الجمعة 10 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
مرض «الكراهية» الذى أصاب الجميع

مرض «الكراهية» الذى أصاب الجميع

لقد أصبحنا أفرادًا وجماعات مصابين بجائحة الكراهية العابرة للقارات والثقافات والديانات واللغات واختلاف ألوان البَشرات.. «باثولوچيا» الكراهية المُعاصرة هى أكثر الأمراض انتشارًا فى العالم الذى من حولنا وفينا، ونار الحروب العمياء المُعلنة والنائمة وقودها الأمثل حَطب الكراهية المتنوعة، وكل هذه الحروب التى نشارك فيها أو تلك التى ورثناها عن آبائنا وأجدادنا ولا تزال تنام بسَكينة فى الرماد فاتحة عينيها بقوة؛ على استعداد للقيام فى أى لحظة.



 

هذه الحروب المقدسة أو المُدنسة، الحديثة أو القديمة، الحداثية أو الكلاسيكية، الطبقية أو الهوياتية، حروب السيف أو السيبرنتيك، فى الشمال أو الجنوب، جميعها تحضر فى مطبخ وعلى نار هادئة لا ينطفئ جَمرها الأيديولوچى أبدًا، إنه مطبخ الكراهية.

فى تاريخ الإنسان فى شمال إفريقيا والشرق الأوسط الشىء الوحيد الذى لم تختلط به الكراهية هو حليب الأمومة، فبَعد أن يجف ثدى الرّضاعة يبدأ مسلسل مَصل الكراهية، كل عُمْر وكراهيته.

شربنا كأسَ الكراهية المعتقة الأولى فى المَدرسة، وعلى مقاعدها تذوّقنا طعم الكراهية للمرّة الأولى مُرّة كالعَلقم كانت، ولا تزال الأجيال الجديدة جيلاً بَعد جيل من بَعدنا؛ ترشف من نصوص الكتب المَدرسية المقرّرة علينا الكراهية فى شكلها الشعرى والدينى والأخلاقى واللغوى، وهكذا كنا نكبر وتكبر فينا ومعنا الكراهية، لمُدة عشرية ونصف العشرية تقريبًا، والتى هى عمر سنوات المَدرسة، كنا صباح مساء نستحم فى الكراهية حتى أضحت وكأنها من چيناتنا من دمنا.

ثم حين كبرنا قليلاً وتوسّع العالم من حولنا فى الجغرافيا وفى الوعى توسّعت الكراهية أيضًا وكبرت فينا ومعنا لتصل إلى الآخر المختلف عنا فتلتهمه؛ فتحول كل آخر فى مخيالنا إلى وحش وذئب وأفعَى وقاتل وسَفّاح ومُغتصب ومُجرم، كل آخر هو استعمار فى الماضى أو استعمار متوقع يجب مقاومته وكرهه ورفض العيش معه.

علمونا التعميم القاتل.. علمونا ألا فرق بين الفرنسى وبين الاستعمار الفرنسى.. علمونا بألا فرّق بين چان بول سارتر وبين الچنرال السّفاح بيچار.

علمونا بألا فرق بين حملة الحقائب المساندين لحرب تحرير الجزائر وحملة موريس بابون ضد الثوار الجزائريين الذين ألقى بهم فى نهر السّين بباريس. علمونا بألا فرق بين الثنائى الرئاسى بوش الأب والابن والروائى هنرى ميللير أو هيمنجواى.

علمونا بألا فرق بين الفيلسوفين موسى بن ميمون وسبينوزا وبين الچنرال شارون ورئيس حزب الصهيونية الدينية اليمينى المتطرف ابن غفير.

هكذا نغرق فى مستنقع الكراهية من خلال التعميم الأعمَى. إن الجهل بالآخر ينتج الخوف منه، والجهل والخوف ينتجان الكراهية.

المختلف عنا، أى الآخر، يخيفنا لأننا ضعفاء من الداخل؛ لأن مقاومتنا ليست مقاومة التاريخى المنتج، مقاومة الفاعل، مقاومة الذكاء، إنها باختصار مقاومة «رد الفعل الغاضب» التعميمى الذى تنتجه طبقات ثقافة الكراهية المتراكمة.

 

 

 

وشيئًا فشيئًا تتوسع مساحة الكراهية فتصل إلى الفضاء الدينى المقدس، فيجلس الجميع منصتين خلف رجل الدين الذى يفترض أن يكون صوت الروح والروحانى، المحبة والتآزر، فيسمع الجميع فى خطب الجمعة وخطب الأعياد وفى الدروس اليومية، دروس ما بين صلاة العصر والمغرب، وفى الدعاء للميت فى المقابر وعلى المنابر، يسمع الجميع وباستمرار من رجل الدين دعاء ضد المسيحيين وضد اليهود وضد العلمانيين وضد الشيوعيين وضد الملاحدة، فتكرّس هذه الخطابات ثقافة الكراهية، وتصبح الكراهية «أكلاً» يوميًا، «عَلفًا» بَشريًا مبتذلاً، رد فعل عادى جدًا.

لمُحاربة هذه الكراهية الدينية علينا الانتقال من التفكير فى الدين الواحد إلى التفكير فى الديانات الكثيرة التى تعيش معنا ومن حولنا، الانتقال من دراسة الدين بصورة دينية إلى دراسة الأديان المقارنة بصورة تاريخية.

ثم شيئًا فشيئًا ينتمى الوطن إلى الحزب ويدخل الجامعة، وهما فضاءان متشابهان أو توأمان، فنبدأ فى فصل جديد من سلسلة الكراهيات، نتعلم بأن لغتنا هى أجمل اللغات، هى أعظم اللغات، هى لغة الله ولغة الجنة، هى اللغة التى تغنينا عن اللغات الأخرى، وهى اللغة التى ستبقى بَعد أن تندثر كل اللغات بلعنة من الله، ومثل هذه الخطابات السياسية هى ما سيكرّس حس كراهية اللغات الأجنبية ويجعلنا ندور حول أنفسنا مبتهجين بذاتنا الفارغة، فنعمق حس كراهية تعلم لغة الآخر الذى هو جزء منا، هذا الحال هو الذى أوصل تعليم اللغات الأجنبية فى الجامعات العربية إلى الحضيض الذى نعرفه، للأسف.

جميل؛ بل ضرورى أن تعمل كل أمّة على تطوير لغتها، حتى نحارب التنميط ونوسع المخيال الإنسانى الذى يقيم فى ذاكرات اللغات المتنوعة، لكن لا يمكن الاستفادة من هذا الحرص على هذه اللغة أو تلك إلا إذا رأيناها فى مرآة اللغات الأخرى. اللغات مرايا متعاكسة وعاكسة.

 

 

 

وتتوسع أخطار ثقافة الكراهيات فينا حين نشعل حروب «الهُويّات» من حولنا فيُخرج كل واحد «سيف» هُويّته؛ ليظل متربصًا بهوية الآخر هدفه اغتيالها، وتعمل «الهُويّة» الغالبة التى تمسك بزمام السياسة والمَدرسة والإدارة فترفع سيفها على الهُويّات الأخرى؛ فنعيش فى مجتمع واحد فى كراهية «هُويّاتيّة».

حين أدقق النظرَ فى تركيبة هذا العالم من شمال إفريقيا والشرق الأوسط أشعر بأن حروب الهُويّات لا تزال قائمة، وهى حروب لا تنثر سوى مزيد من الكراهية. الهويات المتعددة كما اللغات المتعددة، هى ثروة كبيرة فى المجتمع الديمقراطى، فى البلد الواحد ذى النظام التعددى العادل، وحين يتحقق العدل والحرية تتحقق الهويات على اختلافها كقوة عظيمة فى المجتمع.

الحفاظ على هُويّة ما لا يقوم على جنازة هُويّة أخرى، ثم شيئًا فشيئًا يحدث هذا فى مجتمعنا الغريب الغارق فى مَثالب الكراهية والواقع فى مَخالبها، نتعلم كراهية أخرى هى الكراهية الجنسية، كراهية المرأة، من جهة يعلموننا حب الأم، «الجنة تحت أقدام الأمهات» ومن جهة أخرى يعلموننا بأن المرأة ناقصة دين وعقل، و«كيدهن لعظيم»، وكأن الأم ليست امرأة، وكأن النساء الأخريات، الجارة والأخت والعَمة والمُعلمة والطبيبة لسن بأمهات.

إن الكراهية قنبلة موقوتة ومزمنة تخرب الفرد والجماعة والوطن والثقافات، إنها تعمى عن الخطأ، تعمى عن نقد الذات ومراجعتها.

فى المجتمعات التى تتعاظم فيها ثقافة الكراهية وتُتوارث من جيل لآخر؛ يتم التركيز فيها على استنهاض ذاكرة الحروب والصراعات الدموية؛ لا كدرس يجب تفاديه لكن كنموذج للشجاعة والفروسية يجب الإبقاء عليه، يتم استدعاء حروب الماضى لإخفاء هزيمة الحاضر.

 

 

إن المجتمعات التى تبحث عن التخلص من جائحة الحروب الرمزية أو الحقيقية هى تلك التى تركز فى قراءتها لمستقبلها على تأمُّل فترات السلام والبناء والعيش المشترك مع الآخر، وشيئًا فشيئًا انتقل العالم من كراهية كلاسيكية مباشرة إلى كراهية «رقمية»، فبقدر ما تعددت وسائل التواصل الاجتماعى تفككت المجتمعات، وبقدر ما كثر التواصل تعددت التفرقة ومعها تعددت التفاهة وتفككت الرموز الإيجابية.