الخميس 9 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

دنيا الأفكار

أصحاب عمائم وفلاسفة الحلقة (3)

الصعيــدى.. الشـــيخ الثـــورى



 

عبدالمتعال الصعيدى من علماء الأزهر الشريف وعضو مجمع اللغة العربية، وواحد من أصحاب الفكر التجديدى بالأزهر، ومن المنادين بالمنهج الإصلاحى فى التعليم والفكر الدينى.

 

 

 

هو عالم وباحث اهتم بقضايا التجديد الفكرى والفقهى ومواكبة التقدم العلمى بعد ما حل بالأمة من تحديات فكرية ناتجة للاستعمار، وأخذ على عاتقه تفعيل خطاب محمد عبده فى النصف الأول من القرن العشرين.

 

عُرِف بآرائه الثورية والتجديدية، فكان يرى نظام التعليم فى الأزهر مصابًا بالجمود، ورأى ضرورة  تطويره  بما  يلائم روح العصر، لتخريج جيل من الأزهريين المجددين والمبدعين والبعيدين عن التقليد والتعصب، وواكب هذا دعوته إلى تطوير فقه الحدود فى الشريعة الإسلامية وجاء معبرًا عن فلسفة إسلامية معاصرة مصبوغة بصبغة علمية تقوم على القضايا الإنسانية والاجتماعية والسياسية، لا تخلط  الموروث الدينى بالأصول الشرعية.

 

 

 

البداية 

ولد عبدالمتعال الصعيدى عام 1894 بكفر النجبا بمحافظة الدقهلية، كان والده مزارعًا وتُوفى بعد ولادته بشهر واحد، تاركًا وراءه بعض القراريط فنشأ بجانب والدته التى عملت فى زراعة الأرض، وشرب منها القوة والمعافرة وعندما بلغ التاسعة التحق بكُتَّاب القرية، وتعلم هناك قواعد الخط والنحو وحفظ القرآن الكريم.

بعد التحاقه بالمدارس الابتدائية النظامية التحق بالجامع الأحمدى بطنطا، وحصل على شهادة العالمية فى عام 1918، ودرس علم المنطق وكان الأول على طلاب معهد طنطا، واجتاز الشهادة الأولية فى عام واحد لأول مرة فى تاريخ المعاهد الأزهرية، بعد أن كانت تحصل بعد أربع سنوات، فكان مثار حديث الأساتذة والطلبة وتم تعيينه مدرسًا بالجامع الأحمدى بطنطا، ثم انتقل للتدريس بكلية اللغة العربية بالأزهر الشريف بالقاهرة… وبدأ رحلة التجديد والثورة على الجمود.

حاول «عبدالمتعال» تطوير التعليم فى الأزهر، والأخذ بنظم التعليم الحديثة، بعيدًا عن أنظمة التلقين والحفظ التى تبعث على الجمود، وكذلك من خلال مؤلفاته الكثيرة التى يدعو من خلالها لإصلاح التعليم فى الأزهر.. وذلك فى كتابه «نقد نظام التعليم الحديث للأزهر الشريف»، سنة 1924، وهو نظرة إصلاحية فى مناهج التعليم الأزهرى، ومحاولة لإبراز عيوبه، والعمل على إيجاد الحلول المناسبة لها.

ثم وضع «الصعيدى» كتابًا آخر سماه «الأزهر وكتاب دراسات قرآنية»، وفيه دعا أيضًا إلى التجديد والإصلاح فى نظم التعليم فى الأزهر، ما أحدث ضجة عارمة، فأيده البعض وهاج ضده البعض الآخر، وقدموا عريضة لفصله، وتم خصم 15 يومًا من راتبه. 

لم يتوقف الصعيدى عن دراسة ما لم يهتم به الأزهريون من الموضوعات، كتاريخ الفلسفة ومقارنة الأديان، والفكر الاقتصادى الحديث، وقام بوضع دراسات مقارنة بين الشريعة الإسلامية والشريعتين المسيحية واليهودية من جهة والفلسفات الوضعية بداية من اليونان إلى الفلسفات الحديثة من جهة أخرى، وسعى لتأصيل الخطاب الدينى وتدعيم حججه بالبراهين العقلية للتحاور والمواجهة بمنأى عن أساليب الأزهريين الخطابية فى دفاعهم عن الإسلام والدعاء على خصومهم.

 

 

 

فلسفة خاصة

كان للشيخ الصعيدى فلسفته الخاصة تجاه الإجماع، فلا يعده أصلًا أوليًا للاجتهاد إلا بعد العودة إلى النصوص التى أدت للإجماع ودراستها من جديد، فربما هناك فهم جديد يخدم المسلمين أكثر مما تم الإجماع عليه سلفًا.. حيث رأى أن معظم مظاهر الفرقة ناتجة عن أن كل فرقة تدعى الإجماع والنتيجة فرقة وليست إجماعًا، كما دعا إلى تجديد علم الكلام والمنطق.

فى عام 1919 كان لأحداث الثورة أثر فى تكوين رأى الشيخ الصعيدى عندما رأى القساوسة والأزهريين يتساقطون برصاص الإنجليز وتختلط دماؤهم ويلفظون أنفاسهم الأخيرة ويقولون نموت نموت وتحيا مصر فأدرك أن الخلاف الملى لا يحول بين الوحدة الوطنية وانعكس ذلك على كتاباته عن حقوق المواطنة.

وبمقياس عصره وكعالم أزهرى، قدم الشيخ عبدالمتعال الصعيدى رؤية جريئة ونقاشًا منفتحًا نسبيًا بالمقارنة بزمنه وعرّضه لكثير من الاضطهاد أو التهميش أو الحروب لاقتحامه موضوعات مسكوت عنها، على رأسها دفاعه عن الحرية الإنسانية، وبحثه فى موقف الخطاب الدينى من قضية الحريات التى احتلت الصدارة فى تفكيره، وعن الإجابة حول هل جماعات التكفير والترهيب للمجددين تمت للإسلام بصلة؟

كذلك تناول الصعيدى النظر فى فقه الحدود، ومن بينها حكم عقوبة المرتد التى أثيرت وقتها فى الصحف، فدافع عن الحرية الدينية، وأوضح أن إكراه المرتد على الإسلام بالقتل أو الحبس داخل قطعًا فى عموم قوله تعالى «لا إكراه فى الدين» لأن الإكراه فى الدين كما يكون فى الابتداء يكون فى الدوام، وكما لا يصحّ الإكراه على الدين فى الابتداء، لأن الإسلام الذى يحصل به يكون فاسدًا، كذلك الإكراه على الدين لا يصح فى الدوام لأن الإسلام الذى يحصل به يكون فاسدًا.

ودلل «الصعيدى» فى موقفه ورؤيته إلى أن إجماع الأئمة الأربعة على قتل المرتد قد خرج عليه ابن حزم، فضلًا عن احتكامه إلى الآيات التى تدعم الحريات الدينية فى الشريعة الإسلامية، مثل قوله تعالى: «إِنَّكَ لَا تَهْدِى مَنْ أَحْبَبْتَ ولَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِى مَن يَشَاءُ»  وقوله «لَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَن فِى الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ».

 

 

 

فقد كان الصعيدى مؤمنًا بأهمية الحرية الدينية للإنسان واختيار عقيدته، وتحمّله مسئولية هذا الاختيار، فى «كتاب الحرية الدينية فى الإسلام»: «فلكلّ إنسان أن يعتقد ما يشاء فى الدنيا، وحسابه على الله تعالى فى الآخرة، وليس من حقّنا أن نحاسبه بشىء على ما يعتقده؛ لأنه إنسان عاقل يتحمّل مسئولية اعتقاده، ولا نتحملها نحن عنه».

 وقدّم الشيخ الصعيدى، عام 1937 على صفحات «مجلة السياسة» اجتهادًا فى مسألة الحدود؛ ففى قراءته للنصوص الواردة فى القرآن حول السرقة والزنى، مثل: «وَالسَّارِقُ وَالسَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُمَا جَزَاءً بِمَا كَسَبَا نَكَالًا مِّنَ اللَّهِ  وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ»، «الزَّانِيَةُ وَالزَّانِى فَاجْلِدُوا كُلَّ وَاحِدٍ مِّنْهُمَا مِائَةَ جَلْدَةٍ»، حيث رأى الصعيدى أن الأمر الوارد فى الآيتين: (فاقطعوا)، (فاجلدوا)، هو للإباحة، وليس للوجوب، كما يعتقد علماء المسلمين، ولا ينبغى أن يكون القطع حدًّا مفروضًا وحده؛ بحيث يجوز العدول عنه فى جميع حالات السرقة، وفى كلّ الظروف، وكلّ الأحوال التى تتغيّر بتغيّر الزّمان والمكان؛ بل يكون القطع فى السرقة أقصى عقوبة فيها، ويجوز العدول عنه فى بعض الحالات إلى عقوبات رادعة أخرى، ويكون الأمر كلّه، شأنه شأن كلّ القضايا التى تخضع لتصرّفات وليّ الأمر.

كذلك عارض عبدالمتعال الصعيدى الأسس التشريعية التى اتخذتها جماعات العنف المسلح و«تيارات الإسلام السياسى» مرتكزًا أدبيًا لمشروعها حول فرضية قيام «دولة الخلافة»، فقال فى كتابه «من أين نبدأ»: يجب أن يعلم الداعون إلى الحكومة الدينية - قاصدا الإخوان المسلمين - أن الحكومة القائمة - عام 1950 - حكومة إسلامية، وأنه لا معنى لمطالبتهم بذلك مع قيام هذه الحكومة، لأن صبغتها فى جملتها صبغة إسلامية، وهى كذلك فى العرف الدولى حكومة إسلامية، لأن رئيسها الأعلى مسلم، ولأن دينها الرسمى هو «الإسلام» ولأن الشريعة الإسلامية تعدّ الأصل الأصيل لكل تشريع فى مصر، وقد جاء دستورها مقررًا لهذا الأصل، وأن الإسلام لا يمنع قيام حكومات متعددة، فإذا قامت هذه الحكومات لا يُطلب منها إلا أن تكون متحابّة لا متعادية.

 

 

 

كما قال «الصعيدى»: وأن تعدّد الحكم فى «الإسلام» قال به بعض العلماء استنادًا إلى اقتراح الأنصار على المهاجرين حين اختلفوا قبل الاتفاق على أبى بكر (رضى الله عنه)، أن يكون من المهاجرين أمير ومن الأنصار أمير، ولو كان هذا مما لا يجيزه «الإسلام» ما اقترحوه، وأن الدين عقيدة بين الشخص وربّه، والوطن لجميع الناس، مسلمين وغير مسلمين.

وأكمل الشيخ: بأنه لا يمكن قصر الحكم الإسلامى على الخلافة، لأن النبى مات ولم يعيّن شكلًا للحكم، بل ترك تعيينه لاختيار المسلمين، حتى لا يكون هناك حرج عليهم فى اختيار شكل الحكم الذى يلائم ظروفهم وأحوالهم، فلا يهمّ فيه إلا أن يقوم الحكم فيه على أساس الشّورى والعدل، ومتى قام على هذا الأساس كان حكمًا إسلاميًا صحيحًا، سواء أكان القائم به ملكًا أم خليفة أم رئيسًا.

الفنون والمرأة

 أباح الشيخ الصعيدى فنون التمثيل والتصوير، معتبرًا أن القرآن قدّم فى عرضه صورًا تمثيلية جسّدت الكثير من قصص الأنبياء والرّسول من باب العظة والتعليم. ويقول: «ما كان للديانات السماوية أن تقف من الفنون الجميلة غير هذا الموقف لفائدتها فى تهذيب الأطباع وإصلاح الأذواق وترقيق النفوس».

كذلك انتهى الصعيدى فى مخطوطته «فى ميدان الاجتهاد»، بوجوب أن يكون الطلاق مكتوبًا وليس شفويًا، وينبغى أن يكون عليه شهود، كما هى الحال فى عقد الزواج، وأقر أن تعدّد الزوجات أصبح مفسدة اجتماعية، وعلى الحاكم تحريمه، إذ إن الحكم الشرعى بإباحة التعدّد كان من قبيل إعلاء المصلحة العامة للمجتمع وللأمة، تطبيقًا للاستقامة والعدل، وليس من قبيل إطلاق الشهوات، واتّباع الأهواء، والمتاجرة بالنساء.

واهتم الشيخ بقضايا المرأة كالمشاركة فى الانتخابات، قائلًا: «أى قانون متناقض هذا الذى كان يمنح منذ زمن قريب بعض المصريات بطاقات يمارسن بها البغاء والدعارة، ويحرم المصريات المثقفات من بطاقات ممارسة حقهن المشروع فى الانتخابات، والذى أباح للمرأة أن تكون محامية وحرم أن تكون قاضية!! رغم إفتاء الشيخ المراغى بجواز ذلك»!!

وأباح أن تكون أستاذة وناظرة واستكثر أن تكون نائبًا أو شيخًا فى البرلمان! والذى يؤاخذ الزوجة على اعتدائها على زوجها بالضرب ولا يؤاخذ زوجها إذا اعتدى عليها بالضرب؟! وإذا زنت تحبس لمدة لا تزيد على سنتين ولا يؤاخذ الزوج إلا إذا زنى داخل منزل الزوجية!!

وشارك الصعيدى فى العديد من المساجلات والمناقشات على صفحات الجرائد اليومية والمجلات حول قضايا الأدب وتاريخه، والإعجاز البيانى فى القرآن، وضرورة  الاجتهاد  فى الأصول، وخصائص الإجماع والوحدة الإسلامية، مع كبار رواد الكلمة من أمثال محمد حسنين هيكل، وطه حسين، والعقاد، والشيخ يوسف الدجوى، والعقاد، والشيخ عيسى منون، والشيخ محمد الغزالى.

 

 

 

وألّف الصعيدى 49 كتابًا مطبوعًا و20 مخطوطًا أهداها  للأزهر مثل «تاريخ الإصلاح فى الأزهر»، «حكماء اليونان السبعة»، «قضايا المرأة»، «الفن القصصى فى القرآن»، ومن أشهر كتبه «المجددون فى الإسلام» وهو أحد أهم الكتب التى ألقت الضوء بالنقد والتحليل على أهم الشخصيات المجددة فى الفكر الإسلامى منذ القرن الأول الهجرى حتى نهاية القرن الثالث الهجرى.