الأحد 5 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
الجدعنة الإنجابية

الجدعنة الإنجابية

كلما نظرت إلى جموع الأطفال من عمال المحلات والدليفرى وسائقى التوك توك وجامعى القمامة والمصاحبين للمتسولين والمتسولات والقائمين على أمر التسول وحدهم، يزداد يقينى بأن ثقافة الإنجاب معدومة لدى كثيرين. وربما الثقافة موجودة ولكنها تسير فى اتجاه معاكس. انجب أكثر، تكسب أكثر. هذا هو التفسير الوحيد المتاح لهذه الظاهرة الإنجابية العشوائية الفوضوية.



والحقيقة أنها ليست ظاهرة فقط، كما أنها تتعدى منظومة الحقوق الشخصية والفردية حيث كل منا يقرر متى ينجب كم ولماذا.

لماذا؟ لأن قرار الإنجاب لا ينبغى أن يكون أنانيًا. أنت لا تنجب لأنك تريد أن تنجب «وخلاص». ماذا عمن تنجبهم وحقوقهم؟ منظر الصغار الذين أفقدهم العمل المضنى وغير الآدمى والإقامة فى الشارع معظم ساعات النهار والليل طفولتهم وبراءتهم بالغ القبح والإيلام. لكنه لا يؤلم أقرب الأقربين على الأرجح. بل الغريب أن البعض يجمل القبح ويضفى عليه سمات الرجولة والجدعنة إلخ معتبرين أن حرمان الصغير من التعليم والتنشئة ولعب الطفولة ميزة وجدعنة!.

الجدعنة الحقيقية هى الاختيار الواعى والمسئول والنابع من معرفة، وليس المرتكز على أن العيل بييجى برزقه أو القائم على ترديد دعاء درء الفقر، وإن لم يتم درؤه فتحمله. الجدعنة الإنجابية لها شقان: الأول مسؤولية المُنجِب والمنجبة حيث يختارا ما يُناسب ظروفهما وقدراتهما وأولوياتهما، لا ما يناسب ظروف المتصدقين أو المتبرعين ممن يعول عليهم لإخراج جانب مما فى جيوبهم أو حساباتهم المصرفية أو دواليب غرف نومهم لمساعدة هذه الأسرة لشراء كيلو لحمة أو أحذية للصغار، أو لسداد القيمة المنصوص عليها فى إيصالات الأمانة التى وقعتها فلانة حتى تشترى 75 طقم سرير وثلاجة 30 قدمًا وشاشتى تليفزيون وغرفة أطفال للابنة المحروسة العروسة.

وهذا لا يعنى معاداة المسئولية المجتمعية أو إلغاء التراحم والتكاتف، لكنه يعنى تطبيق فقه الأولويات. الأولى بالتبرعات والصدقات هم المرضى الباحثين عن علاج وليس العرائس الباحثات عن طقم صينى ألف قطعة.

لذلك فإن قرار الإنجاب يجب أن يصدر عن حق فى الاختيار وكذلك وعى بأبعاد هذا الحق. تقرير صندوق الأمم المتحدة للسكان الصادر قبل أيام عن حالة سكان العالم 2023 وعنوانه «ثمانية مليارات نسمة وإمكانات لا متناهية.. قضية الحقوق والخيارات» يسلط الضوء على الحق المبنى على معرفة. الثمانية مليارات، تعداد سكان الأرض، قادرون أن يكونوا نعمة لا نقمة. لكن النعمة لها مقاييس أيضًا. فضخ العيال بغرض الضخ  -بغض النظر عن اختلاف المسميات سوءًا الدنيوية أو الدينية- ليس نعمة. لكن حين يكون الضخ مصحوبًا بوعى ومعرفة واحترام لحقوق العيال القادمين لإعمار الدنيا يكون نعمة. والتعامل الرسمى فى كل العالم مع قرارات الإنجاب من منطلق إنها «أقل مما ينبغى» أو «أكثر من اللازم» -كما يخبرنا التقرير- يجعل الأسرة، لا سيما الأم أقرب ما تكون إلى آلة إنجاب نضبط أدائها ليناسب القرارات الحكومية.

وهنا يأتى الشق الثانى الخاص بـ «الجدعنة الإنجابية». الدول والحكومات ومؤسساتها عليها أن تعدل من الفكر الإنجابى لديها، وبدلًا من أن تكون أداة لضبط معدلات الإنجاب زيادة أو نقصانًا، عليها أن تزود المواطنات والمواطنين بأسلحة العلم والمعرفة والوعى ليتم اتخاذ القرارات الإنجابية بناء على معلومات ووعى، وليس بناء على «عيل بييجى برزقه» أو حاجة إلى المزيد أو الأقل دون شرح الأسباب.