الجمعة 3 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

قصص من دفاتر قديمة

حكايات منسية من حياة فارس الرومانسية "الحلقة الرابعة"

ريشة: جون مراد
ريشة: جون مراد

فى كتاب «بين أطلال السباعى» للكاتبة والمترجمة خميلة الجندى، الصادر عن دار ريشة، تناولت الكاتبة جوانب مهمة من سيرة الأديب الراحل «يوسُف السّباعى»، منذ طفولته فى حى السيدة زينب، ثم انتقاله إلى «شبرا»، مرورًا بالتحاقه بالكلية الحربية، وإسهاماته فى «سلاح الفرسان»، إضافة لإسهاماته الثقافية والدبلوماسية فى العقدين الخامس والسادس من القرن الماضى. 



مع هذا الكتاب، تتوقف «صباح الخير» من خلال حلقات مسلسلة، عند أحد أبرز الأدباء الذين أسهموا فى تغيير وجه الفن فى مصر والوطن العربى، «يوسف السباعى»، ذلك الكاتب الذى شغل الحياة الثقافية مصر روائياً وقاصاً وكاتباً مسرحياً، ثم كاتباً صحفياً، إضافة لتوليه العديد من المناصب الشرفية والسياسية العديدة التى زادت قوته، ووصلت إلى الذروة بتعيينه وزيرًا للثقافة.    

نادى القصة.. فكرة إحسان وتنفيذ يوسف

 

استقر فى نفس يوسُف أن المجال الثقافى هو ساحته الجديدة، وكان لرفقته بإحسان عبد القدوس أثرها الكبير فى حياته. فلم تقتصر العلاقة على الزمالة السطحية بين كاتب وآخر، بل كانت علاقة صداقة واعية أضافت الكثير إلى حياة الرجلين الإنسانية والمهنية.

 

ورغم اقتران اسم يوسُف السِّباعى بنادى القصة كونه مؤسسه، أكد يوسُف أن أول مَن فكر فى أمر هذا النادى كان إحسان عبد القدوس.

جاءه إحسان ذات يوم فى مكتبه بالكلية الحربية، كان وقتها لا يزال ضابطًا فى سلاح الفرسان، وأخبره عن تلك الفكرة المختمرة فى رأسه. لكن يوسُف بادره بسؤال: ما الغرض من هذا النادى؟ وجاءت إجابة إحسان- المُعدّة مسبقًا- أن النادى سيتيح المجال لوجود كيان يجمع كُل الأدباء، كما يمكن إصدار كتاب شهرى يَنشر فيه كُلُّ كاتب قصته.

 

 

 

وفى مقابل اندفاع إحسان المتحمس للفكرة، كان ليوسُف حماس متشكك -كعادته، مع ذلك غلب الحماس على التشكك، وشرع يوسُف -لِمَا له من مناصب رسمية-فى تأسيس نادى القصة والحصول على موافقة صديقه السابق فى الكلية الحربية رئيس الجمهورية جمال عبد الناصر.

ضم نادى القصة فى البداية مجموعة من الأدباء الشباب هم: إحسان عبد القدوس، ومحمد عبد الحليم عبد الله، وأمين يوسف غراب، كما تميز بانضمام عدد من كبار الأدباء منهم: عبد الحميد جودة السحار، ومحمد فريد أبو حديد، ومحمود تيمور، وتوفيق الحكيم، وطه حسين. وأصبحت فكرة إحسان الأولى- إنشاء كيان واحد يجمع كُل الكتُاب- حقيقة ملموسة.

بقيت الفكرة الثانية: إصدار كتاب شهرى تُنشر فيه قصصهم الجديدة. هنا توسط إحسان لدى والدته السيدة فاطمة اليوسُف ليصدر الكتاب عن مؤسسة «روزاليوسف» ويحمل اسم «الكتاب الذهبى» فى أول يونيو 1952 ورأسَ يوسُف تحريره.ثم تطورت الفكرة وصدر «الكتاب الفضي» ليقدم جيلًا من كتّاب القصة والرواية. وتوافر الإصداران فى طبعات رخيصة الثمن جعلت الجمهور يُقبل عليها، ما أسهم فى تكوين رأى عام أدبى، وقلّ ظهور القصة بين أعمدة الصحف وأصبح لها كتاب كامل.

 

 

 

افتقر النادى فى بداياته لوجود مقر ثابت، فكان الأدباء يذهبون إلى «مجلة الفن» يوم الأربعاء من كل أسبوع لعقد اجتماعهم، واهتم عبد الشافى القشاشى بتوفير غرفة صغيرة يجتمعون بها. ثم اقترح عليهم المخرج جمال مدكور أن يستغلوا إحدى غرف شقته الخاوية فى ميدان الإسماعيلية، فتشارك يوسُف وإحسان مبلغًا من المال وابتاعا أثاثًا للغرفة. وهكذا صار لنادى القصة وأدبائها مقرٌّ فى ميدان الإسماعيلية، ثم استقر مقرهم الأخير فى 68 شارع قصر العينى.

لم يكن متوقعًا أن فكرة نادى القصة التى بدأت فى عقل إحسان عبد القدوس ستلقى هذا الإقبال من أدباء عصرهم. ولَمَّا اجتمع أدباء الدفعة الأولى شعر الآخرون بشيء من الضرورة للانضمام إلى هذا النادى وما يقدمه من فعاليات، فالتحق بهم آخرون من بينهم يوسُف إدريس وكذلك على أحمد باكثير. وكان لنادى القصة- كسائر النوادى الخاصة-شروط للانضمام إلى عضويته، لكن كان أهمها شرطان: الأول، أن يكون الكاتب الراغب فى الانضمام له إنتاج خاص ومعترف به ومنشور. والثانى أن يُقدم طلبًا لمجلس الإدارة مُرفقًا برسوم التقديم.

يمكن القول إن نادى القصة فى منتصف القرن الماضى كان بمثابة «مجموعة» على موقع التواصل الاجتماعى «فيسبوك» فى زمننا، يتشارك الأدباء خلال اجتماعهم، أفكارًا بشأن قضايا تمس الكاتب وحقوقه وما يواجهه من مصاعب.

 

 

 

رأى يوسُف السِّباعى فى نادى القصة أداة للحكم على إنتاج الكاتب الناشئ. فأكد أن الكتابة موهبة عصيَّة على التحديد، كيف يُحدد المرء أنه يملك صوتًا يصلح للغناء؟ يُغنى حينها سيعرف هو ومن حوله إذا كان صوته صالحًا من عدمه. كيف يُحدد موهبته فى الرسم؟ يُجرب رسم زهرة. إنتاجه سيوضح له وللناظرين إذا كانت يده تملك الموهبة. لكن فى نظر يوسُف أن تكتب لا يعنى بالضرورة أنك موهوب فى الكتابة. قد يكتب المرء طوال حياته ويلقى استحسان البعض لكن فى مرحلة متقدمة يكتشف أن كُل ما كتبه ما هو إلّا هزل. لذا رأى يوسُف فى نادى القصة منقذًا من هذا العبث، ووسيلة واضحة للحكم على إنتاج الآخرين عبر المسابقات التى أعلن عنها النادى.

يُفند يوسُف هذا الدور موضحًا ارتباط الحكم على إنتاج الكاتب بمحورين: الأول هو الصحافة التى كان لها الدور الأعظم آنذاك فى اكتشاف الموهبة، لكنَّ هذا الدور تضاءل أمام آلاف القصص المرسلة كُل أسبوع- بل كُل يوم- إلى المحررين، وصار من المستحيل على المحرر قراءة كُل تلك القصص وتحديد الغث من السمين. لذا اتجهت المجلات إليهم -الأدباء الراسخين-ليكتبوا قصصهم نظير 10 جنيهات أو يزيد، وفى المقابل تضمن المجلة إنتاج الكاتب الناجح.

أما المحور الثانى فهو الناشر، ويراه يوسُف غير كُفء لتحديد جودة الإنتاج الأدبى، فالنهاية الناشر هو تاجر ليس له سوى الربح. مهمته نشر الكتب وتوزيعها وبيعها، فأن يغامر بالنشر لكاتب جديد لا يعرفه القراء أمر شبه مستحيل.

وفى الأساس تحتاج عملية اختيار كاتب جديد إلى قراء آلاف الأعمال وتفنيدها -كما يحتاج المحرر الصحفي-لكنها ليست مهمته.

وأضاف يوسُف فى هذا الصدد أن بعض الناشرين الكبار لم يتقنوا القراءة أو الكتابة، بل كانت لديهم حساسية مدهشة لبيع الكتاب ومعرفة سوقه، مما جعلتهم ناشرين ناجحين.

هنا جاء دور نادى القصة لفض هذا الاشتباك، حين أُطلقت مسابقة القصة القصيرة التى تُعقد كُل عام. وتقدم لهانحو 600 قصة وتشكّل اللجان من كُتاب النادى المرموقين ليقرؤوا الأعمال ويقيّموها. ثم يدخل خمسون عملًا مخُتارًا إلى التصفيات النهائية، ومنها يتم اختيار عشرة أعمال هى الأفضل تُنشر جميعها فى كتاب واحد.

من الإسهامات المذكورة للنادى تبنّيه «نادى القلم الدولي»، فقدم «نادى القصة» عرضًا ليكون نادى القصة مركزًا لنادى القلم فى مصر، وتم الاتفاق على ذلك عام 1955. ودُعى الدكتور طه حسين ليكون ضيف الشرف فى المؤتمر الذى يعقده النادى الدولى فى فيينا بين 12 و19 يونيو 1955، كما دُعى يوسُف السِّباعى ليمثل مصر فى المؤتمر بصفته سكرتير عام المركز المصرى لنادى القلم الدولى.

هذه المواءمة بين الناديين أسهمت بشكل واضح فى إثراء عملية التبادل الثقافى بين مصر والغرب، وتوفير مزيد من الاحتكاك الفعّال مع الآداب الأوروبية.

 

 

 

ولم يخلُ نادى القصة من العيوب، بل وُجهَ له الكثير من النقد، فعلى صفحات مجلة «الرسالة الجديدة» -التى يضم قوامها الأساسى غالبية مؤسسى نادى القصة ويرأس تحريرها يوسُف بنفسه. صدر العدد الأول يضم فى صفحته الأولى فقرة «رسالة الشهر» بقلم القارئ/ أحمد محمد مصطفى تحت عنوان: «ماذا فعل نادى القصة حتى اليوم؟!». توجه فيها مصطفى بنقد لاذع لنادى القصة وأعضائه وعلى رأسهم يوسُف السِّباعى، واتهم مصطفى النادى باهتمامه بالجانب التجارى وهو ترويج الكتاب الذهبى وبيعه، أكثر من الاهتمام بالنواحى الثقافية والأدبية ودعم النشء من الكُتِّاب -وهى المهمة الأساسية للنادي-كما أكد مصطفى أن حُكام المسابقة الكبرى بنادى القصة «حكموا بالإعدام... وعقوبات أخرى أيضًا على أكثر من قلم». وتوجه إلى السِّباعى بسؤالٍ: ماذا فعل نادى القصة للأدباء منذ قام حتى اليوم؟ وأجاب مصطفى على سؤاله: لا شيء.

واستهل يوسُف رده على هذه الرسالة -الذى وُضع فى الصفحة نفسها-بإعادة توضيح المادة الثانية من قانون النادى وهي: أ- خدمة القصة المصرية وإعلاء شأنها وإنشاء مؤسسة ثابتة لكتابها والمهتمين بأمرها، ب- تحقيق الصلة والتعارف والإخاء بين القصاصين وتنسيق جهودهم، ج. العمل على نشر القصة على أوسع نطاق، وبخاصة الجديد منها، أو ما سبق نشره فى نطاق ضيق، د. إظهار القصاصين الناشئين والعمل على نشر مؤلفاتهم، هـ. تحقيق الاتصال بينه وبين المسرح والسينما والإذاعة.

وبينما أقرّ يوسُف بعدم تحقيق كل المحاور بشكل كامل، إلّا أن النادى تمكن -رغم غياب الدعم المادى الكافى وانعدام المعونة المالية من النواحى الحكومية-من تحقيق المحورين الأول والثانى أما المحور الثالث فلخص العجز عن تحقيقه فى جملة واحدة: «إن عملية نشر الكتب لهيئة لا تملك المطابع ولا رأس المال، عملية تكاد تكون مستحيلة ولذلك وجب علينا أن نعتمد فى ذلك على دار للنشر».

وأخذ يُفند فى ما تبقى من رده سبب عجز الدار عن تحقيق المحاور الباقية، كما لم تخدعه فطنته فوجّه بدوره ضربة إلى المرسل الذى كال للنادى الضربات: «وإنى لأعجب من أنك لم تتقدم بما كتبت لاعتقادك أنها مجرد دعوة مبعثها كرم فى نفسى وأعجب أكثر من هذا أنك بنيت كل رسالتك على هذا الغرض الذى أعتقد أن سببه هو مجرد حسن ظنك بى وسوء ظنك بالنادي».

لم تكن تلك الرسالة هى الهجوم الوحيد على نادى القصة المكتوب على صفحات مجلة «الرسالة الجديدة»، فكتب المحامى عزت نجم من الإسكندرية إلى رئيس تحرير المجلة -يوسُف السِّباعي-فى عددها الرابع الصادر فى الأول من مايو 1955، مهاجمًا بلطف جزءًا من رده على السيد أحمد محمد مصطفى، حيث اتهم يوسُف بشعوره بالرثاء نحو الأدباء الجدد، هذا الشعور وحده -فى رأى نجم-هو دافعه نحو الإجابة المسترسلة على رسالة مصطفى. ويسأله: «وإنى أحب أن يحدد الأستاذ بنفس الصراحة التى يكتب بها (أحيانًا) ما المعنى الذى تتضمنه عبارة الأدباء الناشئين...؟».

وجاءت إجابة يوسُف كعادته مُفصلة لكل جزء من أركان الرسالة، فأكد أن نادى القصة ليس متهمًا بأى حال من الأحوال ليكون رده بوازع الدفاع عن النادى، وكذلك فإنه لا يملك أى شعور بالشفقة لأن ببساطة «الرثاء لا يحسه الإنسان إلّا لصاحب مصاب أو فجيعة ولست أجد فى النشوء والكفاح فى سبيل التقدم والارتقاء مصابًا يستدعى الرثاء».

وختم يوسُف رده بالإجابة عن سؤال «عبارة الأدباء الناشئين» قائلًا: «وبعد... إنى لم أُجبْك عمّن يكون الأديب الناشئ، ولست أجد لسؤالك ردًّا خيرًا من قولى إنى أنا مازلت أديبًا ناشئًا».

تلك المناوشات حول نادى القصة الذى أُطلق بفضل مساعيه، ويتولى منصب سكرتيره، والتى كُتبت على صفحة مجلة يرأس تحريرها، تستوقف القارئ قليلًا ليتفكر فى هذا الرجل.

تمنحنا الأحداث البسيطة تلك وسيلة لإعادة استكشاف شخصية قد يتهمها البعض بالديكتاتورية، لكنَّ الشواهد أكدت أنه أحبّ الحوار، ورأى فى النقد وسيلة لتصحيح النفس، وتقويم الخُطى. أو ربما أحب النقد لأن عرضه مع عرض الرد المفنِّد لهذا النقد يمنح الشاهد جميع جوانب الحكاية، مما يُسهّل إيجاد الحقيقة، والوقوف على الصواب.