الثلاثاء 13 مايو 2025
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

قال له جمال الدين الأفغانى قل لى أى أبنـاء الملوك أنت

الشــيخ الإمــام محمــد عبــده

ليس مجرد شيخ بل هو إمام بما تحمل هذه الكلمة من ريادة وقوة وتميز، إنه الشيخ الإمام محمد عبده، قال له جمال الدين الأفغانى: «قل لى أى أبناء الملوك أنت؟« وقال عنه الخديو عباس «إنه يدخل على كأنه فرعون«.. وبعيدًا عن أى مبالغات، فقد استحق أن يقال عنه رائد التنوير وصاحب المشروع الفكرى التجديدى فى نهايةالقرن التاسع عشر، بعد سقوط الدولة العثمانية حيث التردى الحضارى العنيف، والفجوة الثقافية الكبيرة بين العالم الإسلامى والعالم الغربى. 



 

قد لايكون الشيخ محمد عبده مدافعًا بقوة عن الفكر الغربى كما دافع طه حسين، وأحمد لطفى السيد، وزكى نجيب محمود، لكنه استطاع أن يخلق مشروعه الفكرى بتعليمه الأزهرى وبثقافته وإطلاعه على الحضارة الغربية وإيجاد معادلة للتمسك بالتراث والشريعة والاهتمام باللغة، وفى نفس الوقت التعامل مع الواقع وتبنى قيم الحداثة الغربية دون تقليد أعمى لنمط حياته.

فكان بحق مجددًا ثوريًا بالقياس إلى زمانه وظروفه، فحرك الأفكار الراكدة آنذاك، وبنى على أفكاره العديد من مفكرى الحداثة المعاصرين العرب آراءهم، وساهم فى تحرير العقل العربى من الجمود الفكرى الذى أصيب به لعدة قرون وإحياء الاجتهاد الفقهى لمواكبة العصر وتطوره، فترك جيلًا من التلاميذ الذين أصبح الكثيرون منهم تنويريين بعد ذلك.. وللعقاد عنه كتاب: «عبقرى الإصلاح والتعليم» .

ولد محمد عبده عام 1849 بقرية «حصة شبشبر» من قرى محافظة الغربية، ونشأ بقرية محلة نصر مركز شبراخيت محافظة البحيرة، وهو من العائلات التى تميزت بالعلم والتقوى والكرم، فى أواخر عهد محمد على تعرضت أسرته للنزوح القهرى وبعد أن عادت ظل متأثرًا بذلك.

محطات

عندما بلغ 13عامًا دخل الجامع الأحمدى فى طنطا وهو مركز الثقافة الدينية آنذاك بعد الأزهر، لكن أسلوب التدريس هناك جعله يهرب إلى بيت خال والده الشيخ درويش خضر، وقد كان شيخًا متصوفًا جليلًا، علمه حقيقة الإيمان المختفى وراء جمود الكتب وتعقيدها، وكان مؤمنًا بالعودة للإسلام الخالص فى بساطته الأولى وتنقيته مما شابه من خرافات. وكان لخاله دور بارز فى تكوين شخصيته السوية المنفتحة والمتمسكة بجوهر الشريعة وأزال تعقيدات وطلاسم المتون القديمة وسهلها لعقل محمد عبده، واعترف بفضله قائلاً: «لم أجد إمامًا يرشدنى إلى ما وجهت إليه النفس إلا ذلك الشيخ أخرجنى من سجن الجهل إلى فضاء المعرفة.. «وعاد لإكمال دراسته، ثم دخل الأزهر عام 1869 واستهوته دراسة المنطق والفلسفة والتصوف فكان موضوع أول كتاب له.. ولكن فى ذلك الوقت لم تكن هناك دراسة للعلوم الدنيوية كما أطلق عليها، وهى التاريخ أو الكيمياء والرياضيات وانصبت الدراسة على المتن والحواشى!

وتخرج فى الأزهر وحصل على شهادة العالمية سنة 1877، وفى عام 1879عمل أستاذًا للتاريخ فى مدرسة دار العلوم (كلية دار العلوم) وأستاذًا للأدب فى مدرسة الألسن، تعرف على الشيخ جمال الدين الأفغانى وأحب علمه وأسلوبه، وصار تلميذه يستمع لدروسه، وكتب فى جريدة الأهرام المؤسسة حديثًا وقتها 1877 واشتغل بالتدريس فى الأزهر، وكان يحاضر فى بيته مقدمة ابن خلدون عن نشأة المدنيات وانحطاطها، وكتاب تهذيب الأخلاق لمسكويه فكان بمثابة نسخة إسلامية من الفلسفة الخلقية اليونانية.

وحينما تولّى الخديو «توفيق» العرش، تقلد  «رياض باشا» رئاسة النظار، فاتجه إلى إصلاح «الوقائع المصرية»، واختار الشيخ محمد عبده ليقوم بهذه المهمة، فضم «محمد عبده» إليه «سعد زغلول»، و«إبراهيم الهلباوى»، والشيخ «محمد خليل»، وغيرهم، وأنشأ فى الوقائع قسمًا غير رسمى إلى جانب الأخبار الرسمية، فكانت تحرر فيه مقالات إصلاحية أدبية واجتماعية، وأصبحت منبرًا للدعوة إلى الإصلاح، وظل فى هذا العمل نحو سنة ونصف.

وكان فى مصر تياران قويان يتنازعان حركة الإصلاح: الأول: يمثله فريق المحافظين يرون أن الإصلاح الحقيقى للأمة إنما يكون من خلال نشر التعليم الصحيح بين أفراد الشعب، والتدرج فى الحكم النيابى، وكان الإمام «محمد عبده» و«سعد زغلول» ممن يمثلون هذا التيار.

 

 

 

والثانى: يدعو إلى الحرية الشخصية والسياسية تأسيًا بدول أوروبا، وكانت نواته جماعة من المثقفين الذين تعلموا فى أوروبا، وأعجبوا بنظمها، وكان هؤلاء ينظرون إلى محمد عبده ورفاقه على أنهم رجعيون، ويختلفون معهم فى أن الإصلاح ينبغى أن يأتى بالتدريج ليستقر. فى المنفى

عندما اشتغلت الثورة العرابية سنة  1882 التفّ حولها كثير من الوطنيين، وانضم إليهم الكثير من الأعيان وعلماء الأزهر، وجموع الشعب وطوائفه المختلفة، وامتزجت مطالب جنود الجيش بمطالب كل هؤلاء، وانطلقت الصحف تثير الجموع، وكان «عبد الله النديم» من أكثر الخطباء تحريضًا. وبالرغم من أن «محمد عبده» لم يكن من المتحمسين للتغيير الثورى السريع فإنه انضم إلى المؤيدين للثورة، وأصبح واحدًا من قادتها وزعمائها، فتم القبض عليه، وأودع السجن ثلاثة أشهر، ثم حُكم عليه بالنفى لمدة ثلاث سنوات. 

 انتقل «محمد عبده» إلى «بيروت» سنة 1883 حيث أقام بها نحو عام، ثم سافر لأستاذه الأفغانى فى باريس حيث منفاه، واشتركا معًا فى إصدار مجلة «العروة الوثقى» التى صدرت من غرفة صغيرة متواضعة فوق سطح أحد منازل باريس ولكنها أزعجت الإنجليز، وأثارت مخاوف الفرنسيين، لأنها اتسمت بالقوة، والدعوة إلى مناهضة الاستعمار، والتحرر من الاحتلال الأجنبى بكل صوره وأشكاله. واستطاع الإنجليز إخماد صوتهم، وأغلقت جريدة «العروة الوثقى»، وابتعد عن أستاذه الذى رحل بدوره إلى «فارس». 

أخذ الإمام يشرح «نهج البلاغة» ومقامات «بديع الزمان الهمذانى»، وأخذ يدرّس تفسير القرآن فى بعض مساجد «بيروت»، ثم دُعى للتدريس فى «المدرسة السلطانية» ببيروت، فعمل على النهوض بها، وأصلح برامجها، فكان يدرّس التوحيد والمنطق والبلاغة والتاريخ والفقه، كما كتب فى جريدة «ثمرات الفنون» عددًا من المقالات تشبه مقالاته فى «الوقائع». وبالرغم من أن مدة نفيه التى حكم عليه بها كانت ثلاث سنوات فإنه ظل فى منفاه نحو ست سنين، فلم يكن يستطيع العودة إلى مصر بعد مشاركته فى الثورة على الخديو «توفيق»، واتهامه له بالخيانة والعمالة.

وبعد محاولات كثيرة لعدد من الساسة والزعماء، منهم: «سعد زغلول»، صدر العفو عنه، وأذن له بالعودة إلى مصر وكان كل شىء أصبح فى يد الإنجليز، وكان أهم أهداف الشيخ «محمد عبده» إصلاح فهم العقيدة، والعمل على إصلاح المؤسسات الإسلامية كالأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية.. فاتخذ «محمد عبده» قراره  بمسالمة الخديو حتى يتمكن من تنفيذ برنامجه الإصلاحى الذى يطمح إليه، والاستعانة بالإنجليز أنفسهم إذا اقتضى الأمر، فوضع تقريرًا بعد عودته حول الإصلاحات التى يراها ضرورية للنهوض بالتعليم، ورفعه إلى اللورد كرومر فقد كان هو القوة الفاعلة والحاكم الحقيقى لمصر.

 

 

 

وكان الشيخ «محمد عبده» يأمل أن يكون ناظرًا لدار العلوم أو أستاذًا فيها بعد عودته إلى مصر، ولكن الخديو والإنجليز كان لهما رأى آخر؛ وتم تعيينه قاضيًا أهليًا فى محكمةبنها، ثم الزقازيق، ثم عابدين، ثم عين مستشارًا فى محكمة الاستئناف سنة 1895. وبدأ يتعلم اللغة الفرنسية وهو قاضٍ فى «عابدين»-، فاطلع على القوانين الفرنسية وشروحها، وترجم كتابًا فى التربية من الفرنسية إلى العربية. 

 وعندما تُوفى الخديو «توفيق» سنة 1892  وتولى الخديو عباس، الذى كان متحمسًا فى مناهضة الاحتلال، سعى الشيخ «محمد عبده» إلى توثيق صلته به، واستطاع إقناعه بخطته الإصلاحية التى تقوم على إصلاح الأزهر والأوقاف والمحاكم الشرعية، وصدر قرار بتشكيل مجلس إدارة الأزهر بعضوية الشيخ محمد عبده عضوا فيه، وهكذا أتيحت الفرصة له لتحقيق حلمه بإصلاح الأزهر.

فى 1899صدر مرسوم وقعه الخديو عباس حلمى الثانى بتعيينه مفتيًا للبلاد، وكان منصب الإفتاء يضاف لمن يشغل منصب شيخ الجامع الأزهر، فكان «عبده» أول مفتى مستقل فى مصر..فاستحق لقب «الإمام».

ولكن علاقته بالخديو عباس كان يشوبها شىء من الفتور، الذى ظل يزداد على مر الأيام، خاصة بعدما اعترض على ما أراده الخديو من استبداله أرض من الأوقاف بأخرى له إلا إذا دفع الخديو للوقف عشرين ألفا فرقًا بين الصفقتين.

منهجه الإصلاحى

شغلت قضية التراجع الحضارى الإمام محمد عبده، وشعر بالحاجة إلى إعادة إحياء حضارة المجتمعات الإسلامية وإعلاء مكانة العقل، ووضع قانونًا «عندما يتعارض العقل مع النص يتم تأويل النص لصالح العقل، وخرج من عباءة أستاذه جمال الدين الأفغانى، واختلف معه، فكان «الأفغانى» يؤيد فكرة تقديم الدولة على الأمة، فيبدأ من الدولة ويرغم الأمة على الالتزام، لكن محمد عبده قدم الأمة على الدولة، فإصلاح عقول الناس وتعليمهم هو الأساس.

كان من المؤيدين لحركة «قاسم أمين» فى تحرير المرأة، وانضم للثورة العرابية، وتعلم فى النصف الثانى من حياته الفرنسية، واطلع على الفكر الأوروبى، فكان على اتصال بمعظم الكتاب الأوروبيين ومن أهم كتبه بحث فى علم الكلام يسمى «رسالةالتوحيد» والإسلام والرد على منتقديه.. والإسلام دين العلم والمدنية.

وفتاواه التى تعد فتحًا جديدًا لمعاصريه وهى أعظم إنجازاته أفتاها خلال الست سنوات التى تولى فيها مفتى الديار المصرية حتى وفاته عام 1905 وزادت على 950 فتوى وكانت بمثابة تلخيص لفكره ومنهجه، اختصت بالمعاملات المادية والحريات بما فيها حرية المرأة.

كما استطاع إصلاح المحاكم الدينية وساعدت قيادته فى الشئون العامة على تفسير الشريعة بما يتفق مع العصر  وعين عضوًا فى المجلس التشريعى الذى أنشىء سنة 1883 كهيئة صغيرة من ثلاثين عضوا مهمتها إبداء الرأى والمناقشة.

من أشهر الفتاوى للإمام تلك التى تخص تعدد الزوجات، فكان رده على المسألة أنها لم ترتبط بالإسلام فهناك من الأباوات فى الغرب من أباحه لبعض الملوك بعد دخول الدين المسيحى لأوروبا كشرلمان ملك فرنسا وكان ذلك بعد الإسلام وكان عند دخول الاسلام من يسلم وله عشر زوجات فهو نظام مرتبط بظروف وعوامل لاتقتصر على الشرقيين فشعوب التبت والمغول لا يوجد تعدد وهو نظام مرتبط بالحروب وزيادة أعداد النساء عن الرجال ويبين شرط تحقق العدل وهو مفقود حتمًا وفى التعدد ضررًا يقع بالزوجات ويورث العداوة بين الأولاد غير الأشقاء فللحاكم الحق بمنع التعدد ما لم تكن الزوجة عقيمًا وهو رأى يعد ثورة فى وقته من جميع الوجوه  فيقول بطريقة محددة، فتوى أخرى فى النقاب أن غطاء الوجه أو البرقع ليس من الإسلام وإنما عادة اجتماعية تتعارض مع الشريعة ويجب تغييره، ويقول أيضًا عن الأسرة والمرأة «إن الأمة تتكون من البيوت (العائلات) فصلاحها صلاحها، ومن لم يكن له بيت، لاتكون له أمة، والرجل والمرأة متماثلان فى الحقوق والأعمال والذات والشعور والعقل.. أما الرجال الذين يحاولون بظلم النساء أن يكونوا سادة فى بيوتهم فإنهم إنما يلدون عبيدًا لغيرهم».

الفتاوى«الترنسفالية»

هى عدة فتاوى لمسلمين فى جنوب أفريقياحول لبس القبعة وصلاة الشافعى وراء الحنفى وأكل ذبائح النصارى، واجتمع مع من يمثل المذاهب الأربعة من الشافعية والمالكية والحنابلة والحنفية ليفك الارتباط التام بالحنيفية وأحل كل ذلك…وحلل التصوير والنحت، وفتاواه فى فوائد الأموال فى مصلحة البريد.

فكانت آراؤه فى ذلك تمثل ثورة على المتعارف عليه بمقياس زمنه وتعرض لذلك لهجوم شديد فكان رده حادًا لمن أهانوه وقالوا «كشف الستار عن الشيخ الفشار»، وقال أيضًا «هو دين أردت إصلاحه أحاذر أن تقضى عليه العمائم»، واستوقفنا فى كتابه أصول الإسلام قوله «أن العيب ليس فى الدين ولكنه فى فهم المشايخ وقتها للدين الذين ينصبون أنفسهم أوصياء على الدين ولا يصح لأحد الاقتراب من فهمه، وأنهم أطلقوا على أنفسهم رجال دين والدين منهم براء».

فقد أٌطلق للعقل البشرى أن يرى فى سبيله الذى سّنتهُ له الفطرة دون تقييد, فهل يفهم ذلك من نصبوا أنفسهم لإصدار الأحكام الجائرة الصادرة بالتكفير! والتى تذكرنا بأحكام محاكم التفتيش (يقصد العصور الوسطى وسيطرة الكنيسة ومحاكم التفتيش).

ويضيف أن أكثر من ثلث آيات القرآن بل من نصفه تدعو للنظر فى آيات الكون وذكر العديد من الآيات التى تحث على إعمال العقل.. ويؤكد أن أول أساس وضع عليه الإسلام النظر العقلى وهو وسيلة الإيمان الصحيح وذكر دراسته للأصل الثاني: أنه إذا تعارض العقل والنقل أخذ بما دل عليه العقل.