الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
 جَمَـل رايـح.. وجَمَـل جـاى!

من فات قديمه تاه 1

 جَمَـل رايـح.. وجَمَـل جـاى!

«للمدن روائح.. وكل مدينة لا تُعرفُ من رائحتها لا يُعوَّل على ذكراها. فروائح المدن تضفى عليها شخصيتها المميزة وتحمل معها قصصًا عن شوارعها وأزقتها ومبانيها وبيوتها لتحدثنا عن ثقافتها وتاريخها وجوانب مختلفة من حركتها التجارية …..» الكلمات للشاعر الفلسطينى محمود درويش، أما الفيلسوف الألمانى جيرنو بوهمى فمن رأيه أن «المدينة من دون رائحة هى كالإنسان بدون شخصية».



 

والمكان لا يكتسب سحره وقدسيته من  جماله الطبيعى والجغرافى؛ بل من أناسه الذين صنعوا به ذكرياتهم وغزلوها بالحب، حتى تتحول الأمكنة إلى مزارات ودور عبادة يعود إليها المغترب ليقبل ترابها ويداوى به  ما علق بقلبه من غمّ فى البعد والاغتراب،  المكان  نحبه ونكرهه، نهجره ونحنّ إليه، يحتضننا ويقسو على البعض ليدفعهم إلى الهجران والرحيل بعيدا نحو أمكنة أخرى تكون أقل ألفة وحميمية.

 

 

ريشة: جون مراد
ريشة: جون مراد

 

فى غربتى اشتقت للقاهرة، اشتقت لتمشية  نهاية النهار مع زميلى الصديق الفنان إسماعيل دياب بشارع قصر العينى متجهين إلى ميدان التحرير، لينطلق كل منا إلى منزله، اشتقت لتمشية العشرة كيلومترات بعد منتصف الليل عند انتهاء عملى بالصبوحة، لألحق بآخر قطار «2 صباحا»  من ميدان رمسيس  لأصل إلى محطة قطار «الحلمية» أقرب النقاط لبيتى فى مصر الجديدة، بعد توقف وسائل المواصلات، اشتقت لرائحة «رغيف الحواوشى» المنبعثة من محل مصطفى الحواوشى بسوق التوفيقية، وهى وجبة عشائى أحيانا، اشتقت لرائحة شوارع القاهرة النظيفة بعد غسلها بالمياه كل ليلة. 

وعند عودتى صافحت المدينة بعيونى، فللأمكنة روح، وكنت قد وقعت فى حبها، ووجدت الأماكن كلها مشتاقة لى!  هذا العام اشتكت المدينة لى وجدتها حزينة،  ففى زحمة الأعياد التى نحتفل بها فى شهر يوليو من كل عام، ومع قلق الرزق، نسينا القاهرة وعيدها الذى كنا نحتفل به، نسينا عيدها القومى «1054 عامًا» فى السادس من يوليو وهو اليوم الذى يوافق وضع القائد جوهر الصقلى  حجر الأساس لمدينة القاهرة عام 969م، وشعارها الجامع الأزهر الشريف منارة الإسلام ومنبره.

 

أحببت من الأماكن فى مصرنا الحبيبة، القاهرة الفاطمية «قاهرة المعز» الفصل الأول فى تاريخ عواصم مصر، فصل لم ولن يتوقف تطوره، بنيت لتكون عاصمة سياسية ومقرًا للنخبة، عشقت شوارعها وحواريها وأزقتها أحببت شارع محمد الصغير بمصر القديمة الذى سكن فيه «جدى» بعد أن خسر كل ما جناه من تجارة القطن ومعه مسكنه  فى شارع عماد الدين الشهير بعد الكارثة الاقتصادية العلمية  «الثلاثاء الأسود»  والانهيار المالى الضخم فى بورصة الأوراق المالية فى نيويورك وآثارها القوية على الاقتصاد المصرى، والانخفاض الرهيب فى أسعار القطن والصعوبة البالغة فى تسويقه، مما لعب دورًا خطيرًا فى التأثير على تاريخ مصر الاقتصادى، أحببت أبواب منازلها القديمة وسكانها وأحياءها الشاهدة على التاريخ، وشوارعها التى تشكل جزءًا كبيرًا من شخصية مصر،  وكان لمحمد على باشا الفضل الكبير فى تغيير ملامحها وتنظيم وتنظيف شوارعها، بكنس ورش وإنارة الشوارع، وتعليق القناديل على أبواب البيوت، وأمر بتوسيع الأزقة والشوارع وأطلق اسم شارع الموسكى على الشارع المؤدى من زاوية الموسكى حتى الاستبالية الملكية، وهى مستشفى الأزبكية. 

 

ريشة: مها أبوعمارة
ريشة: مها أبوعمارة

 

 بدأ الشارع كمشروع فرنسى ليفتح الطريق  أمام التجارة الأوروبية، حيث سكنه الكثير من التُجار الأجانب، تحديدًا فى «حارة الفرنج» وكانَ أغلبهم من اليهود. ثم سميت حارة اليهود، تم  تخطيط الشارع المُقترح وبدأ شقّ الطريق، وعندما استفتى محمد على العلماء فى فتحه وكيفية عرضه فأفتوا بأنّ يجعل عرضِه يسمح بمرور جملين مُحملين بالتبن دونَ مشقة فى مرورهما «جَمَل رايح، وجَمَل جاى»، وبناءً على ذلك تقررَ أنّ يكون عرض الشارع 8 أمتار. وكان هذا العرض كافيًا وقتها. ولقد سهّل فتح هذا الطريق حركة التجارة وسطّ القاهرة الفاطمية

الصحفى والكاتب العزيز على القلب  عباس الطرابيلى فى كتابه الرائع « شوارع لها تاريخ!»، يقول «مصر هى حقا بلد الغرائب بأى مقياس.. ولأن الشوارع هى واجهات المدن فإنها تعبر عن هذه الغرائب..» ويطوف بنا  بشوارع وحوارى وأزقة مصر لنتعرف على هذه الغرائب التى نراها معلقة على هذه الشوارع والأزقة والحوارى. ومصادره أمهات الكتب وبالذات التى تتناول الخطط وفى مقدمتها :خطط المقريزى. والخطط التوفيقية والخرائط وأيضًا كتب الرحالة الأجانب العظام الذين زاروا مصر عبر العصور والحقب.وهم كُثْرُ. 

 

ويسرد الطرابيلى ما جمع من مصادره «بداية هناك شوارع تحمل أسماء وجبات غذائية.. فنجد فى قاهرة المعز لدين الله شوارع: حوش الحمص- عطفة الحمصانى - بئر الحمص ـ معمل الفراخ ـ الفراخة ـ عطفة قفص الوز ـ عطفة الماعز ـ شارع ضلع السمكة ـ شارع خميس العدس! وشوارع وأزقة تحمل أسماء الحرف القديمة: شارع السيارج يعنى الفوانيس ـ التمار من التمر السقائين- الخضرية. درب السماكين ـ درب المبلط ـ درب المزين ـ درب الدهان ـ والمقصود هنا ليس بائع الدهن من اللحم ولكنه بائع الدهن أى صانع العطور ـ شارع الصوافة ـ الفحامين ـ الفوطية «صناع الفوط » ـ «القربية» «صناع القرب» للسقائين ـ اللبودية أى صناع اللبد ـ الوراقين أى تجار الورق والكتب ـ حارة العرقسوس وعطفة المخللاتية»!  

 

.. ويزيد الطرابيلى من تعَجّبْه عندما وجد أن هناك شوارع وأزقة تحمل أسماء الأسواق: سوق الزلط ـ سوق العصر ـ سوق التلات ـ سوق البقر ـ شارع البغالة. وإذا رأينا أن هذا مقبول.. فماذا نقول فى شوارع وأزقة وحوارى تحمل أسماء: عطفة شق الثعبان ـ حارة التمساح. بل ويا للعجب العجاب شارع اسمه شارع عزرائيل ـ حارة القتلى ـ حارة القتيل ـ حارة القتيلة..  ولا ننسى هنا شارع بين النهدين ـ شارع أبى الليف ـ حارة الزير المعلق ـ السبع قاعات وكلها نجدها من حول شارع الموسكى وشارع الخليج والدرب الأحمر!

ويفسر الطرابيلى من خلال نبشه فى أوراق تاريخ الأمة المصرية، والغوص فى أعماق التاريخ، وقراءته لتاريخ القاهرة من خلال أسماء شوارعها، ويحكى … «شوارع القاهرة الفاطمية هذه لم تحمل أسماء أشخاص... ولكنها حملت أسماء مهن أو حرف أو تجارة وصناعة. وهى لم تأت اعتباطًا. ولكنها جاءت صورة من الواقع فالذين اختطوا القاهرة الفاطمية راعوا تركيز أصحاب الحرف.. كل حرفة فى شارع أو منطقة... وهكذا وجدنا على مرمى البصر من القصر الكبير حيث مقر الخليفة.. شوارع «النحاسين» أى باعة الأوعية النحاسية فى الأساس وليس صناعتها «والصنادقية» وهم باعة الصناديق التى كانت تمثل مهمة الدولاب،  أى لحفظ الملابس والغالى من الأشياء. وكانت العروس يقاس مدى غناها بعدد الصناديق التى تحملها الدواب من بيت والدها إلى بيت «العدل» أى الزواج. وكانت تصنع من أخشاب متنوعة منها الغالى المستورد من جبال لبنان، أو من الأناضول واليونان.. ومنها الخشب المحلى الذى نتندر عليه باسم «الخشب القباقيبى» أى الخشب الذى يصنع منه القبقاب الذى كان يلبسه المصريون الغلابة». 

«وهناك منطقة  أو شارع «الفحامين» وفيه تتركز تجارة الفحم الذى كان صنعة مهمة للمصريين ثم «الخيامية» وهم صنَّاع الخيام وكانت هناك تصنع كسوة الكعبة التى كان يرسلها المصريون الى السعودية أيام زمان.. وأيام احتفالات المحمل! ….ولا ننسى هنا أنهم كانوا يصنعون الخيام لبدو الصحارى ومن يسكنون على حواف المدن. أو للاحتفالات والأسمطة التى كان يقيمها الخليفة أو الحاكم، والوالى فى المناسبات. وكانت حقًا فنًا رفيعًا أهدرناه الآن للأسف بعد أن تحول من فن للتطريز اليدوى إلى مجرد «طبع» على القماش كما نراه الآن!  وعلى هذا المنوال نجد «المغربلين» وهذه كانت حرفة نشطة بحكم اتساع تجارة الحبوب. فقد كان هناك من يتولى «غربلة الحبوب» بواسطة «الغربال». بهدف تنظيفها من الشوائب. ثم «الكحكيين» أى باعة الكحك وصنَّاعه حتى السلاح كانت له سوقه المشهورة وما زال الاسم قائمًا حتى الآن». 

 

القاهرة مدينة المدن وحاضرة الدنيا، القاهرة التى بناها المعز لتقهر الدنيا تستحق أن نحتفل بها كل يوم فهى المنزل المتفرد لكل ساكنيها، والمنزل كما يصفه  الفيلسوف الفرنسى «جاستون باشلار»، هو «المكان الذى مارسنا فيه أحلام اليقظة وتشكل فيه خيالنا ومن غيره يصبح الإنسان كائنا مفتتا البيت، هو ركننا فى هذا العالم!». 

 

ولهذا يتعلق الإنسان بالمكان، ويعود إليه باستمرار حتى لو فرضت عليه ظروف الحياة الخروج منه وهجرانه لأنه جزء أساسى من بنيتنا النفسية ونقطتنا المرجعية وجوديًا فى هذا العالم.