السبت 4 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

قصص من دفاتر قديمة

حكايات منسية من حياة فارس الرومانسية

فى كتاب «بين أطلال السباعى» للكاتبة والمترجمة خميلة الجندى، الصادر عن دار ريشة، تناولت الكاتبة جوانب مهمة من سيرة الأديب الراحل «يوسُف السّباعى»، منذ طفولته فى حى السيدة زينب، ثم انتقاله إلى «شبرا»، مرورًا بالتحاقه بالكلية الحربية، وإسهاماته فى «سلاح الفرسان»، إضافة لإسهاماته الثقافية والدبلوماسية فى العقدين الخامس والسادس من القرن الماضى. 



مع هذا الكتاب، تتوقف «صباح الخير» من خلال حلقات مسلسلة، عند أحد أبرز الأدباء الذين أسهموا فى تغيير وجه الفن فى مصر والوطن العربى، «يوسف السباعى»، ذلك الكاتب الذى شغل الحياة الثقافية مصر روائياً وقاصاً وكاتباً مسرحياً، ثم كاتباً صحفياً، إضافة لتوليه العديد من المناصب الشرفية والسياسية العديدة التى زادت قوته، ووصلت إلى الذروة بتعيينه وزيرًا للثقافة.  

 

 

 

 

رائد الأمن الثقافى فى بلاط صاحبة الجلالة

 

 

لم يتوقف إنتاج يوسُف السباعى الأدبى خلال دراسته بالكلية الحربية أو عمله العسكرى،  بل أخذ يكتب القصة القصيرة والقصة الطويلة (الرواية) على حد سواء.

وفى العام 1945 خلال انشغاله بمهمة التدريس فى الكلية الحربية، بدأ احتكاكه الأول بالصحافة حين عرض عليه الأستاذ عمر عبد العزيز أمين، صاحب «دار الجيب» المختصة بنشر روايات الجيب، أن يكتب قصة تصدر كُل سبت مع عدد مجلته (مجلة «مسامرات الجيب»).

على الفور رحَّب يوسُف بالفكرة ووافق عليها، وأصبح الضابط الشاب تَصدر له قصة أسبوعيًّا شأنه شأن كِبار الكُتّاب والأدباء فى أربعينيات القرن الماضى.

لم تكن علاقة يوسُف بالصحافة جديدة أو غريبة، فالمجلات هى نافذة قصصه الأولى على القارئ المصرى،  ومنها اكتسب الكثير من المعارف من أصحاب المجلات والمحررين، واحتكَّ بكِبار الأدباء أمثال توفيق الحكيم وطه حسين. لكنه ليسلك المهنة، بعد تقاعده عن العمل العسكرى،  قرر دراسة الصحافة، فحصل على دبلوم معهد الصحافة من جامعة القاهرة.

فى معترك الصحافة أظهر يوسُف إتقانًا لا يقل عن إتقانه للعمل العسكرى،  فتولى منذ بداية مسيرته فى العمل العام عدة مناصب فى صحف ومجلات مهمة، منها رئاسة تحرير مجلة «آخر ساعة» عام 1965، ورئيس مجلس إدارة «دار الهلال» عام 1971، وأصدر مجلة «الرسالة الجديدة» ورأس تحريرها، وأصدر مجلة «الثقافة» ورأس تحريرها.

كما كتب فى الكثير من الصحف القومية منها: «روزاليوسف»، «الأخبار» و«الأهرام». واختتم مسيرته الصحفية رئيسًا لمجلس إدارة جريدة «الأهرام» عام 1976، وانتُخب نقيبًا للصحفيين عام 1977.

تلك المسيرة الطويلة فى الصحافة التى بدأت منذ أربعينيات القرن العشرين تنوعت خلالها إسهامات يوسُف بين كتابة المقالات ونشر القصص. وكانت المقالات التى تصدر بشكل أسبوعى أو شهرى،  أو حتى بصورة غير منتظمة فى بعض الفترات التى انشغل فيها بالعمل السياسى،  تتنوع بين الكتابة عن أحوال الثقافة والأدب، أو المجتمع والحياة العامة، أو السياسة والأحداث العالمية. ولم يبخل يوسُف على قارئه برأيه فى كُل ما يحتاج إلى إسداء الرأى.

 

 

 

كما واجه «يوسُف» بعض المتاعب مع رفقاء دربه بسبب توليه رئاسة تحرير عدد من الصحف، فحكى أنه حين تولى رئاسة تحرير «آخر ساعة» كانت المجلة تنتهج نهجًا معاديًا لعلى أحمد باكثير ومحمد عبد الحليم عبد الله، وتكيل لهما النقد اللاذع المستمر، ولَمّا تولى يوسُف رئاسة التحرير ظن باكثير أن النقد سيتوقف والتقريع سيؤول إلى نهاية بحكم الصداقة التى تجمع بين باكثير والسِّباعى والزمالة التى تحيطهما داخل جدران نادى القصة.

لكن ما حدث أن يوسُف ترك المجلة تصدر كما كانت، لِمَا رآه من خطأ فى محاولة تطبيع أقلام كُتّاب المجلة حسب أهوائه، وتطويع مقالاته بما يناسب رغبات أصدقائه. وعليه أصابت باكثير دهشة وخيبة أمل تسببت فى جفاء كبير بين الصديقين، لكنَّ عزاء يوسُف لصديقه كان أنه لا يملك على الناس أفكارها ويخشى استخدام سلطته بما يضر الرأى المحايد.

من تلك المسيرة الطويلة مع الصحافة، المليئة بالمشاكسات، والإنتاج، وتحول الأصدقاء إلى أعداء بسبب ما تولاه من مناصب.

وكان لمجلة «الهلال» إسهام فى حياته الصحفية وأثر فى بداياته الأدبية، بينما تجربته فى إصدار مجلة «الرسالة الجديدة» كانت من بنات أفكاره.

مجلة «الهلال»

أسس جرجى زيدان مجلة «الهلال» فى 1 سبتمبر1892، واستمرت تصدر ورقية لِمَا يزيد على قرن.

رأس يوسُف السِّباعى مجلس إدارة «دار الهلال» فى الفترة من أغسطس 1971 حتى أبريل 1973. لكن قبل ذلك كان قد كتب فصول روايته «السقا... مات!» حيث نُشر الفصل الأول بتاريخ 1 أكتوبر 1947، كما نشر الكثير من قصصه منها قصة «آه» التى نُشرت بتاريخ 1 أغسطس 1947.

يمكن القول إن مجلة «الهلال» منحت يوسُف الكاتب الناشئ أولى الخطوات نحو لقب أديب، فكُتب اسمه فى فهرس العدد إلى جوار أسماء: العقاد ومحمود تيمور والمازنى وعائشة عبد الرحمن وميخائيل نعيمة، وبعضهم بالفعل من جيل والده محمد السَّباعى.

 

 

 

اتسمت مقالات وقصص يوسُف التى ينشرها على صفحات «الهلال» بالتقطع، فطورًا ينشر شهريًّا على صفحاتها وطورًا ينشغل بالكتابة لـ«روزاليوسف» أو بالسفر لحضور المؤتمرات الأفروآسيوية، أو يلتهى بإنهاء روايته الجديدة. لكنه ظل ينشر على صفحاتها حتى سبعينيات القرن العشرين، فكتب يرثى رحيل عبد الناصر مستفيضًا فى التعبير عن مشاعر الخسارة التى أصابته وأصابت غالبية المصريين برحيل زعيم الثورة، وكتب يتحدث عن الجبرتى،  وعن دور الأدب فى العدالة والسلام.

«الرسالة الجديدة»

«هذه المجلة التى أقدّمها الآن لطالما طافت برأسى كحلم من أحلام الدُّجَى».، هكذا استهلَّ رئيس التحرير يوسُف السِّباعى كلمة المحرر فى العدد الأول لمجلة «الرسالة الجديدة» الصادر بتاريخ 1 أبريل 1954. وعنوانها «سوق الأدب... وسوق الزلط!». 

وجاءت فكرة مجلة «الرسالة الجديدة» إلى يوسُف حين تَفكر فى إعادة إحياء المجلات الأدبية التى شهدت أوجها فى ثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين، وأفادت الكثير من الأدباء فى تبنِّى موهبتهم ونشر قصصهم، ومن ضمنهم يوسُف السِّباعى.

 

 

 

وكان يوسُف على دراية كافية بتلك المجلات وتحريرها بفضل احتكاكه برؤساء التحرير والكتاب، لذا أكد يوسُف فى مقالته «سوق الأدب... وسوق الزلط!» أنه لا يُقدم جديدًا للثقافة المصرية باقتراحه هذا، ولا يملك السبق بمجلة «الرسالة الجديدة»، بل إنه يُصدر المجلة بوصفها «حلقة» من حلقات سلسلة طويلة بدأت بمجلتَى«الهلال» و«البيان» وغيرهما.

ولم يغفل يوسف فى مقدمته أن يذكر مجلة «الجريدة والبيان» للبرقوقى وفيها نشر أبوه مقالاته، وكذلك جاء على ذكر مجلة «الهلال» التى تبنته، ومجلة «المقتطف» وكذلك مجلة «الرسالة».

صدرت «الرسالة الجديدة» عن «دار التحرير للطبع والنشر»، وكان المدير العام لها محمد أنور السادات وسكرتير التحرير الأستاذ عبد العزيز صادق، ورئيس التحرير هو صاحب فكرة إصدار المجلة: يوسُف السِّباعى.

ضم العدد الأول من المجلة أقلام كبار الكتاب -وأغلبيتهم من أعضاء نادى القصة، فنرى الدكتور طه حسين يُترجم قصة «الأطماع الخائبة» للكاتب الإيطالى ألبرت مورافيا، وقدم رأفت الخياط تعريبًا وتلخيصًا لقصة «الملك العربيد» من الأدب اليابانى،  كما نشر الأستاذ محمود تيمور قصة تحت عنوان «أم سحلول»، ونشر كامل الشناوى قصيدة بعنوان «السلوان الكاذب» واستهلها بـ:

لا وعينيكِ... يا حبيبة روحي

لم أعد فيكِ هائمًا فاستريحي

وكتب الأستاذ عبد الحميد جودة السحار قصة «الماضى يعود».

وكان يوسُف حريصًا على أن تضم المجلة ألوانًا شتى من الأدب، وألّا تقتصر على القصة فتصبح أشبه بالعدد الشهرى من «الكتاب الذهبى»، فنقرأ على صفحات العدد الأول مقالًا للدكتور لويس عوض تحت عنوان «الإنسانية الجديدة»،، ومقالًا للأستاذ توفيق الحكيم بعنوان «قلم حبر بين التابعى والصاوى».

كما قُدمت المسرحية، فنرى على أحمد باكثير يكتب «مأساة ابن المقفع» مُسلسلةً. وكتب يوسُف السِّباعى -علاوة على كلمة المحرر والرد على رسالة المجلة-قصة «نحيب فى الليل».

ومن أبرز ما قُدم فى العدد الأول لمجلة «الرسالة الجديدة» هو «بين القصرين» قصة نجيب محفوظ. الذى استمر يكتب روايته الأولى من ثلاثية القاهرة على صفحات المجلة منذ العدد الأول(1 أبريل 1954) حتى ختمها فى العدد رقم 25 بتاريخ 1 أبريل 1956، وطُعّمت القصة برسوم بريشة سميحة.

 

 

 

ضم القوام الأساسى لمجلة «الرسالة الجديدة»: طه حسين، توفيق الحكيم، عبد الحميد جودة السحار، محمود تيمور، وكامل الشناوى،  عزيز أباظة، ومحمد مندور، أمين يوسُف غراب، يوسُف الشارونى،  درينى خشبة، نجيب محفوظ، كمال الملاخ، عباس خضر، وعبد القادر السماحى.

واشترك فى ما بعد كُلٌّ من يوسُف إدريس ومحمد عبد الحليم عبد الله وصالح مرسى وإحسان عبد القدوس وجاذبية صدقى فى نشر عدد من المقالات والقصص على صفحات المجلة. كما أهدى سعد مكاوى قصة تحت عنوان «لا عمر لها» إلى المجلة نُشرت فى العدد رقم «15» الصادر فى يونيو 1955.

كما خصص يوسُف السِّباعى فقرة -غير منتظمة-تحت عنوان «بينى وبين القراء» يُجيب فيها عن أسئلة القراء المرسلة من شتى بقاع الوطن العربى.

وحرص يوسُف على أن تكون المجلة منبرًا لجميع الأحداث الثقافية والأدبية التى تشغل الرأى العام، ففيها نقرأ عن الكلمات الجديدة التى أقرّها المجمع اللغوى،  ونقرأ عن نادى القصة، ومؤتمر الأدباء، وآخر أخبار المجلس الأعلى للفنون والآداب والعلوم.

ولعلّ ارتباط يوسُف بتلك المنظمات كُلها -إما ارتباطًا وثيقًا وإما ذا صلة-سهّل على المجلة عملية الحصول على أهم الأخبار.

كما أطلقت المجلة المبادرات الثقافية، وتلقَّت الشكاوى الخاصة بالشأن الثقافى.

واستغل يوسُف دوره فى الحياة العامة ليوحِّد أقطار العمل العام، وكتب على صفحات العدد «44» بتاريخ 1 نوفمبر 1957 عن أهمية التعاون الثقافى فى إطار انعقاد مؤتمر التضامن الآسيوى الإفريقى الأول، ويكتب عن مهرجان الفنون والآداب للجمهورية العربية المتحدة الذى وافق المجلس الأعلى لرعاية للفنون والآداب والعلوم على عقده، وكتب عن مؤتمر الأدباء وما وقع فيه من فعاليات.

ولم يغفل السباعى ربط الثقافة بالسياسة، فأسهبت المجلة فى الحديث عن بورسعيد والمقاومة الشعبية فى أعقاب العدوان الثلاثى. يمكن القول إن السنوات الأربع بين عامى 1954 و1958 التى صدرت فيها مجلة «الرسالة الجديدة» شهدت نشاطًا منقطع النظير ليوسُف السِّباعى جمع خلالها بين خيوط شخصياته المتعددة: الكاتب والصحفى والدبلوماسى والوطنى.

كانت «الرسالة الجديدة» تصدر عن «دار الجمهورية»، وكذلك مجلة «الفجر»، ورأت الدار أن تختصر المجلتين فى مجلة واحدة فألغت مجلة «الرسالة الجديدة» وضمَّت هيئة تحريرها إلى هيئة تحرير الثانية، مبقين على يوسُف السِّباعى رئيسًا للتحرير.

وقابل يوسُف الأمر برحابة صدر رغم انتهاء إصدار مجلته التى كان يحلم باستمرار دورها الفعّال فى المجتمع الثقافى.

وكتب عباس خضر فى مقال «يوسُف السِّباعى لو عرفوه ما قتلوه» الذى كتبه فى مجلة «الثقافة» تأبينًا للسِّباعى: «أصبحت (الرسالة الجديدة) ذات هيئتين للتحرير، ورغم اختلاف الاتجاه بين الهيئتين سارت المجلة مسيرًا حسنًا، ولم يحدث أى تنافر، بفضل ما اتصف به يوسُف السِّباعى من(التسامح) والاقتدار العجيب على تسيير الأمور».

نقيب الصحفيين

قال الحكيم عن يوسُف السِّباعى،  إنه كان «فى جميع المواضع التى وُضع بها والمراكز الثقافية والأدبية التى احتلها... نصير العاملين فيها». ورغم قِصَر فترته فى منصب نقيب الصحفيين فقد ترك يوسُف أثرًا مهمًّا فى رفع قيمة المعاش الشهرى للصحفى.

وكان يوسُف يُخطط للأمر نفسه بالنسبة للأدباء والكتاب، وشغل باله كثيرًا مآل الأدباء والكتاب بعد موتهم، فوضع فى الاعتبار ضرورة التخطيط لمقبرة للمتوفين منهم، لكنه مضى قبل أن يضع أيٍّ من الفكرتين حيز التنفيذ.

تلك الوقائع هى التى دفعت توفيق الحكيم، الشاهد على نشاطه -فى نادى القصة وفى مجلة «الرسالة الجديدة» وجمعية الأدباء وكذلك المجلس الأعلى لرعاية الفنون-إلى خلع لقب «رائد الأمن الثقافى» عليه.