الخميس 9 مايو 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

دنيا الأفكار

أصحاب عمائم وفلاسفة الحلقة (2)

 



(كان لمصر دائمًا وأبدًا السبق فى جميع المجالات، وكأنه شعب جاء ليحمل شعلة التقدم للعالم كله، ففى أحلك الظروف وأصعبها كانت دائمًا التركيبة المصرية قادرة على قهر الجهل والتخلف.

إشكالية توافق الدين والعقل إشكالية أزلية ومثار نقاش وجدل.. وأثبت الواقع أن الثقافة والتعليم وإعمال العقل وتجديد الخطاب الدينى ليست رفاهية وإنما ضرورة وسلاح قوى ضد التطرف والإرهاب بكل صوره..

وقد تكون الصورة المنطبعة فى بعض الأذهان التى تحكم على المظهر بسطحية أن العمة والقفطان رمزٌ للجمود والتشبث بالموروث دون إعمال العقل، أما البدلة والكراڤت فهى من مظاهر المدنية والتقدم.. استطاعت الخلطة المصرية كسر هذه الصورة النمطية فظهر بين أصحاب العمم دعاة التجديد والتنوير وربوا أجيالًا من الكتاب والشعراء والأدباء والشيوخ المستنيرين… وهنا على صفحات «صباح الخير» سنلقى الضوء على أهم الأزهريين المجددين الذين كان لهم من الرؤية والبصيرة أن ينفضوا غبار الماضى ويحطموا قيود الأصولية وتعلو عقولهم فى فضاء فسيح، وتضم العمة عقل فيلسوف مفكر ولكنها لا تخنقه.  

الشيخ مصطفى عبدالرازق
الشيخ مصطفى عبدالرازق

 

 

مصطفى عبدالرازق.. فيلسوف  ضد التيار

 

 الشيخ مصطفى عبدالرازق، أحد أهم رواد الفكر الإسلامى الفلسفى، حيث قدم رؤية تقوم على البحث والتحليل لنشأة التفكير الإسلامى الفلسفى فى كتابات المسلمين قبل دراسة الفلسفة اليونانية، ولم يسبقه فى تصوره أحد، فهو أستاذ جامعى يقوم بتدريس الفلسفة الإسلامية من وجهة نظر إسلامية خالصة دون ربطها بالتراث اليونانى فى الجامعة المصرية، حيث كانت تُدرس على نحو يميل إلى النظر الغربى واتهمت بعدم الدقة والأصالة، والعجز عن الابتكار، وبأنها ليست إلا محاكاة للفلسفة اليونانية، واختصار سيئ قام به مترجمون غير جيدين للفكر اليونانى القديم، وحصروا الفكر الإسلامى فى دائرة واحدة لم يتخطوها وهى الفلسفة الإسلامية على طريقة اليونان، وأغفلوا جوانب أخرى أصيلة لم يلتفتوا إليها سواء عن عمد أو غير عمد، وهذه الجوانب هى ما حاول الشيخ مصطفى عبدالرازق أن يكشف عنها. 

 

 

 

 

 وأبرز «عبدالرازق» ما فى فلسفة المسلمين من ابتكار وأصالة وإبداع، من خلال دراسة الفلسفة الإسلامية فى كتابات المسلمين الأصيلة، ومناقشة عقلانية لمزاعم المستشرقين - وعلى رأسهم رينان - من أن العقل الإسلامى من الناحية البيولوجية غير قادر على إنتاج فلسفة يُعتد بها؛ لأنه يميل إلى البساطة والوحدة ويرفض  التعدد والتركيب، واستطاع أن يظهر تناقضًا فى كلامه ورد مستشرقين آخرين عليه، مؤكدًا المكانة الرفيعة للعقل فى الإسلام، وتحليله لمكانة الرأى فى الفكر الإسلامي. 

 ودعا الشيخ مصطفى عبدالرازق  إلى تدريس علم الكلام والتصوف فى أقسام الفلسفة، وإلى البحث عن أوجه الأصالة فى الفلسفة الإسلامية، ورأى أن الاجتهاد بالرأى هو بداية النظر العقلى، وبالتالى فإن علم أصول الفقه وثيق الصلة بالفلسفة، وأن مباحث أصول الفقه هى نفسها التى يتناولها علم أصول العقائد، الذى هو «علم  الكلام». وله تأثير قوى فى إصلاح «الأزهر» حتى  كتب عنه العقاد فى «جامع وجامعة» بمجلة الرسالة : أن آمال جيل بأسره كانت ترقب هذه الإصلاحات.

 

 

 

تركيبة مميزة

 ولد  الشيخ مصطفى عبدالرازق  عام 1885 ميلادية بقرية أبو جرج التابعة لمحافظة المنيا،  وهو سليل أسرة عريقة  اشتُهرت بخدمة قضايا الوطن، حيث عملوا فى القضاء والسياسة، فجده الثالث عبدالرازق باشا  تولى القضاء فى المنيا وشغل بعده نفس المنصب ابنه  محمد، أما والده فكان عضوًا  بمجلس  شورى القوانين فى عهد إسماعيل باشا لمدة 18 عامًا. 

 تعلم الشيخ مصطفى القراءة والكتابة فى بلدته وأتم حفظ القرآن الكريم، ثم انتقل للقاهرة فى العاشرة من عمره والتحق بالأزهر ليحصل العلوم الشرعية، ودرس البلاغة، والمنطق، والأدب، والنحو، وبدأ عام 1903  التردد  على دروس الإمام محمد عبده فى الرواق العباسى، فتأثر بأفكاره الإصلاحية وتوثقت بينهما  الصلة وتشابها  فى الرغبة للتوفيق بين العقل والنقل، وتحرير الفكر من التقليد. 

 كما اتصل بعدد من كبار علماء الأزهر، فدرس أصول الفقه وأبدى اهتمامًا بالمشاركة فى الجمعيات العلمية والأدبية، كالجمعية الأزهرية  التى أنشأها محمد عبده مع والده الشيخ «عبدالرازق»، واختير مصطفى  عبدالرازق رئيسًا لها، وكانت هذه الجمعية تجتمع لدراسة إصلاح التعليم فى الأزهر. 

 سافر الشيخ مصطفى إلى باريس  لاستكمال دراسته العليا، والثقافة الغربية، فالتحق بجامعة السربون، درس اللغة الفرنسية، وحضر دروس الفلسفة، والاجتماع، وتلقى دروسًا فى الأدب وتاريخه ثم رسالته لنيل درجة الدكتوراة، ومع  اقتراب انتهاء الحرب العالمية الأولى عاد مع زملائه لمصر عام 1914.

علاقة معقدة 

 كان بيت «آل رازق» مقابلًا لسرايًا عابدين، وبعد هزيمة عرابى، وبداية الاستعمار الإنجليزى، عرض الإنجليز الحكم على آل عبدالرازق.. لما لهم من باع فى المجتمع السياسى، فهم من مؤسسى حزب الأمة ثم حزب الأحرار الدستوريين بعد ذلك «حزب النخبة»، وهم الأقلية الغنية الراقية، ولهم مكانة  اجتماعية ذات نشاط سياسى معادٍ للسلطة والاستعمار. 

 

 

 

 التركيبة الشخصية  لـ «عبدالرازق» وانتماؤه لطبقة تمتلك العلم والمال، إضافة لتعلمه فى أوروبا والعودة برؤى مستنيرة وانفتاح معرفى  واسع، كلها عوامل كونت فكره وأسلوبه، وخلقت لديه علاقة معقدة مع سلطة الاحتلال الإنجليزى، فى مقابل الرغبة فى الاطلاع  على الحضارة المتقدمة المتمثلة فى إنجلترا ، ولم يكن منهج الشيخ مصطفى مجرد رد فعل لرأى المستشرقين كما فعل الشيخ محمد عبده، فى محاولة إحياء التيارات العقلانية  للفلسفة الإسلامية  وإثبات أصالتنا !! وإنما  تميز بأنه الباحث عن خصوصية الفلسفة الإسلامية قبل  تعرفها على اليونانية،  وساعده فى ذلك الثقافة الأكاديمية والثقافة العامة الشاملة فى  مجالات الفكر المختلفة، وهو ما يظهر فى كتبه ومقالاته التى أثرت فى فكرنا العربى المعاصر.. 

 

 

 

 تتلمذ على يد الإمام محمد عبده فى الجامع الأزهر، وأخذ منه الانفتاح على أفكار الأمم الأخرى فكان محمد عبده ومصطفى عبدالرازق  أزهريين منفتحين على الفكر الغربى  ويهتمان بالفلسفة واستطاعا المزج بين الفكر العربى، سواء المتمثل  فى علم الكلام أو بفلسفة الكندى والفارابى وابن سينا وابن رشد من جهة، والحضارة الغربية من جهة أخري. 

أستاذًا للفلسفة

بعد عودته  إلى القاهرة عُيِّن موظفًا فى المجلس الأعلى للأزهر 1915، ثم  ترقى إلى وظيفة سكرتير المجلس، ثم انتقل إلى القضاء الشرعى حيث عمل مفتشًا بالمحاكم الشرعية، ورغم اشتراكه  مع أسرته فى تأسيس حزب «الأحرار الدستوريين»  عام 1922، لم يندمج  اندماجًا كبيرًا بسبب طبيعته الهادئة وميله إلى الفكر والأدب، واكتفى بنشر مقالاته الأدبية والاجتماعية والدينية فى صحيفة الحزب المعروفة باسم  «السياسة». 

 

 

 

 عندما أصبحت الجامعة الأهلية فى مصر جامعة حكومية، انتقل إليها سنة 1927، وعمل أستاذا  مساعدا للفلسفة بكلية الآداب، فكان أول أستاذ مصرى يلقى محاضرات فى الفلسفة الإسلامية  بالجامعة المصرية، محدثا تحولاً  فى تاريخ الدرس الفلسفى  الإسلامى فى مصر. 

 اختُير الشيخ مصطفى وزيرًا للأوقاف ست مرات، فكان أول شيخ  أزهرى يتولى الوزارة فى مصر، ومُنح لقب باشاوية،  ولكنه آثر عليه لقب شيخ، ولم يخلع عمامته طوال حياته. 

 فى 1945 عُيِّن شيخًا للأزهر خلفًا للشيخ المراغي، واستكمل  مشوار المراغى فى تطوير المناهج ودراسة الأديان، وفق منهج موضوعي، وظل على صداقته القوية بزملائه من  الفرنسيين والأوروبيين الكتَّاب والمفكرين، وكان مثالًا للمسلم  المستنير المحب للآخر. 

 كان د. عبدالرازق محبًا للفن والفنانين، حيث تؤكد ذلك علاقته بكوكب الشرق أم كلثوم. فكان يقول «أن الفن يفيد الإنسان فى البحث عن  قيم الحياة، وأن الفن يزرع السمو فى نفوس البشر، وساعد «الشيخ عبدالرازق» أم كلثوم وساندها فى بداية مشوارها حتى ذاع صيتها. 

 

 

 

 وتميز الشيخ  مصطفى عبدالرازق  بفهمه للدين الصحيح والوطنية. فى الوقت نفسه، فبينما انتقد العديد من المتشددين  أصحاب الفكر المنغلق  الاحتفال بالأعياد القومية، مطالبين بالاقتصار على الأعياد الدينية فقط، فإنه قد أقر  حق الأمم فى أن تكون لها أعياد قومية تنمى الشعور الوطنى، لأن حب الوطن من الإيمان، وأعطى مثالًا واضحًا لرفض العنصرية واحترام  الآخر، فكتب مقدمة كتاب عن الفيلسوف اليهودى «موسى بن ميمون» مبينا دوره المهم.. إضافة لإيمانه بمطالب المرأة بالحرية والعمل. 

أدبه ومذكراته 

 من أراد أن يطالع وجهه الأدبى فليقرأ «مذكراته»؛ ومن رغب فى اكتشاف قدرته النقدية فليقرأ مقاله «بين الشرق والغرب» بمجلة «الرسالة»، الذى رد به على «إسماعيل أدهم» وما كان يروجه الغرب عن الشرق، وقال إن الدين والفلسفة يبتغيان  سعادة البشر، غير أن الدين يقوم على التصديق والإيمان ومصدره القلب، بينما الفلسفة تقوم على النظر والفكر  ومصدرها العقل، لذلك فهما متفقان فى الغاية  مختلفان فى الوسيلة، ولا يجوز أن  نخلط بينهما، بل أن ننظر إلى كليهما باستقلالية عن الآخر. 

 أما من أراد  أن يتعرف على مصطفى عبدالرازق  مفكرًا وفيلسوفًا فليقرأ له «تمهيد  لتاريخ الفلسفة الإسلامية»؛ فقد اكتسب كتاب «تمهيد لتاريخ الفلسفة الإسلامية»  قيمة تاريخية كبرى بين الكتب التى أُلفت فى مجال الفلسفة الإسلامية خلال القرن العشرين، ويختلف عنها جميعا فى موضوعاته ونتائجه؛ فلم يأت الكتاب على النحو المألوف والنهج المعروف عند المؤلفين الشرقيين والمستشرقين، ممن رأوا أن الفلسفة الإسلامية ما هى إلا نقل عن الفلسفة اليونانية، فقدم تصورًا خاصًا  بنشأة الفكر الفلسفى فى الإسلام. 

 بدأ  «الشيخ مصطفى»  كتابه بعرض كل آراء  المستشرقين والصراع على الفلسفة، وأظهر أن حب الوطن من  الإيمان، و تناقضاتهم فى كتاباتهم، بل ورد بعضهم على بعض، لأن منهم من يرى خصوصية للفلسفة الإسلامية، وكذلك المقالات العربية فى ذلك الشأن، ثم تعرض فى ثلثى الكتاب الى علم أصول الفقه وصلته بالفلسفة بأسلوب تحليلى مقنع، وربط ذلك وعلم التصوف وعلم الكلام بالفلسفة.

وتناول بداية ظهور النزاع والرأى والجدل بين المسلمين زمنيًا، وكذلك تطور التفكير الفلسفى، متخذًا أحوال العرب عند بداية الإسلام كبداية، ثم ضم للكتاب فصلاً عن علم الكلام ونشأته كتطور طبيعى مع ظهور رسالة الإسلام وانطلاق العرب لفتح البلاد، حيث تعرفوا على علوم الفلسفة اليونانية والفارسية والهندية، ولكنهم شُغِفوا بأعمال اليونانى «أرسطو»، فاعتنَوْا بترجمتها ودراسة شروحها، فتأثَّروا؛ الأمر الذى جعل بعض المستشرقين يُقرِّرون أنه ليس هناك فلسفةٌ إسلامية أو عربية خالصة، بل هى تَرجماتٌ عربية لمؤلَّفاتِ «أرسطو»، ودلل فى كتابه على تعسف هذا الرأيى.

 

 

 

رأى الشيخ أن الفلسفة الإسلامية مرَّت بمراحل طبيعية من التكوين والتأثُّر حتى قدَّمت موضوعاتها الخاصة، فظهر «علم الكلام» الذى وُضِع للدفاع عن الدين ضد المتشكِّكين، مُستخدِمًا أدواتٍ ووسائلَ منطقية وجدلية، كما ظهرت مدارسُ فلسفية، مثل «المعتزلة»، أَثْرَت أعمالُها الفكرَ الإنساني.

تلاميذه من الرواد

تأثر بأفكار الشيخ مصطفى عبد الرازق تلاميذه، فاستكملوا ما بدأه، وقدموا دراسات جديدة تكشف عن جوانب أصيلة فى الفكر الفلسفى، فكشف تلميذه محمود الخضيرى عن ملامح الفلسفة الإسلامية الحقيقية فى عصورها المختلفة. وكتب محمد مصطفى حلمى عن الحياة الروحية فى الإسلام، وانبثاقها فى جوهرها عن الدين الحنيف وحده، ووضع دراسة عن فلسفة الحب الإلهى لدى عمر بن الفارض المعروف بسلطان العاشقين، وقد ملأت كتاباته فى التصوف فجوة كبيرة فى تاريخ الفلسفة الإسلامية.

وقدم محمد عبدالهادى أبوريدة دراسة رائدة عن فكر المعتزلة، وقدم على سامى النشار كتابا بعنوان «مناهج البحث عند مفكرى الإسلام ونقد المسلمين للمنطق الأرسطاليسي»، رد فيه على مؤرخى المنطق وعلم مناهج البحث وأنهم وضعوا المنطق التجريبى، وأن هناك وثائق عدة تثبت أن المسلمين استخدموا طرق التحقيق التجريبية فى دراستهم للطب والعلوم الطبيعية والكيميائية والفلكية والنباتية، وأن هذا المنهج وصل إلى أوروبا واستفاد منه علماؤها ونسبوه إلى أنفسهم، وكان سببًا فى إقامتهم حضارة إنسانية وعلم حقيقي.

وأسهم عدد كبير آخر من تلامذة مصطفى عبدالرازق فى مجالات الفلسفة، مثل: عثمان أمين، وتوفيق الطويل، وأحمد فؤاد. 

 ترك الشيخ مصطفى عددًا من المؤلفات، فكتب دراسة صغيرة أدبية عن البهاء زهير الشاعر المعروف، وأصدر «فيلسوف العرب والمعلم الثاني» متناولًا فيه فلسفة كل من الكندى وكتاب «الإمام الشافعي»، وكتاب «الشيخ محمد عبده»، وهو يجمع مقالاته ودراساته عن أستاذه، وركز فيه على الجانب الإصلاحى والفلسفى من حياة الإمام، كما قام بترجمة «رسالة التوحيد» لمحمد عبده إلى الفرنسية بالاشتراك مع برنارد ميشيل.

وجمع أخوه الشيخ على عبدالرازق مجموعة من مقالاته التى نشرها فى الجرائد والمجلات فى كتاب تحت عنوان «من آثار مصطفى عبدالرازق» مع مقدمة لطه حسين، وصدر عام 1957.