الإثنين 29 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان

فى الجزء الأول من حواره لـ صباح الخير..

د. سعد الدين الهلالى: تجديد الخطاب الدينى يقوم على ثلاثة محاور أهمها إعادة قراءة النص.. وإخفاء بعض الأقوال الفقهية عن الناس «تدليس»

المسكوت عنه فى التراث الإسلامى



 

يعد الدكتور سعد الدين الهلالى، أستاذ الفقه المقارن بكلية الشريعة والقانون جامعة الأزهر، واحدًا من قلائل صنعوا حالة من الحراك الفكرى طوال السنوات الأخيرة؛ فقد آثر خلع جلباب الجمود- الذى انزوى تحته كُثر من أقرانه- مقررًا السير فى طريق تجديد الفكر الإسلامى رغم علمه بأن هذا الطريق ليس مُعبدًا بالورود، بل هو مفخخ بالأشواك والمتاعب والاتهامات أيضا، لينضم إلى قائمة الأزاهرة الثائرون على الرجعية والجمود المطالبون بضرورة إعمال العقل وتحريره من أسر الاتباع الأعمى.

الدكتور الهلالى، له آراء كثيرة أقل ما توصف به أنها جريئة، وسواء اتفق البعض مع هذه الآراء أو اختلفوا، إلا أن أحدًا لا يستطيع الإنكار أن حضور الرجل على الساحة الدينية حرك مياه الخطاب الدينى الراكدة منذ ما يزيد على الخمسة قرون.

وعلى هذه المساحة تستضيف «صباح الخير»، الدكتور سعد الدين الهلالى فى حوار فكرى يُنشر على أربعة أجزاء، فى مستهل سلسلة من الحوارات الفكرية التى نُجريها مع مسئولى المؤسسة الدينية والمنتمين إليها، إضافة إلى النخبة من المثقفين والمفكرين أصحاب الإسهامات فى حقل تجديد الخطاب الدينى.. وإلى نص الجزء الأول من الحوار:

 لنبدأ حوارنا من موضوع الساعة؛ ما هى رؤيتك لتجديد الخطاب الدينى؟

تجديد الخطاب الدينى يراه كل إنسان من منظوره، ولا بد أن يعرف الناس أن الدين له نصوص وحى مقدسة، ومرويات عن سيدنا رسول الله- صلى الله عليه وسلم- وهذه المرويات محل دراسة وفكر واجتهاد، وهناك شروح وتفسيرات لنصوص الوحى السماوى والأحاديث النبوية، وهناك أيضًا اجتهادات واستنباطات من ذلك كله.

أما النص المُوحى به من السماء (القرآن الكريم) فقد ثبت تواترًا عند المسلمين، وهو محل اجتهاد؛ لأن الله يأمرنا أن نتعقله ونجتهد فيه، امتثالًا لقوله تعالى: «إِنَّا أَنزَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَّعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ» (يوسف: 2)، وقوله جل وعلا: «أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا» (محمد: 24)، والآيات فى هذا السياق كثيرة وجميعها تؤكد أن القرآن الكريم نزل من أجل التدبر، والتفكر، والتعقل، وهو عمل بشرى لا يمكن أن يكون مساويًا للنص الإلهى، وتجديد هذا الفهم هو المطلوب خطابنا الدينى المعاصر.

 

 

 

ولذلك أقول للمسلم إذا قرأت القرآن وفهمت زاوية أعد القراءة مرة أخرى على ضوء تطور العلم الإنسانى المتمثل فى علم الفكر، والاجتماع، والطب، والفلك، والهندسة، والعلم الطبيعى... إلخ؛ فمن المحتمل بعد إعادة القراءة أن تصل إلى فهم آخر وتجد زاوية أخرى تليق بزمنك وحضارتك، ولا تتمسك بفهم السابقين وتعتبره «فهمًا مقدسًا» وتساوى بينه وبين النص السماوى، وهذا ما اسميه «تجديد فهم للنص» وهو المراد من تجديد الخطاب الدينى.

أما بالنسبة للشعائر وهى الصلاة والصوم والزكاة والحج، فالرسول - صلى الله عليه وسلم - قال: «خذوا عنى مناسككم»، والله أمرنا أن نطيعه جل وعلا، وأن نطيع رسوله: «وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ» (الحشر: 7)، ما أتاكم الرسول من وحى ومن شعائر، فالوحى نأخذه بنصه ولا نحرف فيه ولكن نفهمه بما يليق بالزمن الذى نعيش فيه، وأما الشعائر أو التعبدات فهى الثوابت التى نُقلت إلينا عن طريق الكافة وليس الخاصة فيما يُعرف بالتأريخ وهو إثبات قام به المسلمون وغيرهم، فقد عرف الناس جميعًا أن المسلمين منذ عهد الرسول - صلى الله عليه وسلم - يصلون ويصومون ويزكون ويحجون بالهيئة المعروفة حاليًا.

إذن مطلوب تجديد الخطاب الدينى عن طريق ثلاثة محاور، المحور الأول: إعادة قراءة النص وفهمه بما يليق بالعصر؛ فالذى يتكلم عن تفسير القرآن أو عن تأويل أحاديث سيدنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يجب أن يُعيد فهمه من جديد على ضوء معطيات عصره. المحور الثاني: يُشترط فيمن يتصدر للحديث فى الخطاب الدينى أن يتحلى بـ «الصدق» وذلك بذكر كل الأقوال التفسيرية والفقهية الواردة؛ فعندما نسأله عن تفسير آية لا يصح أن يذكر تفسيرًا واحدًا - وإلا ظلم الطالب - وإنما يذكر كافة التفاسير حتى يكون صادقًا، لكن كونه يُخفى ويستر تفاسير ويعلن التفسير الذى يريده هو فهذا «تدليس» وليس صدقًا.

أما المحور الثالث؛ فيُشترط فيمن يتصدر للحديث فى الخطاب الدينى أن يتحلى بـ«الأمانة»، وذلك بنسبة كل قولٍ لقائله وليس بنسبته إلى الدين أو إلى الله عز وجل؛ فالتفسير أو الفتوى الفقهية يجب أن تُنسب لصاحبها أو لمدرسته ولا تُنسب إلى الله عز وجل، وسأضرب مثالًا حتى يكون الأمر أكثر وضوحًا، فعندما أقول: «إن لعاب الكلب طاهر، وأن الكلب المحرم اقتناؤه هو الكلب العقور الضار الذى يؤذى، أما الذى لا يؤذى فاقتناؤه ليس مُحرمًا»، ليس من الأمانة أن أقول إن هذا رأى الشرع، أو أن انسب هذا لنفسى، فقد قال ذلك من قبل الإمام مالك فى أشهر قوليه، أما أن يتداوله من يتصدرون للخطاب الدينى اليوم وكأنه حكمٌ منسوب إلى قائله (الفقيه المعاصر) أو أنه حكمٌ منسوب إلى الدين، فهذه ليست أمانة، والله تعالى يقول: «وَلَا تَقُولُوا لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَٰذَا حَلَالٌ وَهَٰذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لَا يُفْلِحُونَ» (النحل: 116)، فلا تقول لى عن حكم فقهى إن الله قال هذا حرام، والمولى عز وجل لم يقل ولم يُحرم ولكنك أنت من اجتهدت ورأيت ما تذهب إليه.

الصدق والأمانة يُوجبان عليك أن تقول: إن هذا قول فقهاء الحنفية أو المالكية أو الشافعية أو الحنفية فى الجيل الفلانى - إن كان القول يُنسب إلى أحد منهم -، أو أن تقول: «أنا من أجتهدت وأراه حرام، وغيرى يراه حلال» - إن كان القول من اجتهادك -؛ فالشىء الواحد ممكن أن يراه البعض حرامًا ويراه غيرهم حلالًا، وهناك مئات الأحكام قائمة على ذلك منها على سبيل المثال: فوائد البنوك، التى قال عنها الشيخ جاد الحق، شيخ الأزهر الراحل: «حرام»، ثم جاء خلفه الدكتور محمد سيد طنطاوى وأفتى بأنها «حلال». وهناك أيضًا مسألة ختان الإناث، فحتى عام 2008 م جمهور الفقهاء كان لهم فيها ثلاثة أقوال: واجب، مستحب، ومكرمة، واعتبارًا من العام 2008 م وما تلاه ذهب الأزهر ودار الإفتاء إلى أن ختان الإناث حرام.

وهناك أيضًا حكم إخراج الزكاة فى مال الصغير والمجنون، فالإمام أبو حنيفة قال: لا زكاة عليه، وإذا قام الوصى بإخراج الزكاة «أثم»، لأنه ارتكب أمر حرام بتفريطه فى مال اليتيم والمجنون. ولو سألت الأئمة مالك والشافعى وأحمد، تجدهم يقولون: لو لم يقم الوصى بإخراج الزكاة عن مال الصغير والمجنون الذى يلى أمره «أثم»، لأنهم يرون أن الزكاة فى هذا المال إذا بلغ النصاب وحال عليه الحول واجبة. إذن نحن أمام رأيين متناقضين. وهكذا تجد تناقضًا فى عشرات بل مئات المسائل، ولو نسبت هذه الأقوال إلى الشرع لأظهرت الدين متناقضًا، لكنك لو نسبتها إلى الفقه فلن يكون هناك تناقضًا، لأن بعض الفقهاء يرون هذا، والبعض الآخر يرون ذلك، والاختيار فى النهاية للشعب.

 هل التجديد يعنى التخلص بالكلية من التراث أم أنه يقوم على تطوير الموروث بما يتناسب مع مقتضيات العصر الذى نحيا فيه؟

إلغاء التراث أو التخلص منه هو إلغاء وتخلص من التاريخ، ومن يتخلص من تراثه فهو بالتبعية يتخلص من تاريخه، ومن يتبنى هذا المطلب كأنه يقول: «أنا ما ليش تاريخ.. أنا مش موجود من قبل.. أنا ابن النهارده واللى فات مات»، وهو يشبه شخصًا يُريد التخلص من الآثار المصرية، فكلاهما يسعى إلى محو حضارته وماضيه، ولذلك من ينادى بالتخلص من التراث أو التاريخ نقول له: «إن غيرك يتفاخر بأن عمره أطول منك، ويجب أن تثبت وجودك عن طريق إظهار عمرك وتاريخك، ولن تتمكن من هذا بدون تراثك وتاريخك».

وهنا يجب إدراك شىء مهم وهو أن التراث الإسلامى عمره 1500 سنة وأنه علمٌ نبنى عليه، ولم يكن طوال هذه القرون الخمسة عشر طبقة واحدة وكرر، وإنما هو طبقات تعنى أنه متجدد ولم يكن جامدًا، ونستطيع التأكد من أن التجديد فى تراثنا قائم ومستمر بشكل طبيعى من خلال مراجعة ما كُتب فى سنة 200 هجرية وكيف أنه يختلف عما كان مدونًا فى السنة الأولى وما دُون فى السنة الثالثة الهجرية... وهكذا إلى يومنا هذا، وستستمر هذه العملية التجديدية فيما هو آتٍ.

تراثنا متجدد ومتطور تطور تراكمى، ومن يرى أن التجديد والتطور توقف، نقول له: هو توقف عندك أنت، لكنه لم يتوقف عند غيرك من الذين ما زالوا يؤلفون ويكتبون ويواصلون العملية التجديدية بشكل طبيعى، وإذا كنت لا تُريد أن تُفكر فغيرك يُفكر، والسابقون عندما وضعوا أطروحاتهم لم يقولوا: إن هذا دينكم، ولكنهم قالوا: «هذا فهمنا ومن حقكم السماح بفهم آخر»، ونحن أيضًا يجب أن نقول هذا فهمنا ومن حق الأجيال التى ستأتى من بعدنا أن يكون لها فهم آخر.

 

 

 

والتجديد هو الحرية الفكرية، والإقرار بأن السيادة للتوافق؛ فلو أن شخصًا طرح فكرًا وشخص آخر طرح فكرًا مغايرًا وغيرهما أتى بفهم ثالث بما يعنى أنه أصبح هناك تضاربًا واختلافًا فالسيادة هنا ليست للفتوى وإنما لما نتراضى عليه وهو ما يُعرف بالتوافق المجتمعى أو العقود البشرية لأن الدين أمرٌ شخصانى، وكما أن وظيفة الرسل والأنبياء البلاغ والتعليم، فكذلك وظيفة الشيوخ البلاغ والتعليم أيضًا.

 هل ترى ثمة إمكانية لعقلنة التراث من خلال ربطه بسياقاته الزمنية والظرفية واستخلاص طبعة مغايرة من الفكر الإسلامى يغلب فيها الإنسانى والمصالحى على التراثى والتاريخى، أم أن الظرف ما زال يعمل ضد هذا التمنى؟

عقلنة التراث أمرٌ واقع، ولا يملك مخلوق أن يقدمه على أنه كهنوتى أو مقدس؛ فكل التراث بلا استثناء نسبَ الرأى لقائله ولم ينسبه إلى الدين، وأتحدى أى شخص أن يأتى لى بقول واحد من كتب التراث منذ أول التدوين (كتاب الكسب لمحمد بن حسن الشيبانى، وكتاب الخراج لأبى يوسف) إلى يومنا هذا، نُسب فيه القول إلى الدين.

وكل الكتب التى يُنسب فيها الرأى إلى الدين وليس إلى الأشخاص هى من مؤلفات الإخوانجية أو السلفية الذين يقدموا أى رأى بجملة: «قال الشرع كذا.. والإسلام يرى كذا» وهؤلاء «أوصياء الدين» وهم قلة.

ونحن هنا نتحدث عن المؤلفات التراثية الحقيقية التى يُنسب فيها كل رأى لقائله وليس إلى الدين بما يؤكد أن كتب التراث عقلانية وفكرية وبشرية، وأن الذى قدسها هم هؤلاء الذين قولبوا الأمر فى التيارات والتنظيمات الدينية.

 

 

 

 هل نحن فى مصر نخطو خطوات جادة نحو تجديد حقيقى للخطاب الدينى؟

بدأنا ذلك مؤخرًا، وبالتحديد بعد ثورة 30 يونيو 2013 التصحيحية التى واجهت التيار والتنظيم الدينى الخادع والكاذب بعد أن أكتشف المصريون أنه يُقدم فقهه وفهمه المزيف على أنه الدين.

وقد بدأنا نخطو خطوات جادة فى طريق تجديد الخطاب الدينى بفضل حكمة القيادة السياسية القائمة حاليًا؛ فمصر لم يحكمها رئيسٌ بالجسارة والقوة والإرادة الصلبة والمواجهة الحقيقية مع النفس ومع الغير والإلمام الدقيق بواقع مصر وأهلها مثل الرئيس عبد الفتاح السيسى، فهو الرئيس الوحيد الذى تكلم فى مسألة الخطاب الدينى، والرؤساء السابقون كانوا يعلمون أهمية التجديد وحاجتنا إليه، لكنهم آثروا عدم الحديث فى هذه القضية خوفًا على شعبيتهم ولعلمهم أن الخوض فى هذا المجال يعنى القضاء عليهم.

والرئيس عبد الفتاح السيسى، هو الذى قدم الحق على وظيفته، وقال عدة مرات فى أكثر من مجال: «أنا إنسانيتى قبل وظيفتي»، وقال: «نصحت بالحفاظ على شعبيتى، ولكنى أرى أن الحق فوق شعبيتى، وأن مصلحة الوطن وكلمة الحق والعدل هى النبراس الذى أسير عليه»، ولهذا تكلم فى مسألة الخطاب الدينى بكل جرأة، رغم علمه أن الحديث فى هذا الشأن مليء بالأشواك والصعاب والعقبات، لكنه أراد أن يقول كلمة الحق المطلقة لوجه الله عز وجل.

ومن أهم ما قاله الرئيس فى معرض حديثه عن تجديد الخطاب الدينى: «إحنا بقالنا 500 سنة عايشين غلط»، وحين درست هذه القرون الخمسة التى أشار إليها الرئيس وجدت عدة أمور هامة، أولها: أنه كان يتم تطبيق فهوم أو فتاوى فقهية وينسبونها إلى الله عز وجل كذبًا وافتراءً؛ ففى تلك السنوات كانوا يضحكون ويدلسون على الناس ويقولون لهم إننا نطبق شرع الله، والحقيقة أنهم كانوا يطبقون أحد فهوم الفقهاء الذين كان الساسة فى وقتها يعتقدون بأن هذا الفهم هو مراد الله.

الأمر الثانى أن هذه الأقوال الفقهية تركت أقوالًا فقهية أخرى ربما تكون مصلحة الشعب فيها، فكانوا خلال تلك السنوات ينتقون رأيًا فقهيًا ويقدمونه على أنه شرع الله، وهذه هى الأكذوبة، كما أن هذه الإنتقائية تضر بالناس لأن هناك قول آخر من الممكن أن تكون فيه مصلحتهم.

ومن القضايا المهمة التى تحدث فيها الرئيس مؤخرًا كيفية رعاية الطفولة مع اختلاف الأبوين، وهذه الرعاية من مقاصد الدين المنوط بالدولة تحقيقها، خاصة أن مقاصد الأديان موحدة، بل هى محل إتفاق حتى عند اللادينين (الملاحدة)، فلا يوجد إنسان على وجه الأرض يختلف أن حماية النفس الإنسانية والعرض والسمعة والتاريخ والعقل وفكره وتطوره والمال وتنميته والدين الذى اختاره الإنسان مقصد، وكذلك المبادئ الأخرى مثل العدل والرحمة والمساواة ورعاية المرضى والأطفال باعتبارهم ضعفاء وحماية كبار السن الضعفاء والمرأة باعتبار تهميشها السابق وضعفها الجسدى وليس العقلى، هذه مقاصد لو سألت عنها أى إنسان من أصحاب الأديان أو غير المتدينين ستجدهم متفقين عليها، وما دامت محل اتفاق من الجميع فكان من الواجب أن تقوم بها الدولة.

لكن توحيد الأديان والفهوم فى دين وفهم واحد أمر يرجع إلى الله لا إلى البشر، ومن يدعوا إلى هذا الأمر يقف فى مواجهة إرادة الله التى حتمًا ستنتصر على إرادة البشر، وستبقى التعددية الدينية والفقهية وإن كره الكارهون، والله تعالى يقول: «سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنسَىٰ إِلا مَا شَاءَ اللَّهُ» (الأعلى: 6، 7)، ويقول أيضًا: «وَقَٰتِلُوهُمْ حَتَّىٰ لَا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَيَكُونَ ٱلدِّينُ كُلُّهُۥ لِلَّهِ» (الأنفال: 39)، إذن من يدعوا إلى توحيد الأديان فى دين واحد كاذب، ويربى منافقين يدخلون فى الدين على غير قناعة، ونفس الأمر لو ربيت أناسًا على مذهب ورأى واحد وتركت التعددية الفقهية فأنت تربى منافقين وتحرم العقل من أن يفهم ويقتنع.

الأديان والأحكام الفقهية والمذاهب المختلفة التابعة للدين باعتبارها متعددة تُترك حرية اختيارها للأفراد، بشرط أن كل فرد اختار دينًا أو رأيًا يكون هذا الاختيار لنفسه لا لغيره، لأنه لو حاول فرضه على غيره سيكون افتئاتًا، وهذا هو الفارق بين الفتوى للنفس وللغير، حين أفتى لنفسى فأنا أطبق قول النبى صلى الله عليه وسلم: «استفتى نفسك، استفتى قلبك»، و حين أفتى لك أكون مفتئتًا عليك، لأنى أتدخل فى شئونك الشخصية.

والدولة عندما تنتقل من مرحلة 500 سنة الماضية التى كانوا يضحكون فيها على الناس بالكيفية التى أشرت إليها فيما سبق، إلى مرحلة جديدة يُعلن فيها أن شرع الله ودينه أمر يخص كل إنسان وهو شأن بينه وبين ربه، وأن مهمة الدولة تحقيق مقاصد الأديان- التى هى محل اتفاق بين الجميع- وليس القيام بأحكام الأديان، وكذا اعتبار اختيار الدين وأحكامه أمرٌ متروك للأفراد وعلى مسئوليتهم، هذا الانتقال من الماضى إلى المرحلة الجديدة سيحتاج إلى سنوات طويلة.

 

 

 

 هل الهجوم على الأئمة ورموز الدين الإسلامى من التجديد، وما الذى سيستفيده العقل الجمعى من مهاجمة الأشخاص وترك الاشتباك مع الأفكار؟

الهجوم على الأشخاص ليس تجديدًا وهو أمرٌ مقيت واعتداء، ومن مقاصد الدين منع هذا الاعتداء مصداقًا لقول الله تعالى: «وَلَا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ» (البقرة: 190)، هذا أولًا. أما ثانيًا أنا لا أرى أى هجوم فى وقتنا الحالى على الأئمة، والذى أراه هو هجوم على الآراء المخالفة وليس الأشخاص، وتصدير المسألة على أنها هجوم على الأئمة هدفه التستر على الآراء التى لم تعد صالحة لزماننا ومن حق المجتمع أن يرفضها.

وأدعوا الجميع إلى عدم الشخصنة أو إعطاء الأئمة حقًا لا يُعطاه سائر أبناء الوطن، لأن الإمام ليس إلهًا، وسيدنا النبى صلى الله عليه وسلم قال فى خطبة الوداع: «ألا إن ربكم واحد وأباكم واحد، ألا لا فضل لعربى على أعجمى ولا لأعجمى على عربى ولا لأحمر على أسود ولا أسود على أحمر إلا بالتقوى»، فلماذا تُريدون تميز الأئمة أو حتى الأطباء أو المهندسين أو المحامين... إلخ عن غيرهم، كلنا بشر ولا يصح أن نُميز بين إنسان وآخر.

وماذا عن موجة الهجوم الأخيرة ضد الشيخ محمد متولى الشعراوى؟

أيضًا أنكر وجود أى هجوم على الشيخ الشعراوى، وما رأيته كان هجومًا على بعض آراء الشيخ الراحل، والكل بلا استثناء- حتى من يهاجمونه- يقرون بجلالة شخصية الشيخ، ويعترفون بعلمه وذكائه وموسوعيته وغيرته على إنسانيته وحبه للدين وأنه لم يكن جامدًا وإنما كان متطورًا فقهيًا وذكائيًا وفكريًا منذ عهد ما قبل ثورة 1952 وما تلاها من سنوات عاصر فيها كل الرؤساء، بما يعنى أنه خبرة، والكل يُجله كشخص ويرى أن لديه إستيعاب عقلى ليس عند آحاد الناس، ويُقر بنجاحه فى جمع المصريين على مائدة القرآن وحب كتاب الله وجذبهم بقدرته على ذكر لطائف وفهوم لغوية، وهذا شىء لم يفعله أحدٌ من قبله، ولا أعتقد أن أحدًا يختلف على ما ذكرته.

لكن أحكامًا ومسائل فردية قالها الشيخ فى ثنايا كلامه أثناء لقاءاته هى محل نقاش، ومن قبله الأئمة أبو حنيفة ومالك والشافعى وأحمد بن حنبل... وغيرهم، قالوا أقوالًا الناس الآن ترفضها؛ فعلى سبيل المثال الإمام الشافعى يرى أن البنت من الزنا لا تحرم على الزانى، ولو قلت بهذا الرأى الآن سيرفضه الناس، وهذا الرفض لا يعنى هجومًا على الشافعى الذى يُقر الجميع بأنه صاحب مدرسة باقية حتى يومنا هذا.

والإمام أبو حنيفة قال إن من ينظر إلى أم زوجته (حماته) نظرة شهوة أو يُقبلها تحرم عليه امْرَأَتُهُ، وهذا القول يناقشه الناس الآن ولا يسلمون به، وليس فى هذه المناقشة مساس بالإمام أبو حنيفة، وكذا الإمام مالك له قول يرى فيه أن أكل لحم الكلاب حلال، ولو قلت بهذا الرأى اليوم سيرفضه المجتمع وينقده، وليس فى هذا النقد مساس بالإمام مالك، وكل ما سبق يجعلنا نؤكد أن انتقاد القول والهجوم عليه ليس انتقادًا أو هجومًا على صاحبه، ونفس الأمر ينطبق على الشيخ الشعراوى الذى هو صاحب مدرسة تفسيرية باقية وخالدة بإذن الله، ولن يستطيع أحد المساس بها.

ودعنا من البعض، ولننظر إلى أكثرية المصريين - وأنا منهم - ستجدهم يُجلون الشيخ الشعراوى، ويقرون بجلالة منزلته وعظمته، وبقاء وخلود مدرسته التفسيرية إلى أبد الآبدين، وهو إمام من الأئمة الذين لن يُنسوا فى التاريخ، لأنه وضع بصمة بعلمه وذكائه واستيعابه وموسوعيته، والهجوم على الرأى لا يعتبر هجومًا على الإمام ولن يمسه، وماذا يُضير الجبل عندما تُلقى عليه حجرًا؟