام 1760 وزيّنه.

كان المكان محاطا بأسوار خشبية لكن بأمر من سيد الحق محمد آغا حاكم قبرص العثمانى فى القرن التاسع عشر، استبدلت الأسوار الخشبية بأسوار من البرونز وبابين تم انشاؤهما فى عهد خليفته عاصم على آغا.

يقول الرحالة الإيطالى جيوفانى ماريتى، الذى زار قبرص بين 1760-1767، إن المسجد ملحق بناء مخصص لضيافة الأغراب وعابرى السبيل بناه حاكم قبرص الذى أسماه على آغا. وطبقًا لماريتى، فقد استخدموا حتى عام 1760 حجارة كنيسة قائمة فى قرية مدمرة قريبة كمواد بناء.

 

 

 

وفى مصدر آخر، يذكر أن بناء المسجد بدأ من قِبَل حاكم قبرص سيد محمد أمين أفندى على الطراز العثمانى الكلاسيكى والذى هو فى الأساس الطراز الرومانى الشرقى للبازليك أو ما يعرف بالطراز البيزنطى، واكتمل فى نوفمبر 1817.

فوق بوابة الدخول إلى حديقة التكية نقش عثمانى مؤرخ فى مارس 1813. يظهر حرف واحد فقط للسلطان محمود الثانى على كلا جانبى النقش ويقرأ: «تكية هالا سلطان بناها حاكم قبرص العثمانى العظيم المحبوب من الله».

أنشئت الحديقة على يد باشا من البشوات وأصبحت تُعرف باسم «حديقة الباشا». كما عُرِف مجمع المبانى المتاخمة للتكية باسم «جولشين فايز» (ومعناها حديقة الورود ذات الوفرة).

وإلى اليسار من المدخل كان هناك دار ضيافة للرجال. على الجانب الأيمن من المدخل، كان هناك بيت ضيافة آخر مخصص للسيدات؛ حيث تم تخصيص مبنى واحد للرجال (سلاملك) والآخر للنساء (حريمليك) كما هى العادة فى المبانى الشرقية.

كان من المعتاد أن يأتى الزوار خصيصًا لخدمة تكية هالا سلطان إذا تحققت رغباتهم فيما يُعرف بطقس الوفاء بالنذور. مسجد وتكية هالا سلطان مربع الشكل وفوقه قبة على الطراز العثمانى وبه شرفة ومبنى من كتل حجرية صفراء. ومأذنة مدببة على الطراز العثمانى ولقد أعيد ترميم المئذنة عام 1959.

ويقع قبر الصحابية أم حرام خلف جدار المسجد وعثر على نقش آخر عام 1760. بجانبها، توجد 4 مقابر أخرى، اثنان منها لشيوخ سابقين.

القبر المهم الآخر هو تابوت رخامى ذات مستويين، يحمل تاريخ 12 يوليو 1929. ينتمى القبر إلى أديل حسين على، زوجة الحسين بن على، شريف مكة وسليل البيت الهاشمى، ومدفون أيضًا الوزير العثمانى الكبير خوجة مصطفى رشيد باشا وهو من الأشراف. وفى الزاوية الشرقية للمسجد والتكية تقع مقبرة أخرى تعود لعام 1899. ودفن فيها عدد من المسئولين الأتراك السابقين.

مقابل المسجد، هناك نافورة مثمنة الأضلاع، تم بناؤها عام 1797 من قِبَل حاكم قبرص آنذاك سيلاهتار كابتنباشى مصطفى آغا. ومعلومات البناء مسجلة على النقش الرخامى الموجود على النافورة. ونقش آخر مؤرخ عام 1895، تم اكتشافه مؤخرًا فى حديقة التكية كتب فيه إن البنية التحتية لجلب المياه قد تم بناؤها بناءً على تعليمات السلطان عبدالحميد الثانى.

فى حين تم الاعتراف بالمسجد كموقع مقدس للمسلمين القبارصة الأتراك، وصفت المصادر المعاصرة المسجد أيضًا بأنه موقر من قِبَل جميع المسلمين.

فى تقييم للأصول البيئية والثقافية لقبرص، وصف البروفيسور جورج إى بوين، أحد كبار الباحثين فى برنامج فولبرايت بجامعة تينيسى، تكية هالا سلطان بالمكان الذى يحترمه كل المسلمين فى العالم. ونتيجة لوجود الموقع فى القطاع اليونانى غير المسلم من الجزيرة المقسمة؛ فإن الزيارات إلى الموقع نادرة.

 

 

 

لكن إدارة مصلحة الآثار فى قبرص لا تمنع أعمال الصيانة والترميم فى تكية هالا سلطان؛ بل إنها أيضًا ترحب بالزائرين للموقع الأثرى والتاريخى، ومن الناحية القانونية كانت التكية تابعة إداريًا لوزراة الأوقاف المصرية حتى استقلال قبرص والتى لم تمانع أن تظل إداريًا تحت هذا الوضع لكنها بالطبع أصبحت تخص مصلحة الآثار القبرصية، ولعظمة التكية كانت السفن التى ترفع العَلم العثمانى تعلق أعلامها على نصف الصارى عندما تكون قبالة شواطئ لارنكا، وتحيى تكية هالا سلطان بطلقات المدفعية.