الإثنين 27 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

طبيب نفسى يبوح لمريضه بالسر

شاهدت فيلمًا تسجيليًا عرفت عنه بالصدفة وأنا أقرأ عن موضوع التعافى بالكتابة، وذكرت المتخصّصة اسم الفيلم الذى لم أكن واثقة من اسمه جيدًا، بدأت البحث عن الفيلم، وجدته، وإذ بى أقضى نحو الساعة وثلث الساعة فى انبهار وتركيز شديدين, لم أكن أتوقع أن أغوص فى ذلك الفيلم الذى يعد- بالنسبة لى- مرجعًا نفسيًا للوعى الذاتى ولتفسير جوانب كثيرة من التساؤلات والتحديات النفسية التى تمر علينا ونعيش فيها.



الفيلم بعنوان «Stutz»- نسبة إلى الطبيب النفسى «فيل ستاتز»، وهو موضوع الفيلم.

الحقيقة أن الطبيب ليس وحده موضوع الفيلم؛ بل مريضه النفسى أيضًا محور الفيلم، والمدهش أن المريض هو نفسه مخرج الفيلم Jonah Hill فيلم يدور فى مكان واحد؛ حيث حوار متبادل بين الطبيب ومريضه المخرج يأخذك فى عوالم داخل ذاتك وذواتهما.

الفيلم الذى- رغم الانتقادات التى تعرّض لها- حيث يَعرض جوانب من الحياة الخاصة لكل من الطبيب والمريض، أراه ليس مجرد فيلم إنما هو مساحة آمنة للبوح والاكتشاف والارتقاء، ففى الوقت الذى يعترف به الإنسان بضعفه، يقوده إلى اكتشاف عوالم جديدة لم تكن مسخّرة له وهو يدّعى القوة المزيفة.

فيلم «Stutz»- هو طرح شخصى للمخرج «چونا هيل» الذى قرر أن يشاركنا معالجه، فيل ستوتز بجوانب إنسانية من حياته، والهدف الأساسى هو أن يعرض ويشارك الجمهور «الأدوات» التى ابتكرها ستاتز مثل مفهوم «الظل» و«قوة الحياة» و«العامل المجهول» و«تدفق الامتنان» والمزيد.

 

 

 

هذه تقنيات تتطلب تخيُّل عينيك عن قرب، ولكنها مليئة بمسارات مفاجئة للتغلب على الحزن أو القلق. يجب أن يتم سماعها من المصدر ورؤيتها مع رسومات ستاتز ليتم فهمها بشكل أفضل؛ بدلًا من وضعها جميعًا فى كتاب.

بالصورة الحية والحكى المتدفق يستعرض ستاتز تلك الأدوات التى قد تكون وسيلة فعالة لفهم الذات وإعادة بناء علاقة طيبة مع الذات، ويحكى المخرج كيف أن هذه الأدوات كانت بمثابة التحول النوعى فى حياته من شخص يعانى الاضطراب والتوتر والقلق والخوف إلى شخص يريد أن يساعد الناس بالكشف عن تجربته ورحلة تطوره فى العلاج مع الطبيب النفسى ستاتز الذى لم يعد مجرد طبيب بالنسبة له؛ لكنه صديق مقرب شاركه رحلة التعافى.

رحلة يوم

يأخذنا الفيلم فى رحلة «اليوم الواحد» من التصوير لجلسة طويلة بين دكتور ستاتز والمخرج هيل للكشف عن الأدوات والتعاليم التى يمكن أن تنقلنا إلى حياة أفضل. وعندما نصل إلى ثلث الفيلم تقريبًا كانت المفاجأة-غير المتوقعة- وهى أن هذا الفيلم قد تم تصويره على مدار عامين تقريبًا  وليس يومًا واحدًا- رغم أن المكان واحد، ملابس الطبيب والمخرج التى لم تتغير طوال التصوير.

وكشف المخرج هذا السّر للجمهور فى منتصف الفيلم، فالمكان هو استديو يستخدم « الكرومة الخضراء بخلفية مكتبة» إيحاءًبأنه مكتب الطبيب لإقناع المُشاهد بأن الجلسة تمت فى عيادة الطبيب بالإضافة إلى «راكور وثبات» الملابس- حتى شعر المخرج الذى استعان بباروكة خلال عامَىْ التصوير. وكانت هذه هى الرحلة النفسية التى أخذنا فيها المخرج بالتوازى مع رحلة علاجه.

الفيلم لا يعتمد على النصائح الطبية ولا نقل تعاليم المساعدة النفسية؛ بل معايشة متبادلة بين الطبيب ومريضه، الطبيب الذى يبلغ 74 سنة ويعانى من مرض الباركنسون الذى يرسم البطاقات الخطية العلاجية بيد مرتعشة، الطبيب الذى يتحدث عن علاقته العاطفية بالمرأة التى أحبها على مدار 40 سنة وهى علاقة متقطعة غير مستقرة على مدار العقود الأربعة، الطبيب ستاتز الذى يتحدث عن مخاوفه من الالتزام بالعلاقة ويتكلم عن والديه وعن فقْد أخيه الذى كان سببًا فى أن يعيش جزءًا كبيرًا من حياته بأكثر من معنى.

بمنتهى القوة يتحدث ستاتز عن أن إدراكنا بالضعف الإنسانى أو بنقاط ضعفنا قد يكون هو مصدر الوعى والارتقاء والتحرك بحياتنا إلى مسار أفضل.

الفيلم يأخذ طابعًا شديد الألفة والراحة؛ حيث إننى لم أشعر أننى أشاهد فيلمًا؛ بل يصدر حالة من الصراحة والجرأة التى لا تملك إلا تقديرها واحترامها- أن هناك أشخاصًا يشاركونك بشكل شخصى جزءًا من صندوقهم الأسْوَد ويطلعونك على بعض ما فيه بدافع نبيل وبدافع المساعدة.

الحوار تلقائى وأروع ما فيه أن هناك أجزاءً كبيرة منه لم يكن معروفًا بالنسبة لستاتز أنها مصورة، ولكنه وافق عليها، العلاقة بين ستاتز وهيل تأخذ طابعًا فيه الكثير من الدعابات الذكية والحكى المتدفق والأسئلة التى يرفض أحدهما الرد عليها.

يتكلم ستاتز عن رفضه للنمط التقليدى لبعض مدارس المعالجين الذين لا يتخطون رغبة المريض إذا لم يرد اتخاذ خطوات نحو تقدم علاجه فيقول: «أنا لست مراقبًا للمريض فحسب؛ بل أنا أعقد معه اتفاقًا والتزامًا بضرورة أن يلتزم بتوجيهاتى وأحيانًا لا أسمح له بالخيار». 

يستعرض ستاتز بعض الأدوات التى لو اتبعها المريض سيكون على ما يرام إذا كان بحق واعيًا لها ومنفذًا جيدًا.

ولكن قبل أن أتكلم عن أدوات ستاتز؛ لا بُدّ أن نفهم أولًا ما معنى أدوات؟

الأداة كما فسّرها ستاتز لهيل هى الشىء الذى له قوة تغيير مزاج المريض ثم تغيير إحساسه من الداخل، ومن ثم يشعر أن هناك أملاً من خطة العلاج، وهذه الأدوات لا بُدّ أن تكون تمرينات بصرية مثل الرسومات أو المخططات؛ حيث إن الرسم والخطوط لها تأثير أقوى من الكلمة المنطوقة، ومن هنا يتكلم ستاتز عن سحر الكتابة فى العلاج، فهى بمثابة جسر يربط بين فهمك للمشكلة وبين الطرف الآخر، أو جسر التواصل والفهم بين الشخص وذاته فيتعرف عليها أكثر؛ بل تقوى العلاقة معها.

 

 

 

إحدى الأدوات المهمة التى تحدّث عنها ستاتز هى قوة الحياة أو Life Force.

هذه الأداة هى أن تعى أن هناك ثلاثة مستويات فى هرم حياتك؛ أولها علاقتك بجسدك وهى قاعدة الهرم والتى إن لم تكن قوية لن ترتكز عليها أى مستويات أخرى، وتعنى العلاقة بصحتك ورياضتك وغذائك، فالعلاقة بالجسد هى فى الأساس صحة نفسية وليست بدنية فحسب.

والمستوى الثانى هو علاقتك بالناس، وهنا يوضح ستاتز خطورة الاستسلام لأفكارك بالابتعاد عن الناس تحت أى مسمى مثل فقدان التواصل أو الشغف أو القدرة على ممارسة الاجتماعيات.

فالعلاقات مع الناس بشكل صحى والجهاد فى ذلك الاتجاه مثل الدعائم التى نرتكز عليها لتسلق أى جبل.

ويقول لـ چونا هيل: مَهما كان شعورك بالاكتئاب لا بُدّ أن تأخذ المبادرة بلقاء الناس والتواصل معهم وبناء علاقات صحية معهم. والمستوى الثالث وهو الأعلى والأكثر روحانية وهو العلاقة مع الذات واكتشافها والتصالح معها وقبولها ودعمها، وهنا يؤكد ستاتز على أهمية الكتابة فى تلك الرحلة الاستكشافية.

والأداة المثيرة للانتباه التى تكلم عنها ستاتز هى العامل المجهول: وهى بمثابة الشخصية الشريرة المحرّضة لنا والتى تمنعنا من الوصول إلى طاقتنا الكامنة، ذلك الصوت الداخلى الذى سَمّاه «صوت المستحيل» الذى يقول لنا دومًا: «أنت لا تستطيع؛ لا يمكنك المقاومة».

وهنا سأل المخرج معالجه: كيف يمكننى التخلص من ذلك العامل المجهول بداخلى؟

بمنتهى الحسم والوضوح أجاب ستاتز: لا يمكن لأحد أن يتخلص من العامل المجهول، يمكنك أن تنتصر فى جولة ما عليه، لكن سيأتى مرة أخرى ويلعب دوره، فلولا هذه الشخصية الشريرة ولولا محاولة مقاومتها ما كان هناك قصة من الأساس، فذلك الصوت المزعج هو مهم جدًا لاستمراريتنا فى الحياة، لإقدامنا نحو المستقبل، لنتطور، لنفهم غايات أخرى ومعانى أخرى للحياة.

فالحياة لا تكتمل إلا بجوانب ثلاثة: الألم، وهو يحدث ويتكرر دائمًا لكل إنسان، الجانب الآخر هو المجهول والجانب الثالث، وهو العمل الدءوب الذى يدفعنا للحياة ومقاومة آلامها ومجهولها.

يحكى المخرج والمريض فى الوقت نفسه قائلًا: «عندما أتيت لك منذ سنوات طويلة كنت أبحث عن السعادة وكنت أسألك كيف يمكننى أن أجدها بداخلى ومع الوقت أدركت من خلال الأدوات التى بدأت أطبقها أن البحث عن السعادة هو شعور لا يتحقق إلا باجتياز الرحلة، رحلة التعلم وهى كيف تجعل من المصائب والتحديات فرصة لاكتشاف العالم، واستخدام تلك الأدوات يمكن أن تُحدث تغييرًا جذريًا لو امتلكت شجاعة الاعتراف بمناطق الهشاشة النفسية بداخلك.

روعة هذا الفيلم فى معادلته الإنسانية الراقية، فصدقه هو أن الطبيب ذا العلم وامتلاك الأدوات والمعالج الخبير يعترف لمريضه فى نهايات الفيلم أنه يعيد حساباته وأفكاره فى مواجهة مخاوفه فى أن يجعل من علاقته بمحبوبته علاقة مستقرة بعد أن ظلت 40 سنة فى حالة زعزعة وخوف من الالتزام.

لقد فعلها فيلم ستاتز وحقق هدفين معًا: رحلة العلاقة بين المريض ومعالجه، وإظهار الأدوات الحقيقية للقوة الكامنة.

الفيلم يحمل رسالة ليس فيها أى رؤية فوقية من معالج لمريض، فامتلاك حقيقة ما يدور فى النفس البشرية وهْمٌ غير موجود، كلنا باختلاف أدوارنا وخبراتنا تأتى علينا لحظات يقول فيها كل منا لنفسه: «لست قادرًا على أن أسير وحدى، أريد يد المساعدة.. لا أريد أن أكون وحدى».

قال المخرج چونا هيل تلك الجملة واتبعها بكلمة cut أو أوقفوا التصوير.

فنظر الدكتور فيل ستاتز إليه ثم إلى الكاميرا بدهشة متسائلًا: هل كنتم تصورون ذلك؟