
رضوان السيد
الجيش والميليشيا ومصائر الدولة الوطنية
ما كان السوسيولوجى الألمانى ماكس فيبر (1864 - 1920) الذى قال إن الدولة هى التى تملك وحدها حق أو شرعية الإرغام، يفكر بتوماس هوبز (1588 - 1679) صاحب «الليفياثان» الذى اعتبر أن الدولة هى المنقذ من «حرب الكل على الكل» قبل ذلك بما يزيد على المائتى عام؛ بل كان يقرر ما استقر عليه الأمر فى زمن الدولة القومية من النواحى الدستورية والقانونية.
إن «ثقافة الدولة» هذه، تواجه تحدياتٍ كبرى فى الزمن الثالث للدولة الوطنية العربية. كان الزمن الأول هو زمن الاستقلال، أما الزمن الثانى لها فهو زمن السلطات العسكرية التى سادت خلال عقدٍ فى عشر دولٍ عربية. كانت ثقافة الدولة البادئة فى زمن الاستقلال مشهودة القوة ومعها شرعية الكفاح ضد الاستعمار. لكنْ صدعتْها القضية الفلسطينية، وصدعتها تدخلات الاستعمار السابق، والإمبريالية الأمريكية فى زمن الحرب الباردة. أما السلطات العسكرية التى سادت طويلاً بالتلاؤم مع أحد الجبارين؛ فقد صدعتها ضآلة الإنجازات، وحلول حقبة الهيمنة الأمريكية (قارن بكتاب نزيه الأيوبى: «تضخيم الدولة العربية»)، وحركات ما بعد عام 2010، دولنا الآن فى الزمن الثالث للدولة الوطنية. وهى - فيما عدا مصر - تعانى فى المشرق والمغرب من ظاهرتين أساسيتين: مخاضات حقبة الانتقال التى لا يبدو أنها ستتبلور قريباً فى شرعياتٍ بديلة أو متجددة. والظاهرة الثانية فى حقبة عدم التأكد هذه تتعدد السلطات التى لا تبدو إحداها أكثر «شرعية» من الأُخرى. ومن مظاهر المخاض انكسار ظواهر الانتقال الناجح فى تجارب بدت واعدة مثل تونس، ومن مظاهره تفاقم التدخلات الإقليمية والدولية.
أما الظاهرة الثانية الأخطر، وأعنى بها تعدد السلطات، التى تعنى الافتقار الكبير إلى ثقافة الدولة الواحدة أو السلطة الواحدة. هناك دولٌ انقسم فيها الجيش على نفسه. وهناك دولٌ ظهرت فيها ميليشيات لديها سلطات مناطقية أو تتقاسم السلطة مع الجيش أو السلطة القائمة.
دويلات الميليشيات هذه لها قصة تستحق أن تُروى، وإن بإيجاز. أقدم الميليشيات ظهوراً كانت فى لبنان. لكنها كانت تنتهى عندما تنحل الأزمة السياسية الناجمة عن التقاسم الطائفى أو عن التدخلات الخارجية. وهو الأمر الذى حسبنا أنه سينتهى بانتهاء الحرب الأهلية (1975 - 1990). لكن هناك ميليشيا واحدة لم تنتهِ، هى ميليشيا «حزب الله»، ويقال إنها تُركت بسلاحها لأنها تقاتل الاحتلال الإسرائيلى، مع أن ذلك ينبغى أن يكون من مهمات الجيش الوطنى والعلاقات الدولية. الواقع أن الميليشيا استمرت لأن إيران أنشأتها لأهدافها الاستراتيجية. وهى سياسة إيرانية صارت معروفة فى عدة دولٍ عربية، مثل العراق وسوريا واليمن. المهم الآن أن الميليشيا صارت فى قوة الجيش الوطنى أو أقوى، وكانت تسيطر فى مناطق. أما الآن، فإنها تسيطر على القرار السياسى وقرار الحرب والسلم فى الدولة كلها. والعراق حالة فريدة، لأنه عندما ظهرت الميلشيات المسلحة كان الجيش ما عاد موجوداً بعد أن حله الأمريكان الغزاة. واليوم هناك عشرات الميليشيات بالعراق كلها موالية لإيران، ولا تتشكل الحكومات إلا بالشروط الإيرانية. وفى سوريا ما انقسم الجيش حقاً، لكن الميليشيات الموالية للجيش والمعارضة له تسود فى مناطق لا تسيطر عليها السلطة، ويحميها الوجود الأمريكى والتركى، بينما فى مناطق سيطرة النظام تنتشر ميليشيات عديدة وبعضها آتٍ من العراق ولبنان وأفغانستان وباكستان، وهى من صنع إيراني. وحالة اليمن أسوأ من حالتى لبنان وسوريا مع الميلشيات الحوثية التى تشن الحرب على اليمنيين الآخرين منذ قرابة العقد. وأقدم الميليشيات توجد فى الصومال، وما أمكن إخضاعها رغم المساعدات الأفريقية والدولية للحكومة الشرعية!
وإذا اعتبرنا الحالة اللبنانية ناجمة عن ضعف السلطة المركزية، والانقسام الطائفى الداخلى، والإصرار الإيرانى؛ فإن حالة السودان فريدة من نوعها. فقوات الدعم السريع السلطة العسكرية السابقة هى التى أسهمت فى انطلاقتها عام 2003، لتساعدها وتستر وجهها فى مقاتلة خصومها بدارفور، ويعنى ذلك نصرة طرفٍ على طرفٍ فى الصراع، تفاقم عام 2013 بصيرورتها حليفاً رسمياً للجيش، وعام 2017 بالاعتراف بها بما يشبه الحرس الوطنى، وهى لا تزال قوة قبلية شاركت فى الحرب الأهلية بدارفور، وهى تنتشر الآن فى معظم ولايات السودان، وحليفة الجيش (الثائر) عام 2019!
فى سبع دولٍ عربية، هى لبنان والعراق وسوريا واليمن والسودان وليبيا والصومال، ميليشيات مسلحة، تسيطر على مناطق أو تشارك السلطات المركزية فى الإدارة والسيطرة، ولها مواردها من الممنوعات، كما لها علاقاتها الخارجية، ويوشك أن تكون لها سفاراتها بالخارج!
الميليشيات المسلحة هى أكبر العقبات فى العودة للدولة أو فى المصير إليها. ويدل القتال الضارى والمستمر بالسودان على أن الجيوش الوطنية ما عادت تستطيع القضاء عليها. لكن التحالف معها سيجعل من انقسام السلطة مستمراً، ولا استقرار، وواقع اقتسام السلطة سيهزم فكرة الدولة الواحدة، أو يؤدى إلى غلبة الميليشيا، كما حصل فى لبنان والعراق واليمن. ولذلك، وإذا راقبنا تطورات المشهد السودانى المريع، نجد أن الجميع، من عربٍ وأفارقة ودوليين، يطالبون بوقف القتال والعودة للحوار وليس أكثر من ذلك!
الزمن الثالث للوضع العربى لا يتميز بظهور الميليشيات فى الدول ذات الأنظمة العسكرية الضئيلة الشرعية، بل ويتميز بظهور إرادة للنهوض واستعادة العمل العربى المشترك، وسلوك سياسات الحياد الإيجابى بين الجبارين أو الجبابرة. وأخذاً بهذه السياسات المسؤولة، تهبّ المملكة والإمارات ومصر لاستعادة العلاقات حتى مع وجود الميليشيات، كما فى سوريا وليبيا. وهى ترجو التمكّن من تجاوز الأوضاع الراهنة باتجاه استنقاذ الدولة الوطنية من شرور الميليشيا وأضرارها وإعاقاتها. المشكلة الآن أن الميليشيات ما عادت مثل عصابات المخدرات بأمريكا الوسطى والجنوبية، بل صارت ظاهرة منتشرة فى آسيا وإفريقيا، ولها علاقات فيما بينها ومع الخارج الإقليمى والدولى.