السبت 27 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
ثقافة المهزومين

ثقافة المهزومين

كثيرًا ما أتذكر فى هذه الأيام مشهدًا من رواية للكاتب البولندى جومبروفيتش بعنوان «فيرديدوركه»، يصف عائلة يمسك أفرادها فى خناق بعضهم البعض، بعد أن تم كشف فضيحة بين الابنة وعشيق لها، ويتوالى وصف تفاصيل المعركة التى تراوحت بين الصفع واللكم والعض، ونجد بين الحضور مدرسًا لا علاقة له بما يحدث باستثناء كونه أحد شهود الفضيحة. وفى لحظة فارقة يجد الجميع وقد تكوموا على الأرض فى معركتهم اللانهائية، أو كما يأتى فى النص: «تكوموا جميعًا وانهاروا فى كومة وحيدة. والأسوأ من ذلك أن بيمكو الذى كان يقف على بُعد خطوة من الكومة، قام فجأة بشيء غريب جدًا يكاد أن يكون غير مناسب لقوله. 



هل شك الخوجة فى نفسه فى نهاية المطاف؟ هل استسلم؟ هل افتقر إلى الإرادة لأن يقف فى حين أن الآخرين واقعون؟ هل بدا له أن الوقوع ليس أسوأ من الوقوف؟ يكفى القول إنه أوقع نفسه فى الزاوية على ظهره طوعًا ورفع أطرافه لأعلى فى حركة مستسلمة».

وبعد فاصل من وصف آخر للمعركة يقول:  «فى الوقت نفسه بدأ الأستاذ فى الزاوية يبدى انحيازًا أكثر وأكثر نحو الحشد- مستلقيًا على ظهره،  بأطرافه إلى الأعلى انحرف بشكل واضح فى هذا الاتجاه وتمايل مهتزًًا نحوهم بلا حراك». 

يصف جومبروفيتش فى روايته التى تقدم نقدًا اجتماعيًا لاذعًا للمجتمع البولندى فى بداية القرن الماضى، فكرة السقوط فى وحل الفضيحة بسبب الازدواجية الأخلاقية، وأمام اختبار كهذا يرى أن بعض أطراف المجتمع التى قد لا يكون لها شأن بما يجرى، انحازت للسقوط فى وحل الفضيحة، فى وحل الهزيمة. 

يحضرنى هذا المثل باستمرار كلما تأملت الطريقة التى يقوم بها قطاع واسع ممن يعدون أنفسهم «معارضة» فى مصر. فهم يعارضون بشكل مستميت لأى قرار وكل قرار تتخذه الحكومة، أيًا كان، من دون التفكير ولو للحظة فى جدوى القرار وتبعاته. وهم فى ذلك ينحازون، سواء بقصد منهم أو بلا إرادة لفصيل تمت إزاحته من السلطة برغبة وإرادة شعبية كاملة، وبالتالى يمكن فهم ثقافتهم فى المعارضة «كمهزومين»، ينتقدون كل ما يقوم به النظام أو الحكومة، ولكن المعارضة التى من المفترض أنها تفهم الحد الأدنى من فكرة العلمانية، كأساس لمدنية الدولة، والتى لا بد أنها تفهم أيضًا أن الأولويات تقتضى مراحل تاريخية معينة لبناء ونهضة الدولة فى ظروف بدا جليًا أنها كانت تتعرض لمؤامرة من قوى أجنبية ولا تزال، لم تنتبه أبدًا لهذا كله؟ 

أذكر أننى فى ذروة أحداث 25 يناير وهى لحظة تاريخية أيًا كان الموقف منها، وهى أيضًا لحظة انتصار، كان من يطلقون على أنفسهم صفة ثوار يتعاملون كأنهم مهزومون. كأنهم لا يصدقون أن رئيسًا تم إسقاطه من السلطة بإرادة شعبية، لأن ثلاثين عامًا من الجمود أثرت عليهم بطبيعة الحال، وأفقدتهم القدرة على الخيال حتى وهم فى ساحة الخيال كله. 

ولهذا لا يمكن حين يتحول مثل هؤلاء لما يتصورونه «معارضة» إلا أن يسقطوا أنفسهم على الأرض مثل الأستاذ فى الراوية. ويهزون أنفسهم ليقتربوا من كومة المعركة الفضيحة. هذه ثقافة المهزومين التى لا يمكن أن تنهض يومًا بأمة أو أن تحقق إنجازًا سياسيًا، فثقافة المهزوم لا تعرف إلا السقوط والبكاء والشكوى ولعب دور الضحية أو الابتذال على طريقة الإخوان والجماعات الحقوقية الممولة بالكامل من الأجنبى وأخطر سمات مثل هذه الثقافة أنها تتحول إلى ذهنية عاطفية فاقدة القدرة على التفكير بعقلانية وبعقل بارد لا تبنى الدول ولا تتحقق النهضة من دونه، ولا يتعلمون حتى من تجربة النهضة التى تنجز أمامهم وشواهدها واضحة لكل ذى عقل.