الأربعاء 24 أبريل 2024
رئيس مجلس الإدارة
هبة صادق
رئيس التحرير
وليد طوغان
«أبــى الـــذى أكــــره»!

«أبــى الـــذى أكــــره»!

«أبى الذى أكره» جذبنى عنوان هذا الكتاب كثيرًا رغم قسوته، تصورت أن الكتاب بلا شك مترجم، فهو يحمل اسمًا لبعض أنماط الكتب الأجنبية التى تحمل أسماء غير معتادة وأنه سيكون على غرار كتب مثل (الأب الفقير والأب الغنى)، أو كتاب (كلمات تقتل أولادنا)، (فن اللامبالاة)، (خراب.. كتاب عن الأمل).



 

وقع نظرى على اسم الكاتب فكان عليه اسم الدكتور عماد رشاد عثمان، وهو طبيب بشرى متخصص فى أمراض المخ والأعصاب، وكان العنوان التابع للعنوان الرئيسى للكتاب شارحًا لماهية الكتاب – أو هكذا توقعت – فكان يحمل اسم: «تأملات حول التعافى من إساءات الأبوين وصدمات النشأة».

التعافى هو حلم لكثير من الناس، بعضهم يدركه والبعض يعيش الحياة تعيسًا وهو لا يعرف أن ما يعطله عن الحياة هى أن ندبات الألم والأوجاع لم تشف بعد. فيعيش بغصة لا يعرف مصدرها.

 

عماد رشاد عثمان
عماد رشاد عثمان

 

التعافى رحلة يحتاج الناس لمن يأخذ أيديهم ويعلمهم كيف يمرون بها ويجتازونها.

ذلك العنوان أيضًا أثار فضولى هل طبيب المخ والأعصاب جمع شهادات وقصصًا لمن تعرضوا للإساءة فى طفولتهم من أبويهم أم أنه يعرض طبيعة وتكوين المخ الذى عاش صدمات وتجارب معاناة مريرة فى حياته؟ كلها تساؤلات كانت كافية أن أشترى الكتاب وأغوص فى قراءته، ومنذ اللحظة الأولى التى اندمجت فيها فى قراءة هذا الكتاب الذى أعتبره وثيقة نفسية وإنسانية عظيمة وليس مجرد كتاب، كانت المرة الأولى التى أقرأ فيها للدكتور عماد رشاد عثمان الذى عرفت بعد ذلك أنه كاتب رواية اقتحام 2018 وبعدها كتاب «أحببت وغدًا» 2019.

وتابعته أكثر فوجدت أنه ليس مجرد طبيب ولا كاتب، بل هو مثقف ومفكر متميز، يتمتع بحضور وعلم ومعرفة جديرين بالانتباه للاستفادة من قيمتها، دراسته لم تكن للطب فحسب، بل للغة العربية التى يجيد أدواتها والتحدث بها مستخدمًا جملًا رشيقة، وواعية، وعميقة، وسليمة.

يعتبر الدكتور عماد رشاد أن كتاب «أبى الذى أكره» هو الكتاب الأحب والأقرب إلى قلبه، لقد استشعرت كلماته وهو يقول بعض الجمل الملخصة عن فكرة الكتب قائلًا: ما نريد أن نشعر به هو أننا جيدون بما يكفى ونستحق الحب، وهذا يتطلب أن نتحسس ندوب الإساءات القديمة التى نواريها، ولكنها ما زالت تؤثر على سلوكنا فتمنحنا الغربة والشك فى ذواتنا، تلك الإساءات بمثابة جراحات لم تأخذ حقها فى الالتئام فكتمنا آلامها وارتدينا قناع القوة مدعين أننا بخير.

هذا الكتاب الرائع هو تشريح دقيق وخاص جدًا لرحلة التعافى بمفهومها الواسع والعميق وليس مجرد إعطاء بعض العناوين الجذابة التى تقوم بدور المسكنات المؤقتة. هذا الكتاب يتحدث باستفاضة عن مسببات الجروح التى نشعر بها مثل الهجر ولماذا نشعر بالغضب فى طفولتنا وما هو مصدر الخزى الذى يتملكنا ولا نفهمه ولا نستطيع التعبير عنه، كتاب يغوص فى أشكال الإساءات التى نتعرض لها وتأثيرها فى اضطراب علاقاتنا بل وتشوهها أحيانًا كثيرة لدرجة تصل إلى «الفوبيا» من الحميمية وكيف نمارس على أنفسنا وعلى غيرنا الألاعيب النفسية التى يمارسها الآخرون علينا أيضًا فنقع فى فخ الإساءة، علاقات تقودنا إلى أن نلعب دور الضحية ونتلذذ به أحيانًا وما هو إلا وسيلة لرثاء الذات، كثير من الناس الذين يمارسون الحكم على الآخرين فيصبح نمطًا فى شخصياتهم وما هو إلا وجه آخر للخزى، ولكنه وجه خفى لا يعترفون به وربما لا يدرون به.

 

غلاف الكتاب
غلاف الكتاب

 

كتاب يفوق الثلاثمائة صفحة هدفه التعافى، التحرر وكما يقول دكتور عماد رشاد:

«إن ما نفعله بالبوح هو أن نحرر مشاعرنا العالقة، وأن نمنح ذلك الطفل المنتهك فينا فرصة لاستكمال نموه النفسى المتجمد فى تلك المحطة من النمو التى لم يبرحها».

أكثر ما جذبنى فى هذا الكتاب هى تلك المفاهيم التى تمنيت أن يعرفها كل إنسان أصابه الوجع أو نالت من نفسيته ومشاعره الصدمات التى مر بها فى حياته.

هو ذلك المفهوم العظيم عن التعافى، ماذا نعرف عنه، كيف نحققه، ما هى رحلته، كيف يصبح رحلة نمشيها وليس مجرد كلمة نتشدق بها وفق أفكارنا وقناعاتنا التى ربما تقودنا إلى نفق مظلم. 

 يقول الدكتور عماد رشاد عن التعافى: 

التعافى لا يتم فى عالم مغلق عليك، لا بد أن يعبر بالآخرين. فالتعافى لا يعمل فى الفراغ، إنما يعمل فى دوائر حياتنا، سواء كانت صداقات أو عملًا. التعافى يتم بالحياة والدراسة والأصحاب والدين والبنوة، والأخوة، والقرابة، والتزامل. 

يحذرنا الدكتور عماد رشاد من الوقوع فى فخ «العزلة» فالتعافى لا يتم فى العزلة، الفرق كبير بين العزلة وبين الخلوة. 

إذا ضبطت نفسك تميل إلى الكتمان والعزلة فأعلم أنه صوت مرضك، فعندما ندخل كهوفنا لا نسمع ولا صوت أدمغتنا وسيخنقنا غبار الوحدة فى ذلك الكهف.

التعافى لن ينمو ولن يتحقق بمجرد أن نقرأ كتبًا - حتى وإن كانت كتبًا محفزة على الحياة، فالحياة تعاش بالانخراط فيها وليس بالقراءة عنها.

البعض يتصور أن التعافى مجرد جلسات مع الطبيب النفسى فقط، أو الاستماع إلى محاضرات أو إبحار عبر عالم الإنترنت أو حتى استلهام قصص المتعافين من وراء الشاشات، كل هذه هى أمور مساعدة ورائعة، ولكن التعافى الحقيقى هو فى الالتحام وفى اصطدام النفس بالنفس، والانغماس فى التفاعل مع أمور الحياة ومع قصص الأشخاص. 

 

 

 

إذا أردنا أن نفهم ذواتنا ونتعافى مما يؤذيها فعلينا أن نعرف أن الذات ما هى إلا نتاج مجموعة من العلاقات، فالذات المنفصلة عن الآخرين هى ذات منقوصة ومعطلة، فكل ما يتعطل يضمر يذبل ويموت. 

فاجأتنى تلك المعلومة التى قرأتها فى كتاب «أبى الذى أكره» للدكتور عماد رشاد عثمان وهى أن العزلة هى شهوة نفسية، يمكن أن تتطور أكثر وأكثر. 

تعافوا بالحب وبالحياة وسط أناس يفهمونكم. 

فكما يقول جورج أورويل: «الراحة التى تجدها فى قراءة الأدب لا تأتى من كونك فهمت بقدر ما تأتى من كونك قد فُهِمت».

عيشوا وانفتحوا على الحياة لتفهموا أنفسكم وتجدوا من يفهمونكم، والطريق إلى ذلك هو يقيننا بأننا نستحق، نعم جميعًا نستحق الحياة بجودة وبصدق وبحب. 

عن التعافى يقول دكتور عماد رشاد عثمان: سلامًا لكل من تعافى 

سلامًاِ لكل روح جريحة تشافت

ولكل منتهكة.. تجاوزت

ولكل مسلوب.. استرد

ولكل متكتم.. قد باح

عن البوح فى رحلة التعافى لنا حديث.