الجمعة 3 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

ورد صناعـــى

ارتدت مينا فستانها ذا الحمّالات، الذى علقته ليلة أمس بجوار الفِراش، وقلّبت فى غبشة الفجر صندوق الملابس بحثًا عن الكمَّين المنفصلين، ثم بحثت عنهما على مسامير الجدران وخلف الأبواب، محاولة عدم إحداث ضجة كى لا توقظ جدتها الكفيفة التى تنام فى الحجرة ذاتها. ولكنها عندما اعتادت على الظلمة، انتبهت إلى أن الجدة كانت قد استيقظت بالفعل، فذهبت إلى المطبخ لتسألها عن الكمَّين؛ فأجابتها: «ستجديهما فى الحَمَّام، لقد غسلتهما مساء أمس».



كانا هناك بالفعل، معلقين على سلم معدنى بمشبكين خشبيين. وكانا لا يزالان مبتلين.

عادت بهما مينا إلى المطبخ وفردت الكمّين على أحجار الموقد. وكانت الضريرة أمامها تحرك القهوة، وبؤبؤا عينيها الميتين صوب حافة الشرفة المبنية بالآجر؛ حيث يوجد صف أصُص أعشاب طبية كئيبة المنظر. وهتفت مينا فى ضجر: «لا تقتربى من أشيائى، ففى هذه الأيام لا يمكن الاعتماد على الشمس فى تجفيف الثياب».

أدارت العجوز وجهها باتجاه الصوت وهمهمت: «ممم.. نسيت إنه أول يوم جمعة».

وبعد أن أدركت، باستنشاق نفَس عميق، أن القهوة صارت جاهزة، رفعت الإناء عن الموقد وهى تنحها محذرة: «هذه الأحجار متسخة، ضعى ورقًا تحت الكمّين».

مرت مينا بطرَف إصبعها على أحجار الموقد. كانت متسخة تكسوها قشرة من الهباب المتيبس الذى لا يغادر القماش ما لم يُفرَك بالحَجر.

هتفت مينا بتبرم: «إذا اتسخا ستكونين أنت المسئولة».

كانت الكفيفة قد صبت القهوة فى فنجانها ببرود. وقالت وهى تدفع كرسيًا نحو الشرفة: «إنك غاضبة، هذ واضح، لكن إذا تناول الإنسان لقمة القربان وهو غاضب فهو تجديف!» وجلست لتشرب القهوة أمام ورود الحوش. 

وعندما دوت دقة ناقوس القداس، تناولت مينا الكمّين عن الموقد، وكانا لا يزالان مبتلين.

ولكنها ارتدتهما رغم كل شىء؛ فالأب آنخل لن يقدم لها لقمة القربان وهى فى فستان يكشف عن الكتفين. لم تغسل وجهها. أزالت آثار حمرة الشفاه بالمنشفة، وتناولت من الغرفة كتاب الصلوات والشال، وخرجت إلى الشارع، وبعد ربع ساعة عادت.

شعرت بها الكفيفة وهى تجلس قبالة ورود الفناء، فغمغمت بتهكم: «ستصلين بعد صلاة التبشير!»

دخلت مينا مباشرة إلى الحمّام، وهى تقول: «لا يمكننى الذهاب إلى القداس، فالكمّان مبللان، وملابسى كلها غير مكوية».

شعرت بأن نظرة جدتها الضريرة تتابعها وهى تؤنبها: «إنه أول يوم جمعة، ولن تذهبى إلى القداس».

 

 

 

لدى عودتها من الحمّام، صبت مينا لنفسها فنجان قهوة وجلست مستندة إلى حافة الباب الذى تقشر جير طلائه بجانب جدتها. لكنها لم تستطع شرب القهوة. خنقها الدمع وهى تدمدم بكراهية مكتومة: «أنت السبب».

هتفت الجدة: «هل تبكين؟»

وضعت مرشة الرى بجانب أصُص البنفسج وخرجت إلى الفناء تتمتم: «إنك تبكين».

وضعت مينا الفنجان على الأرض قبل أن تنهض وتقترب من جدتها مجيبة: «إننى أبكى من القهر! عليك أن تذهبى للاعتراف لأنك تسببت فى إضاعتى تناول لقمة قربان أول يوم جمعة».

ظلت الجدة ثابتة دون حراك بانتظار أن تغلق مينا باب غرفة النوم. ثم مشت بعد ذلك إلى أقصى الشرفة. وانحنت تتحسّس الأشياء حتى وجدت على الأرض الفنجان الذى لم يُمَس. وبينما هى تصب القهوة فى الفنجان الخزفى، قالت: «الله يعلم أن نيتى خير».

خرجت أم مينا من غرفة النوم تتساءل: «مع مَن تتحدثين؟»

«لا أحد». قالت الكفيفة، «ألم يخبروك أننى قد صرت مجنونة!».

فكّت مينا أزرار حمّالتها وهى تُغلق على نفسها باب غرفتها، وأخرجت ثلاثة مفاتيح صغيرة تحملها بدبوس مشبك صغير. وبأحد تلك المفاتيح فتحت درج الخزانة السفلى، وأخرجت صندوقًا خشبيًا صغيرًا. فتحته بمفتاح آخر. وكانت فيه طائفة من رسائل على ورق ملون، مربوطة بشريط مطاطى خبأتها فى حمالتها، ووضعت الصندوق الصغير فى مكانه، وأعادت إغلاق الدرج بالمفتاح. ثم ذهبت إلى الحمّام ورمت فيه الرسائل.

 «ظننتك فى القداس» سمعت أمّها. وتدخلت الجدة: «لم تستطع الذهاب، فقد نسيت أنه يوم الجمعة الأول وغسلت الكمّين مساء أمس.»

«وما زالا مبتلين بفضلك!» دمدمت مينا.

غمغمت الجدة: «العمل كثير هذه الأيام؟»

أجابتها مينا: «مئة وخمسون دستة ورود كان عليّ تسليمها فى يوم العيد».

اشتعل قرص الشمس قبل الأوان. وقُبيل السابعة وضبت مينا ورشة ورودها الاصطناعية فى الصالة: سلة ممتلئة بالبتلات والأسلاك، وصندوق من ورق مطاطى طرى، ومقصّين، وبكرة خيط، وعلبة غراء. بعد قليل جاءت ترينيداد حاملة تحت إبطها علبة من الورق المقوى؛ لتسألها عن سبب عدم ذهابها إلى القداس.

«ليس لدى أكمام، ظننت هذا واضحًا!»

هزت ترينيداد كتفيها وقالت ببساطة: «كان بوسعك اقتراض كمّين من أى شخص». وسحبت مقعدًا لتجلس بجانب سلة بتلات الورد.

أجابتها مينا: «كان الوقت قد تأخر».

ثم قربت السلة وجعّدت البتلات بالمقص. أنهت وردة. ووضعت ترينيداد علبة الورق المقوى على الأرض وتدخلت فى العمل. تأملت مينا العلبة بطرف عينها وسألتها: «هل اشتريت حذاء؟»

- «إنها فئران ميتة!!»

 ترينيداد خبيرة فى تجعيد البتلات، فانهمكت مينا فى صنع السيقان من أسلاك مغلفة بورق أخضر يشبه الزرع الحقيقى عملتا بصمت دون أن تنتبها إلى الشمس التى تتقدم زاحفة فى الصالة المزينة بلوحات ريفية ساذجة وصور عائلية حميمة. وعندما أنهت مينا سوق الورد التفتت إلى ترينيداد بوجه بدا سابحًا فى عالم خرافى كانت ترينيداد تُجعد البتلات بدقة مدهشة، وهى لا تكاد تحرك رؤوس أصابعها، وساقاها ملتصقتان تمامًا. لاحظت مينا حذاءها الرجالى، وتفادت ترينيداد النظرة، دون أن ترفع رأسها، بسحب قدميها قليلًا إلى الوراء، وتوقفت عن العمل. وتمتمت مرتبكة: «ماذا هناك؟»

انحنت مينا نحوها. وقالت: «لقد رحل».

أفلتت ترينيداد المقص فى حضنها.

- «لا!»

- «لقد رحل». كررت مينا، فنظرت إليها ترينيداد دون أن يطرف لها جفن. وقسمت تجعيدة عمودية حاجبيها المقطبين المتصلين. «والآن؟» سألت واجمة.

فردت مينا دون أن يرتعد صوتها: «الآن، لا شىء».

ودّعتها ترينيداد قبل الساعة العاشرة. وقبل أن تتحرر من عناء مودتها، أوقفتها مينا لحظة كى تلقى الفئران الميتة فى المرحاض. وكانت الكفيفة تنزع الشوك من شجيرة الورد. قالت لها مينا عندما لمحتها: «أراهن أنك لا تعرفين ما أحمله فى هذه العلبة».

أعقبت قولها بأن هزت الفئران فى العلبة. فأصغت العمياء بانتباه. وطلبت منها: «هزّى مرّة أخرى».

كررت مينا الحركة، لكن العجوز الضريرة لم تستطع تحديد محتوى العلبة بعد المرة الثالثة وهى توجه صوان أذنها بإصبعها السبابة. فقالت مينا أخيرًا: «إنها الفئران التى وقعت الليلة الماضية فى مصائد الكنيسة.»

  وعند عودتها مرت بجانب جدتها مرة أخرى لكنها لم تتكلم. فتبعتها العمياء. وعندما وصلت إلى الصالة، كانت مينا وحدها عند النافذة المغلقة، تنهى الورد الصناعى «مينا، إذا أردت أن تكونى سعيدة، عليك ألا تثقى بالغرباء نهائيًا».

نظرت إليها مينا دون أن تنبس ببنت شفة. فاحتلت الجدة المقعد المقابل وحاولت التدخل فى العمل. لكن مينا منعتها.

- «إنك عصبية».

- «بسببك».

- «القداس كان سيريحك نوعا».

- «لم أذهب».

- «لماذا؟».

- «أنت تعرفين السبب أفضل من أى شخص آخر».

- «لو أن الكمّين هما حجتك لما كنتِ غادرتِ المنزل. هناك من كان ينتظرك فى الطريق وسبب لك إزعاجًا».

مرّت مينا بيديها أمام عينى جدتها، كأنها تنظف لوح زجاج.

- «أنت تقرئين الطالع أيضًا!».

- «لقد ذهبتِ مرتين إلى الحمّام هذا الصباح!».

- «وإذن؟».

- «وأنت لا تذهبين إليه عادة سوى مرة واحدة».

واصلت مينا صنع الورود.

«طيب، هل تجرئين على أن تكشفى لى ما تخبئينه فى درج الخزانة؟».  

بهدوء تام، غرست مينا الوردة فى إطار النافذة، وأخرجت المفاتيح الصغيرة الثلاثة من حمالتها، ووضعتها فى يد الضريرة. وأطبقت لها هى نفسها أصابعها.

-»اذهبى وانظرى بعينيك!».

تلمست الجدة الضريرة المفاتيح الصغيرة برؤوس أصابعها وقالت ببرود: «عيناى لا تستطيعان رؤية ما فى قاع المرحاض».

رفعت مينا رأسها وشعرت عندئذٍ بإحساس مختلف: «فلماذا شعرت أن جدتها تعرف أنها تنظر إليها؟ ألقى بنفسك إلى حفرة المرحاض إذا كانت أمورى تهمك إلى هذا الحد».

تجاهلت الجدة الاعتراض. وقالت بعناد: «إنك تكتبين دومًا فى السرير حتى الفجر».

- «أنت نفسك تطفئين النور».

- «وسرعان ما تشعلين المصباح اليدوى، ومن نغمات أنفاسك أستطيع أن أخبرك عندئذٍ بما تكتبينه».

بذلت مينا أقصى ما فى وسعها لضبط أعصابها. وفى النهاية تمتمت بوجوم دون أن ترفع رأسها: «وليكن، فلنفترض أن الأمر كذلك؛ ما الغريب فى هذا؟».

- «ما غريب إلا الشيطان، لا شىء سوى أنه جعلك تتخلفين عن تناول خبز قربان أول يوم جمعة».

جمعت مينا بكلتا يديها لفافة الأسلاك، وعلبة الغراء والمقص، وباقة السوق والورود غير المنتهية. ووضعت كل ذلك فى السلة، وواجهت الكفيفة المبصرة.

- «أنت تريدين إذن أن أخبرك بما ذهبت أفعله فى المرحاض؟». وظلتا صامتتين إلى أن أجابت مينا بنفسها عن سؤالها: «ذهبت لأتبرز».

ألقت الجدة الضريرة المفاتيح الصغيرة الثلاثة فى السلة «ليكن، هذا أنسب» دمدمت وهى تتجه نحو المطبخ، «وكان يمكن لك أن تقنعينى لو لم تكن المرة الأولى فى حياتك التى أسمعك فيها تتلفظين بكلمة بذيئة».

وكانت أم مينا آتية من الردهة فى الاتجاه المقابل، تحمل باقات أزهار ذات أشواك. سألتهما: «ما الذى يحدث؟».

-«يحدث أننى مجنونة!» قالت الجدة، «ولكن يبدو أنهم لا يفكرون فى إرسالى إلى مستشفى المجاذيب ما دمت لم أبدأ بعد برمى الحجارة على الناس فى الشارع!».