الأحد 12 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

قطف القطن

ريشة: منة الصياد
ريشة: منة الصياد

كانت تسير وقدماها تغطسان داخل طيات الجليد الكث فتتعثر خطواتها. الظلال من حولها كثيفة وتزداد بتراكم غبار الضباب أمامها. الجليد بدأ فى التساقط منذ غروب الشمس وبعد أن ترجلت عن الباص الذى يحملها من «مونتريال» حيث تعمل إلى محطة الضاحية الطرفية التى تسكن بها.



تدس يدها المغطاة بالقفاز داخل جيب معطفها الطويل طلبًا لمزيد من الدفء. تشعر بزنة الموبايل داخل حقيبتها لكنها لا تملك رفاهية التوقف لرؤية من يتصل بها الآن.

تريد أن تصل إلى باب البيت بأسرع وقت ممكن. الجليد الساقط من السماء يضرب وجهها بسبب اتجاه الريح.

تتفادى حجرًا كبيرًا وتقع عيناها على نافذة مضيئة. لابد وأن أحدهم يتناول عشاءً متأخرًا لأنها لمحت سفرة طعام من وراء طيات الشيش المفتوحة. تتذكر جوعها. لم تكن لها شهية وقت الغداء واكتفت بـ«دونات» وقهوة. والآن تندم على ذلك.

المهم الوصول إلى باب البيت. والباقى يهون.

تدير المفتاح فى الباب. تضطر لنزع القفاز وتدخل بسرعة. تتسرب إلى الداخل هبة هواء ثلجى قاس. تقف برهة تلتقط أنفاسها. تحاول خلع البوت. لكن ظهرها يعيقها داخل المعطف الثقيل. تفتحه وتنحنى لخلع البوت.

ترتمى على الأريكة العريضة بعد أن ترفع درجة حرارة المنظم إلى 23. ترتعش من البرد رغم «الهاى كول» الذى ترتديه واحتفاظها بالجورب الصوفى على قدميها. الجسد يخوننا بعد عمر معين. تسرح فيما يمكن أن تتناوله. الساعة تجاوزت التاسعة. لم تُقدِّر الوقت حقَ قدره. لا يفيد الندم. رحلة القطار أسبوعية، لا يمكن الاعتماد عليها. والتاكسى أو أوبر صارا خيارين مكلفين. تتحمل وتصبر وتدبر أمورها. 

تتذكر الهاتف فى حقيبتها. لم يكن شيئًا هامًا. عيادة الأسنان. لابد وأنهم يذكرونها بموعد التنظيف السنوى. ملاحقةً للمال الذى ستدفعه ليس أكثر.

الثلاجة بها طعام كثير لكنه بارد، ليس طلبها الآن. تفكر فى طلب طعام سريع. تفتح قائمة الاتصال تحت بند «طعام» وتتأمل خياراتها فى تلك الليلة الباردة. خدمة التوصيل محدودة هنا. تفتح تطبيقا وثانيا ثم تغلقهما. ترص أصابع السوسيس وتضع المقلاة على النار. ثم تخرج كيس سلاطة سيزار جاهزة.

بعد تغيير ملابسها تأخذ معها تابلت صغيرًا وتجلس إلى مائدة الطعام ذات المقعدين. أمامها يوم طويل غدًا. ستذهب بعد العمل لتبديل إطارات السيارة بأخرى حَمولة إتقاءً للبرد. تتجنب القيادة على الثلج فى الشتاء. لكنه شر لابد منه. تريد أن تكون سيارتها معدة لأى يوم مشمس قادم. 

الطعام ليس سيئًا. على العكس. تصب لنفسها كأسًا صغيرة من نبيذ فاخر. تقرأ المكتوب على الزجاجة. كما تفعل كل مرة. الليلة ليست ليلة الجمعة. لكن الدفء الذى يسود الشقة الآن يحتاج إلى دعم من نبيذٍ أحمر قان. تتأمل اللوحة غير المكتملة التى تضعها على حامل فى ركن غرفة المعيشة. ستنتهى منها قريبًا. ربما تجد وقتًا لها فى العطلة الأسبوعية. ما زال التابلت فى يدها. تركته يعرض فيلمًا لـ«عادل إمام». لا تحب من السينما سوى أفلامه وبالتأكيد أفلام «فاتن حمامة». ما يربطها بلغتها الأم هو هذه الأفلام السينمائية. تجلس إلى الأريكة. تترك قائمة بمشاهد ومقاطع من أفلام «عادل إمام» تشتغل أمامها. تبتسم من وقت لآخر. كثيرٌ من الكلمات تبدو مألوفة. غير متعجرفة. بسيطة.

«بلد شهادات صحيح!

الكباب الكباب لنخلى عيشتكو هباب!

هو الدين بيقول ايه؟»

تتذكر وجهًا قديمًا. وجهها. فى زى المدرسة فى صباح رمادى باكر. «ماريان» أخرّتها واضطرت لنزول السلالم ركضًا. تسرع الشغالة إليها بساندوتش المدرسة الذى نسته. تدسه فى حقيبتها وهى تصعد إلى الاوتوكار.

أنفاسها تتسارع. ورغم صرامة نظرة «سور مارينا» إلا أنها تبتسم فى وجهها وهى تدفعها برفق للجلوس. 

تجلس قرب «ليلى». «ليلى» ما زالت ترتدى نيشان التفوق. تخفى حسرتها. كانت تتمنى هذا النيشان لولا نمرة العربى. فى الفصل تنتظر بفارغ الصبر حصة الرسم. ترتعب من يوم تسلم الشهادات الشهرية.

«ماريان» تبحث عنها فى «الكور». تذكرها بوعدها. تتنهد. لطالما كانت «ماريان» هى الأقرب إلى قلبها. لكن «ماريان» لا تعبأ بها. تعتبرها طفلة. بالطبع لن تخبر أحدًا عن الحبيب السرى لـ«ماريان».

تبتسم فى مرارة. كان زمنًا تخفى فيه البنات رسائل الحب والوعود الكاذبة بين طيات كتبهن. يقرأنها خلف سور عال. ويبتكرن أماكن لا تخطر على بال لإخفاء دليل الجريمة.

الحب جريمة. كان. لم تعد تهتم.

وجوه الماضى كثيرة. تتراءى لها. هكذا دائمًا المساء. يحمل إليها الأطياف والأصوات.

تعبس مرة ثانية. وهى ترى وجهها يوم الإكليل. كانت قلقة، متوترة بل مرعوبة. الكنيسة الصغيرة غصت بالمدعوين. علقت بأنفها رائحة بارفان العريس. ولوقت طويل كانت تتمنى لو محت الرائحة من ذاكرتها.

تزيح الذكرى عن قلبها. الزمن باعد بينها وبين الألم. لِمَ تعيده إلى حياتها؟ لن تفعل.

تبحث عن رسائل «ماريان». شحيحة.

تغير قائمة التشغيل إلى فيلم قديم لـ»فاتن حمامة». «اليتيمتان» اسمه. تتفرج عليه وتعيد بعض اللقطات.  «ما تخلوش الدنيا تغلبكم!»

الدنيا فرقت خطواتنا يا أبى. ألم تعلم أن الخطى بالحياة مكتوبة؟ هل اخترت اسمى؟ اسم أختى؟ اسم زوجى؟ حملتنى سفينة الحياة إلى هنا، إلى «إيل دى سور» île-des-sœurs. وسأظل هنا. راضية. قد أكون مغلوبة، لكننى لن أنهزم.

«أنا من غير ما أشوفك حسيت إنك إنسان طيب».

الطيبة ابتسامة. قول حلو. أنا عرفت الطيبة بكل صورها. منحت قلبى مرات ومرات. بكيت على قساوة العالم. مددت يد العطاء. ضممت إلى صدرى دموعا كثيرة.

«الإخوات بيكون دايما قلبهم على بعض».

ولم لا؟ هل نولد بختم الإخلاص؟ هل أرضعتنا أمنا سويًا حبًا صافيًا؟ الرباط بينى وبين «ماريان» لم ينفصم، لكنه مثل الحبل الدايب.

«أنا قلبى مقسوم نصين. نص مشغول بيك والنص التانى مشغول بأختى».

يا ما انقسم قلبى. لم أعد أبحث عن التئام الجروح والندوب والأخاديد. لكننى غير نادمة. أختى هى أختى. - أمك آهى يا نعمت!

بنتى حبيبتى... بنتى حبيبتى...»

لم أتردد. أفرغت حسابى البنكى المتواضع وطرت ليوم ونصف كى أكون بجوارها. على الأقل منحتها لحظة سكينة وقت الرحيل. أغمضت عينيها بيدى. وزعت ملابسها كما طلبت. نظفت الشقة وأغلقتها لآخر مرة.

 

وضعت القفل الكبير. وراسلت «ماريان». عبرت عن حزنها. لم أطلب منها أن تشاركنى حدادى. عدت إلى «جاتينو» وقررت تغيير مكانى. وخرج «بيير» من حياتى. كل شىء وُلِد من جديد بعد وفاة أمى.

تدخل إلى فراشها.بعد أن تتأكد من أن درجة الحرارة ستضمن لها الدفء طوال الليل. تخفضها إلى 17. غدا يوم عمل طويل. اجتماعات ومكالمات، فالعام الجديد على الأبواب وعليها إثبات كفاءتها. كى تصل بسنوات تقاعدها إلى بر الأمان. نصف دوام صار دواما كاملا من خمس سنوات. تطوعت، ساعدت، بذلت الجهد والوقت والمال. تعلمت ونالت شهادات وإجازات. «مونتريال» مدينة التاريخ. تهادنها كيلا تلفظها. تركت لـ«ماريان» قلب «مونتريال» الصاخب ورضت بـ«إيل دى سور». ببلكونتها المشمسة ربيعًا وصيفًا. بنبتاتها الخجولة. بلوحاتها التى تزين جدران الشقة. راضية أخيرًا. تترك الفيلم الذى يقترب من نهايته وتكبس زر النور. فتنعكس إضاءة شاشة التابلت على الحائط قربها.

ونس صوت «فاتن حمامة» الرخيم يحملها بتؤدة إلى عالم الأحلام.