الأحد 5 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
دلالة المشهد على الحدود

رأى

دلالة المشهد على الحدود

بدون صخب مدوٍّ، أو صراخ زاعق فرضت مصر نفسها بالفعل لا بالقول فى أزمة السودان الطاحنة والتى يبدو للأسف الشديد أن نهايتها ليست وشيكة.



حدود مصر الجنوبية ليست مجرد حدود. إنها تاريخ وجغرافيا وسياسة وأمن واقتصاد وسكان وأنثروبولوجيا وحضارة، والأهم من كل ذلك بشر. مصر والسودان. السودان ومصر. والمسألة ليست مجرد مناطق وأحياء يسكنها آلاف السودانيين المندمجين الملتحمين المتناغمين منذ عقود مع المصريين. هى ماضٍ وحاضر ومستقبل. ومن يحاول أو يفرض نفسه بديلًا لهذه الحدود، أو يطرح قوته تهديدًا أو ترويعًا أو تلويحًا برايات المصالح وتوازنات القوى التى لا تراعى تاريخًا أو قدرًا قد يفرض صوته العالى حينًا، لكن العبرة بالخواتيم. 

والخواتيم لا تظهر بين يوم وليلة، بل هى نتاج قرون من التاريخ. والتاريخ ليس كلمات مكتوبة أو وثائق تكشف عنها دولة كذا بحكم القانون الذى يجبرها على الكشف عن الوثائق «السرية» التى مر عليها عدد معين من السنوات. كما أنه ليس وجهة نظر يكتبها أحدهم اليوم، وينقضها آخر غدًا. التاريخ هو ما نعاصر إرهاصاته وآثاره وانتصاراته وانتكاساته اليوم وغدًا. 

لذلك فإن الكارثة المروعة التى تدور رحاها فى السودان لا يمكن أن تكون إلا «كارثة ذات وجه مصرى». هذا الوجه ليس تدخلًا فى شؤون دولة جارة شقيقة بغض النظر عن سموم تيار «الغبرة» المسمى بالإسلام السياسى. كما أنه ليس عينًا على موارد طبيعية تشكل نقطة جذب لقوى عديدة فى المنطقة وخارجها. كما أنه ليس قفزة صبيانية فى وقت أزمة بغية جنى مكاسب آنية. ولا هو فرصة ذهبية للتدخل بغرض ضرب دولة نكن لها عداء أو ألحقت بنا بلاء. كارثة السودان الحالية وما سبقها من كوارث، وما يتلوها من كوارث (لا قدر الله) لها وجه مصرى،  لأن المصير واحد، وكذلك المصالح والمكاسب والعكس صحيح. 

وبالإضافة إلى الجوانب الإنسانية والتى تشكل جزءًا أصيلًا من تكوين مصر والمصريين، هناك جوانب جغرافية وسياسية واستراتيجية وأمنية والقائمة تطول. هذه الجوانب لا تترك حيزًا لمصر أو مساحة للسودان أو خيارًا لكليهما أن يحاولا أو يتظاهرا أو حتى يتملصا من المصير المشترك. 

السياسة ليست إلا حسابات، وكذلك الاقتصاد لأن كليهما قائم على حساب المكسب والخسارة. أما العلاقات الإنسانية والأولويات البشرية والأخوة الحقيقية فلا حسابات فيها أو مصالح. ليس هذا فقط، بل كثيرًا ما تتغاضى الأطراف المتنازعة على نزاعاتها أمام أول نداء إنسانى.

المشهد الدائر الآن عند حدود مصر الجنوبية مع السودان الشقيق فعلًا لا قولًا، ترجمة فعلية للأولوية الإنسانية. وتصورى الأقرب إلى اليقين أنه لو كان ما يجرى فى السودان، جرى فى مصر لا قدر الله، فإن الجار الجنوبى كان سيفعل الشيء نفسه. 

حركة الباصات المستمرة التى تنقل الآلاف القادمين من السودان إلى مصر، من مصريين وسودانيين وجنسيات عربية وغير عربية، وتيسير عملية المرور (بعد التدقيق فى هويات العابرين) دحضت ما جاهدت أنظمة فى مشارق الأرض ومغاربها، ومنها ما هو فى الإقليم، ومعها أبواقها ومنصاتها الإعلامية «الرصينة» لتثبت عكسه. 

بين كارثة وضحاها، أصبحت التغطيات والتقارير الخبرية «رحلة الخلاص من نار الحرب فى السودان إلى مصر» «مصر تستقبل الهاربين من جحيم الصراع جنوبًا» «مئات الحافلات تنقذ الآلاف من المعرضين للقتل وشبح المجاعة»، وذلك بعد سنوات من قصص العذاب والتنكيل والألم التى تناقلتها هذه المنصات «الرصينة» ومعها العديد من المنظمات الحقوقية، والباقى معروف للجميع. 

كتب الله الأمن للسودان والسلامة للسودانيين وأظهر الحق والحقيقة دون صخب أو ادعاء.