الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
سـرب الحمــام وأمـــان العـــارف

قراءة فى مجموعة فى منتصف الفراغ

سـرب الحمــام وأمـــان العـــارف

أبطال قصصها يبحثون عن ذواتهم فى نسيج متشابك ومتصل بحيوات الآخرين يتفاعلون مع تأملاتهم لتفاصيل الحياة اليومية فيختارون مصائرهم بأنفسهم ولايستسلمون أبداً.



فى مجموعتها القصصية الأولى «فى منتصف الفراغ» تقترب شيماء ياسر من عوالم أبطالها فتسلط الضوء على أحلامهم، وخيالاتهم وتطلعنا على الأحداث التى شكلت وعيهم، ومصائرهم.

 

«فى منتصف الفراغ» الصادرة حديثًا عن دار روافد للنشر والتوزيع، مجموعة قصصية ذات طابع خاص تُعنى بالحوار مع الطبيعة فأبطالها يتوحدون أحياناً مع ما يرون من كائنات، ويتمردون على ما رُسم لهم من مسارات، ويفكرون فى عوالم الورد والطير فيستلهمون لحظاتهم الفريدة التى قد تغيّر مصائرهم.

سرب حمام

فى قصتها «عودة» تتمرد البطلة على قدر سرب الحمام، تُقسم ألا تعود لصاحبها، ثائرة على ألفة لم تجلب لها السعادة، وعلى يقين زائف بعلاقة مستقرة وآمنة مهما اعتراها من خوف وشك وترقب، فتقول الساردة على لسان بطلتها: «قالت له مرة إنها إن قررت الغياب فلن تعود، إنها ليست كسرب الحمام، يُطلقه بأمان العارف موعد العودة، فليصفّر كما يشاء، وليفرغ الإناء المعدنى الفارغ كما يحب، وليظل يؤرجح رايته البيضاء يمنة ويسرة كلما استطاع لكنها لن تعود».

ووسط ذهول زوجها الذى تزعزع يقينه بعدما قالت، ترصد الساردة رد فعله فتربط بين قدر سرب الحمام العائد، وتمرد بطلتها التى تشبه زرقاء اليمامة فهى تستشرف مستقبل هذه العلاقة وتتوق لحياة أخرى رافضة ما يرسمه لها الزوج من مصائر لها ولسرب الحمام.

يود لو أن يُقبّل يد القدر الآن لكى يعود سرب الحمام، نوى فى قلبه لو أنه عاد فلسوف يُطعم عشرة مساكين ستكون مصيبة ألا يعود سرب الحمام، هل يبلغ نكران الجميل كل هذا الحد؟، بعد كل هذا الحب الذى وهبه لها فى كل لفتة عين، هل يُعقل ألا تعود.

وهنا يبدو ما يتصوَّره صاحبها من تماهيها مع سرب حمامه، يظنها ملك يديه وأنه يملكها فتنتقل المشابهة فى خياله للمقارنة بينها وبين سرب الحمام الذى يستعيده بصفيره ورايته البيضاء فيساءل نفسه:

«هل يُعقل ألا تعود؟، وكأن عدم عودتها هى لحظة من جنون.

ثم تعطى الساردة بعدا عميقا لقصتها عندما تجعل بطلتها ترصد من مكانها لحظات جنون وخوف فى برج حمام تتطلع أسراب إلى الحرية، وأن عمق هذا الإحساس بالانعتاق والتحليق بلا قيود مشاعر تملكها الطيور كما يملكها البشر، ضاربة بجذورها فى أعماق السنين، والفرار من الأسرار والظلم هو طابع فطرى فتراها فى مشهد دال له بعده الزمنى تقول: «تركته أنا من مكانى هذا، مستندة إلى أحد أعمدة معبد يونانى قديم قائم فى مسجد القاضى زين الدين يحيى الذى لم يكن قاضياً، ولم يكن زينا للدين، أتابع لحظات جنون وخوف فى برج حمام من فتحة فى جدار يبلغ من العمر مائة إلا عشرين عاما».

والإشارة إلى زين الدين يحيى إشارة إلى محتسب تعسف فى ممارسة سلطاته كمحتسب فى زمن المماليك الجراكسة فاستولى على أموال الناس بطرق غير مشروعة ومذمومة.

 

 

 

وكأن الساردة تشير إلى تعسف الزوج صاحب سرب الحمام ضد زوجته، وتؤكد أن ميراثها من الحرية ضارب بعمقه فى الزمن.

وقد أشارت فى قصتها إلى مسجد زين الدين يحيى ومن المعروف أن الجامع والمدرسة الزيتية أنشأهما زين الدين يحيى عام 848هـ أى منذ خمسمائة وسبع وتسعين عاما، ويقع الجامع والمدرسة عند تقاطع شارع الأزهر بشارع بورسعيد.

الحرية والأمان

وتأتى قصتها «على فوهة بندقية» لتبرع الساردة فى عقد التشابه بين عالم أطفال أبرياء يتطلعون إلى العدل فى عالم الكبار، وعصافير فى قفصها تترقب البراح، وفى الوقت نفسه تبحث عن الشعور بالأمان من خلال قصة طفلة صغيرة ترى أبويها يحاولان حجب الإرث عن أرملة العم وطفليها «شادى»، و«سعاد»، فلن يظهرا إلا ما يريدان الإعلان عنه من حجم الثروة، وشهدت الطفلة ذلك وسط إشارات تحذيرية من أبويها حتى لا تخبر الطفلين بذلك، وتربط الساردة قصة الأرملة وطفليها بقصة العصافير الثلاثة سجينة القفص التى تملكهم الطفلة بطلة القصة فتقول: «دخلنا رحلة بحث مشترك عن حل يعطى العصافير حقها فى التحليق بحرية وأمان، وصلنا إلى السؤال الأهم:

مما يخاف العصفور؟ إحساس مشترك باغتنا أن شيئا خاطئا يتحرك فينا للمرة الأولى، لماذا قد نتسبب لها فى الخوف؟ إن كنا نخاف عليها الحزن، أليس من الأولى ألا نرهبها؟ هل نحن صادقان إذن فى رغبتنا بمنع الحزن عنها؟ ما المتعة أن نرى هذه الكائنات الجميلة القوية بأسلوبها الخاص، وراء قضبان، صغرت أم كبرت؟ اتهم بعضنا بعضا بالبشر، تلك الصفة التى سمعناها كثيرا فى قصص المدرسة «الذئب الشرير».

ثم تنتقل القصة إلى تطور جديد يدل على نمو الوعى، وانتقال الفكرة إلى مرحلة التنفيذ من خلال طرح فكرة العدل على الكبار فتقول الساردة: «قررنا طرح أسئلتنا على مجتمع الكبار المنعقد فى الداخل، وكنت قد تناسيت قليلا ما شهدت عليه، وتلك النظرات التحذيرية، تسابقنا فى الدخول وطرح الأسئلة».

لكن المفارقة أن عالم الكبار لم يكن منصفًا وتصف الساردة المشهد فتقول: «أوقفتنا أمى لأن الوقت غير مناسب، رأينا أوراقًا كثيرة على الطاولة المستديرة التى أعدت أمى ما لذ وطاب وعبأ رائحته المكان لتناوله عليها بعد أن يفرغ صاحب القفص وأبى وطنط «جميلة» من توقيع أوراق مهمة تخص ثروة عمو جمال، بجانب الأوراق كانت توجد بندقية شادى».

وفى هذه الإشارة إلى إمكانية حدوث العنف بسبب الظلم وغياب العدل تبرز القصة حكمتها وتعطى دلالاتها التحذيرية من مغبة الظلم.

موسم الفراولة

أما قصتها «صندوق الفراولة» فتبرز فيها الساردة قدرتها على الحوار واستخدام تقنيات سرد المذكرات واليوميات لترصد قصة حياة «سيدة» التى تؤرخ بطريقتها إلى حياتها، بينما تؤرخ د. زبيدة الحلوانى لقصة «سيدة» بطريقة أخرى، عذوبة «سيدة» وهى تحكى سقصة زواجها، خيالاتها، وأحلامها، عاطفتها الغامرة تجاه الزوج الراحل، وتجاه أخيها حسن، لكن د. زبيدة تكشف عن ذلك الفاصل بين الخيالى والواقعى فى حياة «سيدة» تنجذب تارة إلى حكيها، وتنجذب تارة أخرى إلى سرد زبيدة، وفيما بينهما تتجلى فرادة التناول والمعالجة الفنية.

تقول «سيدة»: «اتأخر بلوغى عن بنات البلد، ولما بلغت جعلوا زفافى مع قطف محصول الفراولة اتجوزت بنت 18، تاجر جمال، كان ابن عز».

وحده عالم الحى من الميت، عافر ليروح مع كسوة الكعبة فى آخر المحمل، وكانت المراوحة لاجه, ولا راحت الكسوة تانى من هنا».

ثم تحكى عن أبنائها: «تلات بطون، الكبير اتدروش وراح زى أبوه فى أرض الله، واللى بعده ما لقاش له مأوى إلا القرش راح يدور عليه، والبنت ماتت لما اتكتب عليها الكتاب».

كانت أحلام «سيدة» هى التى تتحدث، الحلم بوجود أبناء لكنها لم تنجب، أخوها ليس «محسن» لكنه ابن زوجها الذى تعاطف معها، ووهب لها الدكان لترتزق منه فاعتبرته بمثابة أخ لها.

وقر فى وعيها إنسانيته وأخوته، نكتشف ذلك كله من أوراق ومذكرات د. زبيدة حيث يكشف المشهد الأخير فى القصة عن اللحظة التى انتهت فيها حياة «سيدة» هل استشعرت أن «محسن» قادم ليأخذ منها الدكان لضيق ذات يده، والضائقة المالية التى يمر بها، افتقدت أخوته وإنسانيته فداهمتها النهاية أم أنها لم تعلم كل ذلك، لكنها كانت تتوج حياتها كما بدأتها فى موسم حصاد الفراولة، فتقول الساردة على لسان  د. زبيدة: «لقيت بابها موارب، سميت وناديت محدش رد، كانت ريحة الفراولة معبقة الشقة، لسه بعيد الندا، النور جه، وقلبى طب على ترابيزة صغيرة لقيت صندوق فراولة مفتوح، دخلت الأوضة لقيتها نايمة، ووشها منوَّر، عرفت أنها سلمت الروح - بس ده مش موسم فراولة - تضحك زبيدة: ولا أعرف ما تسأليش - هو ده صندوق الفراولة اللى بييجى لنا كل سنة؟!

تبتسم زبيدة: الظاهر كده».

أحلام امرأة وحيدة

وتأتى قصة «فى منتصف الفراغ» عنوان المجموعة لتحكى قصة امرأة تحاول إيجاد حلول لوحدتها، تتلصص على أحلامها، تغالب القلق والتوتر وهى تحاول النوم وحيدة فى فراشها.

فتقول بطلتها: «أحرص أن أكون على بعد متساوٍ من كلا طرفيه، الأيمن والأيسر، وجدته العلاج الأمثل لتلك الوحشة التى تلازمنى إذا ما التزمت أحد الجانبين، فأجد الآخر فى انتظار دائم أن يشغل بغيرى، من كان يحتل مساحته بفراغه اللعين، ذلك الفراغ الذى يتحول إلى مساحة مضاعفة من الوحشة كلما أحسست بها انزويت أكثر إلى الحافة، وكأنى أحرص ألا أسرق من مساحة تلك الوحشة فى ذلك الفراغ أى قليل».

وتتداعى ذاكرة البطلة، وأحلامها فتتحدث عن حياتها «فى منتصف الفراغ» قائلة: «جاءتنى الفكرة من أفلام زمنى، ليلى مراد فى «غزل البنات» مثلاً، عندما تكون البطلة الحسناء فى المنتصف دائمًا، لن تكون ثمة مساحة تشكو الفراغ أو يمكنها أن تستقبل أحدًا، كلا الجانبين أصغر من أن يشغلهما جسد ما».

شيماء ياسر فى تلك المجموعة القصصية تقدم لنا حكايات نابضة بالحياة ونماذج إنسانية فريدة تتأمل حيواتها وتبوح بحكمتها.